ذكّرني الورْدُ ريح إنسانِ ... أذكرُهُ عندَ كلّ ريحانِ
إنْ فاحَ لم أملكِ البكا فإذا ... ما لاح كادَ النّديمُ ينعاني
وهذا مأخوذ من قولك مالك بن أسماء:
أنّ لي عندَ نفْحةَ بستْانٍ ... منَ الوَرْدِ أوْ من الياسميناَ
نظرَة والتفاتةً أترجىّ ... أن تكوني حلَلتْ فيما يلَيناَ
ثم قال: أزيدك أم حسبك؟ فقال أبو محمد، ﵀: بل حسبك، ففي بعض ما تفاوضتماه غنىّ عن غيره. ومكانك يا أبا الطيب غير مجهول. ونهض عن مجلسه ونهض أبو الطيب منصرفًا، وتلوّمنا بدار الوزير، فاستدعى الشراب واستدعينا، ومنع من حضور سماع. وأقبل يتصفح ما جرى ويكرر طرفه فيه، ويراجعني منه. وكان من مراعاته في الحال إياّي، وتكرمته لي، وصلته ما لم تزل عادته الكريمة جارية به.
وقد عرف الرئيس حال أبي علي الحسين بن محمد الأنباري في خلافته المهلبي على الوزارة، ومصاهرته إياه على ابنته، ولطف منزلته منه ما لا حاجة بي إلى الإفاضة في ذكره، لأنه أشرد خبرًا، وأبقي معلمًا وأثرًا. وكان المهلبي مع ذلك يريه بغير مرآته تفخيمًا لقدره، وتعظيمًا لأمره، وتقديرًا أن هناك أدبًا وفضلًا يتميز بهما عن غيره من نظرائه، ولم يك يبحث نحْلتهَ، وإنما هي أبيات يحاضر بها، وألفاظ يموه بها ويحفظها مجتناة من الصحف، وملتقطةً من ظواهر الكتب. وكنت لا أسيغه ريقه ردًا لكثير يورده، وتنكبًا عن الوجه الذي يطلبه ويتعمده فأحفظه ذلك، وأثر في نفسه تأثيرًا لم تزل شماله تنطق به. فلم وقع الاجتماع مع أبي الطيب بعد منصرفه، اختار أبياتًا من شعره تفردّ بنعانيها وسبق إلى اختراعها، وواطأه على الممالأة علي، ووعده بتحديد الاجتماع معي وتفريعي بتلك الأبيات، واضطراري إلى التسليم لها، والإقرار لسبقه إليها، وعدًا حصله ليوم عينه. واقترح على أبي محمد استدعاء أبي الطيب فاستدعاه. وكنت ملازم حضرة أبي محمد في مجالس حفلته وخلوته، ومتخصصًا كل التخصص به. وروسل أبو سعيد السيرافي، وعلي بن عيس الرماني، وأبو الفتح وأبو الحسن الأنصاري المتكلم، وغيرهم من أعلام أهل العلم، والذين تقع الإشارة إليهم في الأدب. فحضرت جماعة كان فيهم علي بن هرون مقبلًا على أبي الطيب فقال: ألست القائل:
) أعْددتُ للغادرينَ أسيافَا ... تجدَعُ منهم طليُ وآنافا (
من هؤلاء) الغادرين (الذين أعددت لهم هذه السياف؟ وما معنى قولك:
) تجدع منهم طلى وآنافا (
الطلى لها السيوف، والآناف تجتدع بالمواسي. وجعل يكرر هذا القول وأبو الطيب معرض عنه. فأقبل المهلبي على أبي سعيد فقال: ما تقول في ذلك، أجائز سائغ فصيح من كلام العرب قد أنشد أصحابنا في مثله أبياتًا؟ فأقبلَ على علي بن عيس الروماني فقال: الأمر على ما قاله، والتقدير: يجدع منهم آنافًا ويقطع طلى. فأقبل علي فقلت مثل قول الأول:
تَراهُ كأنّ اللهَ يجدَعُ أنفْهُ ... وعيَنيه أنْ مولاهُ ثابَ لهُ وفرْ
أراد يجدع أنفه ويفقأ عينيه ومثله: أراد علفتها تبنًا وسقيتها ماء باردًا، ونحوه قول طرفة:
وتَبسمُ عَن ألمْىَ كأنّ منَورًا ... تخَلَ حرَ الرّملْ دعصُ له ندى
وَوَجْهٍ كأنّ الشمسَ ألقتْ قناعها ... عليهِ نفيً اللْون لم يتَخَدّرِ
أراد: تكشف عن وجه. إلا أن أبا الطيب الجدع للطلى ثم اتبعها الآناف. ولو قدم الآناف ثم أتبعها الطلى، لكان محمولًا على مثل ما ذكرناه. فأقبل المهلبي على أبي الطيب كالملتمس كلامه، فقال أبو الطيب ولم يزد على هذا شاهدًا: هذا كقول الآخر: شرّابُ ألبانٍ وسمنٍ وأقطْ فقلت: هذا كما ذكرناه آنفًا، شراب ألبان وأكال سمن وأقط؛ والاعتراض قائم بعينه، إلا أن تحمل الجدع للطلى على الاستعارة لها. فقال أبو سعيد: حملْ الكلام على التقديم والتأجير شائع كما قال الله تعالى:) يا مَرْيَمُ اقْنُتي لرَبكِ واسْجدي وارْكَعي معَ الرّاكعين (يريد، والله أعلم اركعي واسجدي فبدأ بالسجود على التقديم والتأجير. ثم أقبل علي بن هارون عليه فقال: أخبرني أمسلم أنت حين تقول:
) وأفضل آياتِ التَهاميً أنهُ ... أبوكَ وإحدى ما له من مناقبِ (
وحين تقول:
) وكلُ ما قد خلقَ الله ... لمهُ وما لم يَخْلقِ (
) مُحتقرُ في همتيّ ... كشَعرةِ مفرَقي (
وحين تقول:
1 / 35