واستمرت جريدة المحتلين العربية تصدر أربع سنوات إلى أن أعلنت يوم 31 أيار (مايو) سنة 1920 أنها ستحتجب. وقد ودعت قراءها وشكرتهم على إقبالهم على قراءتها ومؤازرتهم إياها منذ إنشائها إلى ذلك الوقت.
أما محررو هذه الجريدة وكتابها؛ فقد كانوا نخبة رجال العلم والأدب في بلاد الرافدين، ألفت قلوبهم سلطة الاحتلال وأغرتهم بأنها جريدتهم لبث الفكرة العربية وخدمة اللغة وتثقيف الشعب، وأجزلت لهم أجور الكتابة ولعلها المرة الأولى في عراقنا تناول الأدباء والكتاب أجورا محترمة على نتاج أقلامهم، فحرر فيها شكري الفضيلي وكاظم الدجيلي وعبد الحسين الأزري ومحمد مهدي البصير وعطا أمين، والظاهرة التي تلفت النظر أن الصحيفة كانت تعمل في خواتيم مقالاتها تواقيع مستعارة عديدة لصنوف كتابها، بينها «ابن العراق» و«ابن الفراتين» و«ابن ماء السماء» و«ابن جلا» و«ابن ذي الكنيتين» و«ابن بابل» و«مطالع».
ولا تسألوا عن الداعي إلى هذا التنكر والتستر، فأنتم مدركوه بداهة، والظرف ظرف حرب والمهيمنون على الجريدة والمنفقون عليها الإنكليز المحتلون، ولكن ما أعلنت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها حتى انكشفت الأقنعة فأخذنا نقرأ اسم الكاتب في ذيل مقالته، وكان جميل الزهاوي يطرف قراء العرب بنفحات أدبه ويمتعهم بمختارات من «عيون الشعر» العربي في عصوره الخالية، كما كان شكري الفضلي يكتب أغلب افتتاحياتها وهو من أدباء العراق وكتابه السياسيين.
والطريف أنه كان بين هؤلاء المحررين كاتب عرف في المجتمع باسم «نجيب السوري»، وهو الدكتور نجيب الأرمنازي وزير سورية المفوض في مصر اليوم، وجد في بغداد ضابطا في الجيش التركي فترك الجيش واتصلت مودته الأدبية بالأب أنستاس الكرملي فحسن له هذا الاشتغال بالأدب والكتابة، وترجم باقتراحه كتابا عن اللغة التركية لأبي حكمت سليمان السياسي العراقي في تاريخ العراق في العصور الأخيرة، وكتب في صحيفة «العرب».
ولم تكتف حكومة الاحتلال بالجريدة اليومية، بل أنشأت مجلة نصف شهرية للعلم والأدب دعتها «دار السلام»، سنتحدث عنها عند بحث الصحافة الأدبية والمجلات المختصة بالعلوم والفنون في محاضرة آتية.
جريدة الوقائع العراقية
وبقي العراق عامين خلوا من جريدة رسمية بعد غياب «العرب»، فلما وضعت قواعد المملكة العراقية بدت الحاجة إلى صحيفة رسمية لنشر القوانين والأنظمة وشئون الدولة بما يقتضيه نظام الحكم في التشريع، فأنشأت أول الأمر وزارة العدلية مجلة دعتها «مجلة العدلية»؛ لنشر بيانات الحكومة وقرارات المحاكم وبعض الإعلانات ونحوها، وكان يحررها كاظم الدجيلي، ثم رئي إيقافها والاستعاضة عنها بجريدة رسمية أنشأتها الحكومة باسم «الوقائع العراقية».
وقد احتفظت حكومتنا بتعبير «الوقائع» في الشرق لجريدتي السلطان محمود العثماني ومحمد علي باشا خديوي مصر، برز العدد الأول من «الوقائع العراقية» في كانون الأول (ديسمبر) سنة 1923، على أن تظهر ثلاث مرات في الأسبوع لنشر القوانين والأنظمة والتعليمات والمراسيم والإرادات الملكية والبيانات الوزارية وإعلانات الحكومة، وتدون ذيلا لها محاضر مجلس النواب والأعيان المؤلف منهما البرلمان العراقي، وخطر لمؤسسيها من كبار موظفي وزارة الداخلية أن يجعلوها لأول وهلة جامعة لمباحث في السياسة والعلم والأدب والأخبار الخارجية إلى جانب الشئون الرسمية، كما كان شأن الوقائع المصرية في بدء حياتها؛ لذلك جعلوها بشكل مجلة في أعدادها الأولى، وفاوضوا أحد محرري الصحف - رفائيل بطي - لتولي تحريرها، بل صدر أمر وزارة الداخلية بتعيينه لهذه المهمة، فاعتذر فأوكل تحريرها إلى كاظم الدجيلي، واقتصر بعد تجربة قصيرة فاشلة على إلباسها الثوب الرسمي فحسب. وهكذا كان ولا تزال تنشر إلى اليوم.
جريدة الموصل
رأينا كيف أنشأ الإنكليز المحتلون جريدة في البصرة وجريدة في بغداد، فلما أتيح لهم أن يبلغوا مدينة الموصل فاحتلوها في خريف سنة 1918، ودخل جيشهم المدينة فعلا بعد إعلان الهدنة، مما كان له تاريخ وحديث بين الدول الكبرى، وفي مؤتمر الصلح بفرساي اهتموا فيما اهتموا به بجريدة «الموصل» الرسمية فاستأنفوا نشرها باللغة العربية وحدها ثلاث مرات في الأسبوع، ولم يكن من السهل إيجاد أديب قدير يجيد الكتابة العربية وهو ملم بالعمل الصحفي، فاستعانوا باثنين من أساتذة التعليم هما سليم حسون والقس سليمان الصائغ، حتى تسنى لهم استقدام أديب صحافي لبناني هو «أنيس صيداوي» لهذا الغرض، وهو من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت. وقد زاول الصحافة بعد حصوله على درجتها العلمية، فزامل جرجي عطية الأديب البيروتي في جريدته الأسبوعية «المراقب»، فأحست الحلقات الصحفية والأدبية بأثر هذا الكاتب في تحسين مادة «المراقب» فلما قضت محنة الحرب على الجريدة طوحت بالصيداوي إلى الترجمة ونحوها في الجيش البريطاني، فخلع هذا الأديب على جريدة «الموصل» ثوبا بهيا من الفكر المثقف ثقافة حديثة، والأسلوب العربي المبين مع احتفاظها بالزي الرسمي، ويلقى فيها متصفحها الآن مقالات وشذرات فذة في الحياة الصحفية العراقية في ذلك الطور، كما أن أنيسا هذا عوض عن قيود الجريدة الحكومية الرسمية في الموضوعات السياسية بإفساح المجال للأدب والاجتماع فيها، فصور الحياة الأدبية في مدينة أبي تمام تصويرا باسما في فجر السلام بعد فواجع الحرب المدلهمة التي كابد في خلالها بلدي الويلات، ومن بعضها القحط حيث مات كثيرون جوعا وأكل البعض لحوم البشر. وقد رأيت بأم رأسي جماعة من المهاجرين الذين رحلوا إلى الموصل من بعض المدن التركية يتكالبون على تقطيع أشلاء بغل نافق جروه من الشارع إلى أكواخهم.
Página desconocida