وقهقهت ضاحكا، ولكنها ابتسمت ابتسامة باهتة على غير ما انتظرت، وجلست على كرسيها يلوح في عينيها السهوم والتفكير، وساورني القلق، فملت نحوها وسألتها عما ألم بها؟ فقالت لي باقتضاب: أمور تافهة لا تهمك.
ولكن تهربها ضاعف من رغبتي في معرفة ما وراءها، فألححت عليها أن تفضي إلي بمكنون صدرها، فنفخت في تبرم، ورجتني أن أمسك. وجلسنا صامتين طويلا، ثم تجاذبنا أحاديثنا المعتادة في فتور. ودعينا إلى العشاء فأكلت لقمات معدودات، ولما تهيأنا للنوم وقفت أمام المرآة طويلا، ثم استلقت إلى جانبي، ووضعت راحتها على رأسي وقرأت سورا قصارا من القرآن كالعادة، حتى رنق النوم بجفني. واسيتقظت في الهزيع الأخير من الليل، فخيل إلي أني أسمع حسا كالهمس، فأرهفت أذني فأيقنت أنها تغمغم، وظننتها تحلم، فناديتها حتى استيقظت، ولبثنا مستيقظين حتى أسفر الصبح.
وفي اليوم التالي زار جدي ذلك الضابط المتقاعد، وحدث ما حدث بالأمس، فدعا جدي أمي إلى حجرته، ولبثا منفردين زهاء الساعة، ثم جاءا معا إلى الشرفة وهي تتعلق بذراعه وتهتف بانفعال وتأثر شديدين: كلا .. كلا .. هذا محال، ولا أحب أن يعلم شيئا!
ولكنه لم يأبه، فيما بدا، وقال لي بحزم: إني منتظرك في حجرتي!
وجعلت أمي تتوسل إليه وتضرع، ولكنه رجع إلى حجرته وأنا في أعقابه، على حين مضت أمي إلى حجرة نومنا في حالة غضب واستياء. وجلس جدي على مقعده الكبير، وأمرني أن أقترب منه، فاقتربت في رهبة وخوف حتى وضع يده النحيلة على منكبي، ورمقني بنظرة دقيقة ثم قال: أريد يا كامل أن أحدثك بأمر هام. لا زلت صغيرا بغير شك، ولكن يوجد في مثل سنك من ينهض بأعمال الرجال، وأحب أن تفهمني جيدا، فهل تعدني بذلك؟
وأجبت بطريقة آلية: أعدك يا جدي.
فابتسم إلي متلطفا ثم قال: الأمر هو أن رجلا فاضلا غنيا من أصدقائي يرغب أن يتزوج من أمك، وإني أوافق على ذلك رغبة مني في سعادة أمك؛ فلا بد للمرأة من رجل يرعاها، وأنا قد جاوزت الستين، وأخاف أن أموت قبل أن تضطلع أنت بواجبك كرجل؛ فلا تجد من تعتمد عليه في الحياة.
وواصل كلامه باستفاضة، ولكن عقلي كل فلم يتابعه، ولم أعد أفقه معنى لما يقول.
شلت عبارة «يتزوج من أمك» مسامعي، وانفجرت في دماغي، واتسعت عيناي دهشة ورعبا وتقززا، وتساءلت: هل يعني جدي ما يقول حقا؟ أجل لقد روت أمي لي قصة زواجها، ولكن كان ذاك قصة وتاريخا بعيدا، ولم أتصوره حقيقة واقعة أبدا. وذكرت لتوي الخادمة المطرودة فغاض قلبي في صدري، وقلت لجدي وأنا ألهث: أمي لا تتزوج، ألا تفهم ما هو الزواج؟!
ولم يتمالك الشيخ نفسه من الضحك، ثم قال مبتسما: الزواج سنة من سنن الله، والله يفضل المتزوجين على غير المتزوجين، ولقد تزوجت أنا جدتك، كما تزوجت أمك فيما مضى، وكما ستتزوج حضرتك يوما ما .. أصغ إلي يا كامل، أريدك على أن تذهب إلى أمك وتقول لها إنك ترغب في تزويجها مثلي، وإن سعادتك تضاعف بسعادتها .. ينبغي أن توافق على ما يسعدها، وحسبها ما قاست من أجلكم جميعا.
Página desconocida