وتنحى لي، فاجتزت العتبة بقدمين ثابتتين. وجدت نفسي في حجرة كبيرة مستطيلة تنتهي ببابين في الجدار المقابل، علقت بينهما صورة بالحجم الطبيعي لأبي في عز شبابه، وقد غطيت أرضها ببساط نفيس منمنم، وصفت على جانبها الكنبات، وأسدلت الستائر على نوافذها وأبوابها .. ورأيت أبي متربعا على كنبة تتوسط الجناح الأيسر للحجرة، وأدوات الشراب أمامه على منضدة أنيقة كأنها - لعدم انفصالها عنه - عضو من أعضائه. ولم يكن بمفرده، كان الحلاق على كثب منه يجمع أدواته في حقيبته، ثم حياه بأدب وذهب، وعلى أثر ذهابه تراجع عم آدم ورد الباب، واتجه بصري وأنا أقترب منه صوب القارورة فوجدتها لم تمس، وداخلني لذلك ارتياح وأمل. ومددت له يدي فتناولها بكفه الغليظة، وجرت على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول: أهلا بك، أأنت في إجازة؟
لم أرتح إلى استقباله، ولكني غضضت عن ذلك، والحق أن آلام الليلة الماضية، والصداع الناشب في رأسي، ويأسي المرير، تغلبت على ما طبعت عليه من خجل وخوف وتخاذل، فقلت: نعم في إجازة خاصة كي أقابلك في الحال.
فرمقني بنظرة لم يحاول إخفاء ما لاح فيها من قلق؛ مما أثار حنقي وغيظي، وتساءل باقتضاب: أمر هام؟!
تناسيت كل شيء إلا ألمي المبرح وأملي الباقي، فقلت بانفعال نمت عنه نبرات صوتي: هام جدا، أو بالأحرى هو حياتي ومستقبلي.
فردد قولي دون أن يخرج من جموده وذهوله الذي استحال طبيعة أخرى له: حياتك ومستقبلك!
فقلت برجاء وإشفاق: زواجي الذي حدثتك عنه! إن رجلا يوشك أن يطلب يد الفتاة التي أريد أن أتزوجها، فإذا لم أتقدم في التو والساعة أفلتت الفرصة من يدي، وضاعت حياتي!
أتراه قاذفي بإجابة ساخرة كعادته؟! وانقبض قلبي في فزع؛ ولكنه لم يكن هاذيا ولا معربدا، ومع ذلك بدا جامدا سقيما ذاهلا، بل ميتا. كان كل شيء يسوغ لي اليأس، بيد أني أبيت أن أيئس، وثبت ذهني المكدود على فكرة واحدة عميت عما عداها في السباق الجنوني الذي أكابده. انتظرت على جزع حتى قال: اطمئن، فإن حياة الإنسان لا تضيع لضياع امرأة.
فهتفت بحرارة: إني أعلم الناس بحياتي!
فقال بعدم اكتراث: أنت وشأنك يا بني .. لن أتدخل فيما لا يعنيني!
فقلت بعناد: إني في حاجة قصوى إلى المال، سبق أن أخبرت حضرتك بذلك.
Página desconocida