ومن نكَد الدُنيا على الحرَ أن يرىَ ... عَدُوًا فيهَوىَ أن فيهوَى أن يقُالَ خلَيلُ
وإلى هذا المنى ذهبُ ابن المبارك بقوله:
مَن دَليلي إلى طريقِ رَشادي ... مضنْ مُعيني مَنْ طالبُ لي طَريقاَ
لم تزَلْ بي نَوائبُ الدهرِ حتى ... ترَكَتْني لِمَنْ أعادي صَديقاَ
على أن القاسم بن يحيى المريمي وخليق بأن تكون عليه عولت فقد قال في قصيدة أولها
إنْ كانَ رَأيك في أمورِكَ ثاقبًِا ... فاصْبرْ وَلا تكُ للقضاءِ مُغالبِاَ
فقال فيها:
نفَسي فِداؤكَ ضائرًا أوْ نافعًا ... أو زاهِدًا في عَبدهِ أوْ راغِباَ
لأصبت ما كَبتَ العدو وكان لي ... فرَحًا وكانَ على العدوَ مصائباَ
وقد قالُ ابن الرومي:
عَدُوُكَ من صدَيقك مُستفادُ ... فلا تَستكثرنّ منَ الصحابِ
فإنّ الدّاء أكثرَ ما تراهُ ... يكونُ منَ العظامِ أو الشرابِ
وقد أخذتَ البيت الأخير من هذين بأسره فقلت:
) يَقُول ليَ الطّبيبُ أكلتَ شَيئًا ... وداؤكَ في شرابِكَ والطعامِ (
وينظر إلى هذا المعنى قول أبي نؤاس وكان أوله:
إذا أمتَحَنَ الدّنيا لبيبُ تَكشفتْ ... لهُ عنَ عَدوٍ في ثيابِ صَديقِ
وأبو نؤاس احتذى في هذا القول جرير:
دَعَوْنَ الهوىَ حتى ارتْمينَ قلُوبناَ ... بأسْهُم أعداءٍ وهنّ صديقُ
فقال الأنباري: أتعرف لأحد هذا المعنى:
) بَنُو كَعبٍ وما أثّرتَ فيهمْ ... يَدُ لم يدْمها إلاّ السَوارُ (
فقلت له: ليس كلّ معنى استرقه يحضرني، ولكنني أعرف له في هذه الكلمة:
) مَضوْا متَسابقي الأعضاء فيهِ ... لأرْؤسهمْ بأرْجلهمْ عثارُ (
) إذا سَلَكَ السّماوةَ غير هادٍ ... فقَتْلاهُمْ لعينيَه منَارُ (
فأما قوله:
) لأرْؤسهمْ بأرجلهمْ عثارُ (
فمن قولُ ابن المعتز:
صَيّروا هاماتهِمْ ... في التّرابِ أرْجُلاُ
وأما قوله:
) فَقَتْلاهمُ لَعيَنيهِ منَارُ (
فمن قول ذي الرمة:
ودَويّةٍ قَفْر يحارُ بهاَ القَطاَ ... أدلاَء رُكْباها بناتُ النّجائبِ
يُحابي بها الجلَدْ الذي هوَ حازِمُ ... بضرْبةِ كفّيهِ الملاَ راكبِ
قطَعتُ بشُعْبٍ كالنضًالِ فاصبحوا ... مع الأهلِ جذَلي في متونِ السّباسب
ثم قلت: هذه القطعة من أبيات المعاني. وأقلبت على أي الطيب فقلت: هل يحضرك فيها وقول؟ فاعرض من جواي وتشوف المهلبي إليه، فقلت: أراد بقوله " يحاربها القطا " لسعتها واشتباها، وخصص القطا أهدى الطير، قوله: أدلاء ركباها بنات النحائب هو قول أبي الطيب:
) فقتلاهم لعينيه منار (
فبنات النجائب أولادها تساقطها في الطريق من جهد السير، يستدلون بها. وقوله: " يحايي " من الحياة أي يستحيي بها، وقوله بضربة كفيه الملا " يريد أنه يتيمم بالتراب ويستسقي الماء ليستقيه صاحبة ولا يتوضأ به والنصال: نصال السهام، شبه الركب بها في ضمورهم وشحوبهم، وقوله: " فأصبحوا مع الأهل " يريد أنهم عرسوا فناموا فحملوا بأهلهم في نومهم. فقال أبو سعيد السيرافي: هذا كقول الآخر:
قد ألقَحتُ فِتياُننَا الرحائلا ... ما تركوا منهُنُ حنِوًا حائِلا
يريد أنهم احتملوا على الرحال. فقال علي بن عيسى الرماني هذا كقول دعبل:
فلَمُ أرَ مَطروقًا يحلُ بضَيفه ... ولا طارِقًا يعُطي المُنى ويشيبُ
فاستحسن ذلك المهلبي، فقلت: ومله قول الراعي:
كفَاني عِرِفَانُ الكَرَى وكفَيتهُ ... كُلوءَ النجومِ والنعُاسُ مُعانقُه
فَباتَ يرُيهِ عرِسَهُ وبَناتِهِ ... وبتُ أري النجُمَ أينَ مَخافقُهُ
وقلت: مثل قول ذي الرمة:
أدلاء رُكباها بَناتُ النجائِبِ
قول الآخر:
بيِهماء يسَتافُ الترابَ دلَيلها ... وليَسَ بها إلا اليمانيُ مُخلِفُ
تَجاوزتُها وحَدي ولم أرهَبَ الردى ... دَليلي نَجمُ أو حُوارُ مُختلفُ
يقول: أجهضت الإبل م شدة السير فيها، فألقت أجنتها، فصارت كالمنار لساكنها يستدل ويهتدي بها. فاقبل المهلبي على أبي سعيد وأبي الحسن الرماني يستفهمها ويستزيد منهما فقالا: أمر على ما قال، وهكذا ذكر الأصمعي، فأعجبه ذلك. ثم قلت: وأعرف من تلك القصيدة قول أبي الطيب:
1 / 39