فخرج جدي عن طوره وصاح به مغضبا: لقد أعياني إصلاحك فيما مضى، ومن الحمق أن أحاول ذلك الآن .. لقد ربيته حتى صار رجلا دون أن يكلفك مليما واحدا!
فصفق أبي ساخرا وقال وقد أخذ صوته يعلو: آه من مكر الرجال! بالأمس جئتني سائلا أن أترك الغلام لكم، واليوم تمن علي أن ربيته حتى صار رجلا!
مرحى .. مرحى، هلا تذكرت اتفاقنا السابق؟
فاشتد حنق جدي وقال بصوت وشت نبراته بانفعاله وتأثره: أي اتفاق يا هذا؟ .. نحن لا نتحدث عن صفقة تجارية، ولكن عن ابنك، فأين الأبوة والعطف؟!
فقال أبي بتهكم وازدراء: الأبوة؟ .. العطف؟ .. يا لها من سجايا كريمة بيد أن المال يفسدها! يا عبد الله بك لندع الهذر جانبا، فإنه لا يجمل برجل عسكري مثلك خاض حروب السودان! وإنك لتعرفني حق المعرفة، فكيف زينت لك نفسك أن تقصدني بهذا الرجاء الخائب؟! تفكر في الأمر مليا، فإما تكفلت «به» كما اتفقنا، أو اتركه لي إذا شئت.
ونظرت إلى جدي فوجدت وجهه ملتهبا بحمرة الغضب، وتوقعت أن ينفجر في الآخر، ولكنه ضبط نفسه بجهد كبير، وقال بهدوء: لولا واجبي نحو ابنك لاستكرهت أن أقف منك موقفي هذا، ولست أستجديك شيئا لنفسي، ولكني أريد أن أطمئن على مستقبل الفتى، خصوصا وأني رجل طاعن في السن وقد أموت غدا.
فقال أبي ضجرا: إذا مت غدا تكفلت به.
فقطب جدي مستاء، وهالني تعبير أبي القاسي فكرهته في تلك اللحظة ضعف ما كرهته طول حياتي، وكأنما نفد صبر جدي فنهض قائما مكفهر الوجه، ونهضت معه كأنني مشدود إليه. وألقى إلي أبي نظرة متعالية في ترفع وغطرسة، وقال: لا أستطيع أن أقول إنك خيبت ظني؛ لأني لم أحسن بك الظن قط، ولكنها أخطاء نرتكبها كارهين ونحن أدرى بعواقبها .. أستودعك الله.
وأخذ بيدي ومضى بي فغادرنا السلاملك، وأبي يقول متهكما: مع السلامة يا عبد الله بك.
هكذا كان أول لقاء بيني وبين أبي. وقد خرجت منه وبنفسي من النفور ما لا قبل لي به. وما كدت أجتاز باب البيت إلى الطريق حتى تنهدت ارتياحا، ودعوت الله بقلبي ألا يقضي علي يوما بأن أطرق هذا الباب أبدا. وسرنا نحو ميدان الحلمية، وجعل جدي يحث خطاه منكس الذقن، محمر الوجه، وهو يغمغم بكلام غير مميز ولا مفهوم، وجعلت أسترق إليه النظر محزونا أسيفا، وخائفا في الوقت نفسه لشعوري بثقل مسئوليتي فيما أدى إلى الخصام. ثم أخذ صوته يتضح رويدا فسمعته يقول وكأنه يحدث نفسه: «حيوان أعجم، لماذا يرزق الله أمثاله أطفالا؟ لماذا لم يعاقبه بالعقم؟!» ويقول أيضا: «يا لك من وغد! أليس بقلبك ذرة من عاطفة الأبوة؟ إنك لم تتركه لنا استجابة لرجائنا، ولكنك بعته بنفقاته.»
Página desconocida