وطالما ساءلت نفسي عما أنقذني من الموت ذاك الصباح؟ فقال قلبي: إنه الخوف! وقال لساني: إنه الله الغفور الرحيم.
ولا شك أني بالغت فيما يتعلق بدوافعي نحو الانتحار؛ لأني حصلت على الابتدائية في ختام العام.
12
فقدت أسرتنا الصغيرة مظهرا من أجمل مظاهرها، فاختفت من أفقها العربة والجوادان والحوذي العجوز. باع جدي العربة والجوادين واستغنى عن الحوذي. وعلمت مما تسقطته من الحديث أنه خسر ليلة في النادي خسارة جاوزت المعهود، فاضطر إلى اقتراض ما يساوي معاشه من النقود. ولما كان رجلا مطبوعا على النظام فقد آثر أن يبيع العربة والجوادين على أن يربك ميزانيته. لشد ما أحزننا بيع العربة، وضياع الجوادين، ووداع عم كريم الحوذي العجوز الذي قضى عمره في خدمة جدي حتى فقد فيها أسنانه! ولقد بكيت الجميع بكاء مرا دون أن أنبس بكلمة، وكان جدي يعيش في نادي القمار أكثر مما يعيش بيننا، ولم تكن له من سلوى أو فرجة سواه، وخاصة عقب تركه الخدمة. ولم يكن يحاول إخفاء سيرته بما جبل عليه من صراحة وميل للمرح، فكثيرا ما كان يقص على أمي طرفا مما يصادفه في سهراته، فيقول هازا رأسه الأشيب: «بالأمس لازمني سوء الحظ طوال الليل حتى قبيل الختام بقليل، فعوضت خسارتي جميعا بضربتين موفقتين.» أو يقول: «يا للطمع الأشعبي! أضاع علي بمقامرة واحدة في أخريات الليل عشرين جنيها ربحتها بشق النفس!» ولكنه كان بوجه عام مقامرا عاقلا، إن جاز لي أن أقول ذلك، تستأثر به لذة المقامر الجنونية دون أن تنسيه طاقة ميزانيته وواجباته كرب لأسرتنا، ولا أشك في أن أمر مستقبلي قد شغله كثيرا، لا لذاتي فحسب - وإن غمرني دائما بحبه ورعايته - ولكن لارتباط مصير أمي بمصيري. ثم كان ما كان من تعثر حياتي المدرسية فأخذت الابتدائية في السابعة عشرة، وقد اقترب هو من حدود السبعين، وأخذ القلق يساوره كثيرا وهو أعلم بما جمع من ثروة لا تكاد تذكر. على أنه كان يتغلب دائما على قلقه بما طبع عليه من ميل للتفاؤل، مرده في الغالب إلى ما وهبه الله من صحة حسنة لم تزايله رغم طعونه في السن؛ إلا أن خسارته الأخيرة ذكرته بقلقه ومخاوفه ودفعته إلى أن يعالجها بالحيطة والحرص، فقال يوما لأمي بعد تردد غير قليل وكانا يتحدثان عن مستقبلي: أرى أنه لا يجوز أن يجهل كامل أباه هذا الجهل المطلق.
فامتقع وجهها ورمقته باستنكار وتساءلت: ماذا تعني يا أبتاه؟
فقال جدي بغير مبالاة: أعني أنه يجب أن يتعرف إليه، هذا أمر ضروري وإلا بدا في أعين الناس وكأن لا أب له!
فقالت أمي بصوت متهدج: هذا أب الجهل به أشرف.
فلاح في وجه جدي الضيق وقال بحزم: كأنك تخافين أن يسترده إذا رآه، فيا له من وهم لا يدور إلا في رأسك! وإني لعلى ثقة من أنه سر سرورا كبيرا حين هيأت له الأقدار من يربي ابنه عنه. ولكني أرى الآن أنه ينبغي أن يتعرف كامل إلى أبيه. وقد صممت على أن أذهب به إليه، فمن يدري أنه لا يحتاج إليه غدا؟ هل ضمنت أن أبقى له إلى الأبد؟ ولا تنسي أن كامل وشيك الالتحاق بالمدارس الثانوية، وربما أقنعت أباه بمعاونتي في تعليمه.
ولا شك أن أمي كانت تتحفز للمعارضة، فلما سمعت الشطر الأخير من كلامه فتر تحفزها وبدا الحزن في عينيها، ولم تنبس بكلمة، ولما غادرنا جدي اغرورقت عيناها بالدموع، فاقتربت منها متأثرا محزونا وجففت عينيها، وقلت لها: لا شيء يستدعي البكاء يا أماه.
فابتسمت إلي ابتسامة باهتة وقالت بحزن: لا شيء حقا؛ ولكني أبكي الأيام الماضية يا كامل .. أبكي الطمأنينة المطلقة التي استنمت إليها طويلا .. كانت الحياة رغيدة طيبة لا يكدرها علينا مكدر؛ اليوم يتحدث جدك عن الغد، وهو إذ يتحدث عنه يملؤني خوفا وقلقا .. لندع الله معا ألا يشتت شملنا، وأن يطيل لنا في عمر جدك، ويغنينا عن الناس.
Página desconocida