فحملقت في وجهه بارتباك وفزع حتى نسيت أن أنهض قائما فزعق بي: تفضل بالوقوف لترد على خادم أبيك!
ونهضت فزعا، ولبثت متصلبا دون أن أحر جوابا، فلطمني على خدي وصاح بي: تحد شمالا بماذا؟
ولما لم أخرج عن صمتي لطمني على خدي الآخر وسألني: لندع مؤقتا ما يحدها شمالا، فما هي التي أسأل عما يحدها شمالا؟
ولازمت الصمت وخداي يلتهبان، فانهال علي لطمة يمينا ولطمة شمالا وأنا لا أجرؤ على تغطية وجهي بيدي، حتى انفثأ غضبه فأمرني بالجلوس، وضج جانب من الفصل بالضحك، وجلست أغالب دموعي. انقلبت مرة أخرى إلى أذى المدرسين وسخرية التلاميذ. ومضيت أجتر آلامي في صمت واليأس يفتك بنفسي فتكا ذريعا. خبا الأمل وانتهت المحاولة الجديدة بالإخفاق السريع، وعدت إلى تعاستي المعهودة. وعلى رغم ذلك تعلقت بخيط واه، فكرست كل وقتي للمذاكرة .. عكفت على كتبي ساعات متواصلة، ولكنه كان مجهودا ضائعا إلا أقله، والحق أني كنت أثبت عيني على الصفحات، على حين يتطاير خيالي في وديان الأحلام، فلا أستطيع لمه. وهي أحلام تحركها الشهوة وتعبث بها الخادمات القذرات، ثم تنتهي بالعادة الجهنمية التي أدمنت عليها مذ ناهزت الحلم، فلا تفوت ليلة إلا وأنصهر في أتونها في لذة مفتعلة وندم موجع طويل.
ولم أقف من رغبتي في صداقة الرفاق موقف الجمود المطلق، ولكن أخفقت في مسعاي إخفاقا كاملا. كان يقابل تلك الرغبة في نفسي ميل أصيل للوحدة، ونفور وخوف من الناس، وانطواء على النفس دفعني إلى الكتمان الشديد، فلا أحب أن يقف إنسان على سري ولا حتى مسكني أو عمري، هذا إلى عجز عن الحديث، وعدم فهم للنكتة فضلا عن تأليفها، فلم يجد في أحد من التلاميذ ميزة تجذبه إلي، عادوا يرمونني بثقل الدم. أخفقت في اكتساب صديق، وعشت العمر بلا صديق. بيد أني لم أكن أدرك حقيقة نفسي، فاتهمت الرفاق دون نفسي بالعيوب التي حرمتني الصداقة، واعتقدت زمنا أنه لا صديق لي؛ لأنه لا يوجد من هو أهل لصداقتي! ما أعجب غرور الإنسان! إن السماء والأرض لا تسعانه. وعلى عجزي ونقائصي كان يخيل إلي أحيانا أني الكمال المطلق، فهذا الحياء القاتل أدب، وهذا الإخفاق في الدراسة عبقرية بطيئة النمو، وذاك الفقر المدقع في الصداقة والحب تسام، وأمدني علم النفس - الذي درس لنا عاما في السنة الخامسة - بألفاظ غامضة انتفعت بها في إرضاء غروري الكاذب. ومع ذلك كانت تثقل علي ساعات يأس فأكاد أستشف الحقيقة، وقد قلت لأمي يوما، وهي الحبيب والصديق والأنيس الذي لم أظفر بسواه: لا صديق لي، التلاميذ يزدرونني!
فتولاها الغضب، وهتفت بي: إن نعلك بألف رأس من هؤلاء التلاميذ، إنهم لا يحبون من لا يجاريهم في شطارتهم وسوء خلقهم، ويحسدونك لحيائك وأدبك. لا تحزن فلا فضيلة وراء البعد عن الناس.
فقلت محزونا: أشعر أحيانا بأني وحيد فتثقل الوحدة علي.
وهالها قولي ورمقتني بإنكار، وقالت: وأين أمك؟ .. كيف تقول هذا وأمك على قيد الحياة؟ ألست أكرس حياتي لخدمتك ورعايتك؟!
أجل، إنها تكرس حياتها لي، وإنها كل شيء في حياتي، ولكن من لي خارج بيتنا؟!
واطردت حياتي المدرسية في تعثر وتثاقل على رغم كونها تتوكأ على عكاز من المدرسين الخصوصيين.
Página desconocida