وكان يوم غريب في حياتي ...
وبدأت الصباح بوقفة الهيام وتطلع العشق، ثم ذهبت إلى الوزارة تتنازعني أحاسيس السعادة والشقاء شأني كل صباح، وراح الموظفون يستقبلون اليوم كعادتهم بالثرثرة، فقال أحدهم وكان يليني في مجلسه: سكرت أمس حتى تأرجحت بي الكرة الأرضية.
وثار اهتمامي فجأة وحضرني أبي بصورته وذكرياته ... ترك في قوله أثرا لم يدركه أحد ممن يجلسون حولي، ولا عجب فالخمر كتبت تاريخ أسرتنا وقررت مصائرها، والتفت نحو الموظف وند عني هذا السؤال همسا بلا وعي تقريبا : لماذا تشرب حضرتك الخمر؟
ثم أدركت في التو تسرعي وخطئي؛ فعلاني الارتباك والحياء. ولم أكن خاطبت أحدا في الإدارة منذ التحاقي بالخدمة في غير شئون العمل حتى أطلقوا علي «غاندي» لما عرف عن الزعيم من أنه ينذر يوما في الأسبوع للصمت. وفرح الرجل بتطفلي عليه وقال بصوت مرتفع وهو يومئ إلي: أخيرا تكلم!
وسأله أحدهم وهم يصوبون أنظارهم نحوي: من؟ - غاندي. - وماذا قال؟
فقال الرجل ضاحكا: يسألني لماذا أشرب الخمر؟!
فقال آخر: سكت دهرا ونطق كفرا!
وقهقهوا ضاحكين، بينا ذبت في مقعدي صامتا، وراح أكثرهم يحدثني عن الخمر والنشوة واللذة والنسيان. ندمت على ما بدر مني مما وضعني موضع سخرية ومزاح، وتفكرت في الأمر طويلا، ثم أفقت إلى نفسي فوجدتها - لدهشتي - تتلهف على تجربة الخمر! ولشد ما عجبت فيما أعقب ذلك من أيام لتلك اللهفة الغريبة بعد ستة وعشرين عاما، قطعتها فيما يشبه النسك إذا استثنيت اللذة السرية التي جرعتني مرارة الذنب والندم، هل نشبت تلك الرغبة في نفسي فجأة؟ إن ظاهر الأمر يدل على أن ذاك الحديث الذي دار بين الموظفين كان الباعث على تلك اللهفة، ولكن هل يعقل أن يهوي إنسان مستقيم مثلي لعارض تافه كذاك العارض؟! لقد ركبني جنون، فتمنيت أن ينقضي النهار سريعا لأقرع باب اللذات الموصد، ولأحطم الأغلال التي أذعنت لها طوال عمري، وقلت لنفسي وكأن الذي يتحدث شخص غريب: «سأجرب الليلة الخمر والنساء!» وأراحني التصميم لأنه خير من القلق والتردد، ولأني منيت نفسي بأن أجد وراءه متنفسا للضغط الشديد الذي يئودني، ولم أعرف التردد - ذلك الرفيق البغيض - طوال يومي، فعند الأصيل كان الترام يحملني إلى العتبة، ووقفت في الميدان حائرا لا أدري أين توجد الحانات! ثم رأيت عربة فناديت الحوذي وركبت، ثم قلت له بصوت منخفض في حياء شديد: حانة .. أية حانة من فضلك!
فحدجني الرجل بنظرة غريبة، ثم قال وهو يلهب ظهر الجوادين بسوطه: سأذهب إلى شارع ألفي بك، وهناك تختار الحانة التي تعجبك.
وانطلقت العربة فذكرتني بالحنطور القديم وأيامه الخوالي. وكان بحافظتي عشرون جنيها غير «الفكة» لأن مرتبي وإن كان صغيرا في ذاته إلا أنه كان يترك لي كله، فكفاني وزاد عن كفايتي. ولما شعرت بأن العربة تقترب من الهدف الذي تلهفت عليه اليوم كله، دق قلبي بعنف واعتراني اضطراب شغلني عن رؤية الشوارع التي تخترقها العربة. ووقفت العربة عند رأس طريق طويل يتوسطه صف طويل من السيارات والعربات، وقال الحوذي وهو يلوح بسوطه: إليك الحانات على الجانبين!
Página desconocida