ثم ندمت على إفلات هذا السلام مني في اللحظة التالية، وغادرت المكان لا ألوي على شيء، ثم خلصت إلى الطريق محطم النفس والقلب والأمل، وقطعت الطريق إلى المحطة وأنا أسب وألعن وأتميز غيظا وحنقا: «لم أحتمله أكثر من ليلة واحدة!»
رباه! .. لو أن ألف صفعة ألهبت قفاي في ميدان عمومي لما آذتني كما آذتني تلك العبارة! وبلغ مني التأثر مداه فازدحمت الدموع بعيني، واستسلمت للبكاء مستخفيا بالظلمة التي تغشى الكون. ليس ثمة فائدة ترجى منه .. موته وحده بيده أن يغير وجه حياتي! أجل لا أمل البتة إلا في موته. واستقللت الترام وشرودي المعهود ينفس عن كربي بأحلامه التائهة. فرأيت نفسي جالسا مع مدحت وشقيقتي راضية نتقاسم ميراث أبي بعد وفاته! واقترحت عليهما أن نبيع البيت الكبير فوافقاني في الحال، وأصبحت في غمضة عين مالكا لألف جنيه! ولم يكن في الحلم أثر لأمي! فقابلت والد حبيبتي وفاتحته بشجاعة عن رغبتي في مصاهرته، وتم كل شيء دون عراقيل! وشعرت بارتياح خفف من توتر أعصابي الذي أورثتنيه تلك الزيارة المخيفة الفاشلة؛ بيد أني تذكرت بسرعة كيف أن الحلم لم يجعل لأمي وجودا، وسرت في بدني رعدة خوف وتقزز، وتقلص قلبي امتعاضا وندما، كيف سمحت لهذا الخاطر الشيطاني بأن يلوث نفسي مرة ثانية؟! ولازمني الامتعاض والغضب طوال الطريق، وجعلت أردد في نفسي: «اللهم بارك لي في عمرها!» ولم يغن عني ذلك شيئا فعدت إلى البيت موزع النفس، مشتت البال، ولم يرتح لي جانب حتى طبعت على جبينها قبلة طويلة حارة.
28
وفي عصر اليوم التالي ذهبت إلى محطة الترام لأفوز بدقائق السعادة التي لا يجود اليوم إلا بها. لم يعد لقاء الصباح بالمتاح إلا فيما ندر، وذلك منذ غدت حبيبتي جالسة في الشرفة تحادث شقيقتها، فوقفت متطلعا، منتظرا زادي من نظرة عينيها الذي يمدني بماء الحياة. وانعطف الرأس المحبوب نحوي، ولكنه ما كاد يراني حتى تحول عني فيما يشبه الحدة، ثم نهضت قائمة وغادرت الشرفة. خفضت بصري ذاهلا وقد خبا حماسي وفتر. ما الذي أغضبها؟ ألم تحتمل جمودي؟ هل يقضى علي بالحرمان من نظراتها الحلوة؟ هل قررت أن تقابل جمودي بالإعراض والتجاهل؟ وتولاني الحزن والقنوط والخجل. كان موقفي مخجلا بلا ريب، ثم خطر لي خاطر بردت له أطرافي، وتساءلت في خوف: أيكون لأحد الرجلين اللذين ينافساني في الإعجاب بها شأن بهذا التحول الجديد؟ لئن صح هذا، فماذا يبقى لي في الحياة؟! خبريني يا حبيبتي بحق شبابك الريان، أهي جفوة عطف خانه الصبر، أم إعراض قلب ظفر بمبتغاه في ناحية أخرى؟ لن أنسى بؤس ذلك اليوم، ولا الأيام التي تلته. اختفت حبيبتي من أفق حياتي، وتحامت الظهور بالشرفة حين أكون في المحطة، وفي مرات التلاقي النادرة في الصباح حرصت ألا يقع بصرها علي. رحت آكل الشرفة والنافذة بعينين جائعتين أضناهما التطلع. وكنت أرى الأم أحيانا وهي ترمقني بنظراتها المتفحصة، والأخ وهو يلقي علي نظرة غريبة، والشقيقة الصغرى وهي ترميني بنظرة اهتمام، أما حبيبتي فقد توارت تاركة وراءها شجرة الحياة عارية، قشورا صفراء وعروقا ذابلة. رباه! ليس هذا بعدم اكتراث، لو كان عدم اكتراث حقا لما أوجب هذا الحذر كله، ولوقع علي بصرها كما يقع اتفاقا على المخلوقات والأشياء بالطريق. إنها تتجنبني عامدة قاصدة، إنها غضبى برمة، ولا شك أن قصة الفتى الذي يبدو محبا قد ملأت البيت، ولا شك أن جموده الغريب كان موضع تعليق ونقد واستفهام! كيف فاتني أن أقدر حرج حبيبتي وحيرتها؟ وتنهدت من الأعماق، وتندى جبيني خجلا، وامتلأت سخطا على حظي التعس، وامتدت ألسنة سخطي إلى أمي المتوارية وراء كل شيء! وانطويت على كدر كأنما سفت ريح الخمسين غبارها على نفسي، فلم أجد إلا ذاتي هدفا لسخطي وكدري وغضبي، وهي عادة قديمة لي إذا ضاقت بي الدنيا أن أوسع نفسي نقدا وهجاء وكشفا عن عيوبها ومناقصها، فعدت إلى التنديد بعجزي المطلق، وخوفي الشامل من الدنيا والناس وكافة المخلوقات الأخرى، وذلك الكبرياء الكاذب الذي يجعلني أصول وأجول في البيت بلا داع حتى إذا اصطدم بأحقر موظف في الدولة انقلب ذلا وخنوعا، استسلمت لذاك التفكير الحزين طويلا حتى بدت لي نفسي قطعة من البشاعة والهوان، إني شخص لا يستحق أن يعيش. إن أتفه الأعمال يملؤني ذعرا وجفولا، حتى تمنيت أن يكون لزيادة الماهية طريق غير الترقية، كي لا أجد نفسي أبدا مسئولا عن عمل كبير، ولن أنسى أنني بذلت قصارى جهدي حتى وكلوا بي في إدارة المخازن الآلة الكاتبة تفاديا لأعمال حقيرة لا تعدو الضرب والجمع والطرح، لست إلا مخلوقا غريبا شذ على قافلة الحياة الحقة، ومن آي ذلك أني لا أحفل بشيء في الدنيا إلا نفسي وما يتصل بها من قريب، ومن آي ذلك أيضا أني لا أقرأ الجرائد على الإطلاق ! ولشد ما كانت دهشة زملائي من الموظفين عظيمة حين تبين لهم اتفاقا أني أجهل اسم رئيس الوزارة وقتذاك بعد أن مضت أشهر على توليه الحكم، وراحوا يتندرون بجهلي كثيرا وأنا صامت كظيم، وكأني لست من هذا المجتمع، فلا أدري شيئا عن آماله وآلامه، قادته وزعمائه، أحزابه وهيئاته، ولكم طرقت أذني أحاديث الموظفين عن الأزمة الاقتصادية وهبوط أسعار القطن وتغيير الدستور، فلم أكن أفقه لها معنى أو أجد لها في نفسي صدى، لا وطن لي ولا مجتمع، لا لأني أسبق الوطنية ولكن لأني لم أدركها بعد! ولعلي أشعر أحيانا بأني أحب الناس جميعا، الناس كشيء معنوي عام، ولكن ما كان أحد من هؤلاء الناس - إذا اتصلت أسبابه بأسبابي - إلا ليثير في نفسي الجفاء والنفور. وحتى إيماني العميق لم يستطع أن يستنقذني من هذه الوحشية المخيفة، فضلا عن أنه أثقل ضميري بالقلق والتأنيب، وأوسعني إحساسا حادا بالخطيئة من جراء العادة المجنونة التي استبدت بي!
لذلك كان إذا جاء يوم الأحلام انطلقت إلى حانتي الجديدة بسوق الخضر لا ألوي على شيء، وطلبت الدورق الجهنمي الذي لم يعد لي عزاء سواه!
29
كنت واقفا في المحطة قبيل المغرب، لم آل أن أتطلع إلى الشرفة والنافذة، ولكن حبيبتي لم ترق لي منذ جفتني، قاطعتني مقاطعة قاسية، وأضنت حياتي كمدا، وكان الشتاء في إبانه، وفي السماء سحاب جون انعكس ظله الثقيل على الأرض، وهبت ريح باردة، وقفت ملتفا في معطفي الأسود، أرفع للبيت المحبوب من آن لآخر بصرا مشوقا يائسا، وعلى حين فجأة سمعت صوتا رقيقا يقول: من فضلك يا أستاذ ...
فالتفت ورائي بدهشة، ولكن دهشتي تضاعفت ومازجها خوف كثير حين رأيت أمامي أحد الرجلين اللذين اتهمتهما بحب حبيبتي، ذلك الرجل الوقور الذي يقطن في عمارتها وغمغمت بارتباك: أفندم؟
فقال بصوته الهادئ الرقيق، وبلهجة تنم على الوقار: تسمح نمشي قليلا معا!
فتساءلت بحيرة وإن حدس قلبي الخبر: لماذا؟
Página desconocida