64
غادرت البيت دون أن أرى أحدا من أهله، فلم يعد البيت بيتي ولا الأهل أهلي. ووقفت عند باب العمارة فجرى بصري إلى المحطة؛ محطة الذكريات. وطاب لي أن أردده بينها وبين الشرفة، ثم أغمض عيني لأرى موكب الذكريات يمر كلمح البصر، صورة صادقة من الحياة، جامعا بين طرفي ملهاتها ومأساتها. ثم انطلقت في الطريق بلا غاية كأنما أجد في الهروب، استحال قلبي جمرة من نار يتطاير عنها شرر الغضب والشقاء والمقت. وقد خيل إلي أن هذه الدنيا العاكفة على همومها ستتناسى شجونها غدا وتغرق في الحديث عن فضيحتي، على أنني لم أكن قد أفقت من دهشتي ولم أزل أتساءل عما حمل الدكتور المجرم على الاعتراف بالحقيقة الهائلة! لقد هاضني الجبن فكتمت الحقيقة، ووهبته بذلك فرصة للهرب لو أراد هربا، ولكنه انتفض واقفا غاضبا، وألقى بالحقيقة من بين شفتيه في غطرسة وكبرياء: «لا تسأله عما لا يدري، إنها لم تكن زوجة إلا رسميا فحسب.» رباه، لماذا لم أدق عنقه؟ لماذا لم أرم بنفسي عليه وأنشب أظافري في قلبه؟ لتلهبني هذه الذكرى حتى الموت بمثل السوط اشتعلت أطرافه بالنار. ولكن ما الذي جعله يرمي بنفسه إلى الهلاك؟!
هل حمله اليأس من تبرئة نفسه من إحدى التهمتين على الاعتراف بالأخرى؟ أو أنه راعه ما جنى الحب على حبيبته فنازعته نفسه في ساعة يأس إلى أن يشاطرها المصير الأليم؟ أهي ثورة ضمير؟ أم ثورة قلب؟ أم الاثنان معا؟! من لي بأن أطلع على سر هذا القلب المتغطرس؟ بيد أنني ازددت حيرة وجعلت أتساءل: كيف هان عليه أن يرسلها إلى القبر مكفنة بالفضيحة؟ ألم يكن الأخلق به أن ينتهز الفرصة المبذولة فينقذ نفسه، ويستر شرف المرأة التي أحبها .. وأحبته؟! أتراه نادما الآن على ما بدر منه؟ أم لا يزال منتصب القامة غطرسة وعجرفة؟ .. إنه لغز، وسيظل لغزا بالنسبة لي إلى الأبد. وكان قلبي متورما من الحقد والغضب فوجدت في المصير الذي قضي عليهما به - هي في القبر وهو في السجن - راحة وغبطة.
وكانت قدماي قد حملتاني إلى ميدان الإسماعيلية، فلم أجد مهربا خيرا من حدائق قصر النيل، فاتجهت صوب الجسر .. آه لو أستطيع أن أغيب عن القاهرة عاما! ولم يدر لي بخلد أن أشيع جنازة المرأة التي كانت زوجا لي؛ إذ لم يعد بوسعي أن أبدو أمام أحد ممن يعلمون بحقيقة المأساة. ولكن هل تزوجت حقا؟ لم تكن إلا مهزلة طويلة، أو مأساة على الأصح، ولشد ما تملك الدهشة أهلي اليوم أو غدا إذا علموا بأن زوجي ماتت ودفنت دون أن يدعى أحد منهم لتشييع الجنازة، ولكن سرعان ما تذهب دهشتهم إذا عرفوا الحقيقة، وسرعان ما يلهيهم التندر بها عما عداه، ويا لها من أحدوثة حقيقة بأن تحيي محافل السمر! وتقبض قلبي وشعرت ببرودة تسري في أطرافي. لشد ما تعاودني تلك الرغبة القديمة في الهرب! أين مني بلد بعيد لم يطرق أبوابه طارق؟ من لي بأن أقطع كل صلة تربطني بماضي البغيض؟! آه لو يمكنني أن أولد من جديد في عالم جديد لا تطالعني فيه ذكرى من ذكريات هذا العالم، أجل لن أستطيع أن أواصل حياتي على حين يتبعني هذا الماضي كالظل الثقيل! وقضيت بقية النهار متخبطا في الطرق أو جالسا شاردا في الحدائق، لا أشعر بحر ولا ببرد، ولا بظمأ، حتى آذنت الشمس بالمغيب وانتشرت سمرة المساء فوق رءوس الشجر، فعدت من حيث أتيت في خطو ثقيل، وبلغت ميدان الإسماعيلية وقد هبط الظلام على الكون، فملكتني الحيرة ولم أعرف لنفسي مذهبا، ثم وثبت إلى ذهني صورة الحانة فجأة فتنهدت من الأعماق، وندت عن أعصابي المتوترة المكلومة آهة ارتياح كأنما حظيت بفرحة بعد طول اختناق. وفي اللحظة التالية كان التاكسي ينطلق بي إلى شارع الألفي. بيد أن ارتياحي ولى سريعا، وحل محله قلق وانقباض وتردد، وجعلت أتساءل: ألا يجمل بي أن أولي وجهي وجهة أخرى؟! وغادرت التاكسي حيال الحانة ولكني لم أمض إليها، ورحت أتمشى على الطوار في خطى بطيئة مثقل الرأس والقلب، وغلبني اليأس، فانسقت معه إلى داخل الحانة وانتبذت ركنا منفردا، وشربت كأسا وأخرى، وعللت، وما تكاد رأسي تستجيب للخمر، ولكني شعرت بالجوع بغتة فأكلت بنهم وشهوة عجيبة، وما كدت أفرغ حتى حل بي تعب شمل معدتي ورأسي وأعضائي جميعا، فكأن جهد اليوم المبرح قد وجد غرة فزحف علي بجحافله وناخ علي بكلكله، ونهضت مترنحا، وغادرت الحانة إلى تاكسي واقف غير بعيد، فانطلق بي صوب قصر العيني، علاني التعب والجهد، وسرى في جسدي تخدير، وتولاني شعور طارئ بعدم المبالاة، فرمقت مأساتي بعين ساخرة، فبدت لي لحظة كأنها مأساة شخص غريب، أو كأنها انتزعت من حياتي الخاصة واحتلت موضعها من موكب المأساة الإنسانية العامة. وجعل التاكسي يطوي الطريق حتى شارف موقع العمارة التي امتحنتني بها الدنيا، وانطلق بصري صوبها لا يغمض وقد تقلص قلبي وتوالت ضرباته، فرأيت النور يشع من الشرفة والنوافذ. أما أمام مدخل العمارة فقد أقيم عمودان طويلان يتدلى منهما مصباحان كبيران مضاءان. قضي الأمر!
65
ذكرت وأنا أرتقي سلم بيتنا أمي فارتعدت فرائصي واستحوذ علي حنق فظيع كأنه شيطان، ترى ماذا أحنقني؟ .. وسألت نفسي في حيرة عما عسى أن أقول لها .. رباه! ما الذي جاء بي إلى البيت؟ هل ظننت أنه يسعني أن أقضي هذه الليلة في حجرة «رباب» وعلى فراشها؟! على أنني واصلت ارتقاء السلم كأنه قضاء محتوم، ودخلت الشقة بصدر منقبض ووجه مكفهر، وجاءني صوت أمي وهي تتساءل في لهفة وجزع قائلة: «من؟» فجمدت في مكاني غاضبا حانقا، ثم قلت بخشونة: «أنا.» فهتفت بي بصوت باك: كامل .. تعال يا بني!
فخفق قلبي بعنف، وأيقنت أنها علمت بمصير «رباب»، وذهبت إلى حجرتها وكانت جالسة في الفراش، فمدت إلي يديها وهي تنشج باكية وقالت بصوت تخنقه العبرات: ليتني كنت فداءها .. كان ينبغي أن تبقى هي لك!
فوقفت في وسط الحجرة متجاهلا يديها الممدودتين، وسألتها في جمود وغلظة: كيف علمت بالخبر؟
فهتفت بصوتها المختنق: كيف نسيت يا بني أن تخبرني؟ إني أدرك من هذا شدة حزنك. وقد تفتت قلبي رثاء لك .. ليتني كنت الفداء لك ولها، أنا العجوز المريضة، ولكنه قضاء ربنا.
لم ينل تأثرها من جمود نفسي، فلم أستجب لها، وسألتها وكأنني لم أسمع كلامها: كيف علمت الخبر؟ - لقد انتظرت عودتك اليوم في قلق، ولما أن جاء المساء ولم تحضر بلغ مني الخوف، فوصفت للخادم موقع العمارة وأرسلتها إلى هناك، فعادت إلي بالخبر الأسود!
Página desconocida