متَعانقانِ يكُاتمانِ هواهماُ ... قد نامَ بينهما العتابُ فطاباَ
يتناَقَلانِ اللحظَ من جفَنيهماَ ... فكأنماّ يَتدَارسانِ كتاباَ
وإذا سهتْ عينُ الرقيبِ تخالستْ ... كفاّهما خلسَ السّلامِ سلاباَ
بأناملٍ منهُ تلوحُ مدَاهنًا ... وأناملٍ منها كسينَ خضَباَ
فكأنما تجني لهُ من كَفهِ ... عنبًا وتُجنيهِ لهُ عناّباَ
وحاذَرَتْ أعينَ الواشينَ فانصَرفَتْ ... تَعَضُ من عيَنها العُنابَ بالبرَدِ
وقال أبو نؤاس:
وقالوا قد أجدْت فقلتُ إني ... وجدْتُ القولَ أمكَنني فجاداَ
فقلت أنت:
) وما أنا وحدي قلتُ ذا الشُعر كُلُه ... ولكنُ شعِري فيهِ من نفَسِهِ شعرُ (
وقال أبو نؤاس:
ترَىَ ضَوْءها ظاهرِ الكأس ظاهرًا ... عَلَيكَ ولَو غَطيتهَا بغِطاء
فأخذته أخذًا طريفًا ونقلته إلى المدح فقلت:
) إذا بداَ حَجَبَتْ عَيْنَكَ هَيبَته ... وليَس يحجُبهُ شيء إذا احتَجباَ
وقال أبو نؤاس:
فبُحْ باسمِ تهوَى وَدعني من الكُنى ... فلا خيَرَ في اللذات من دونِها سترُ
فقلت:
) الحبَُ ما مَنَعَ الكلام الألنُسا ... وألدَ شكوَى عاشقٍ ما أعْلناَ (
وقال أبو نؤاس:
فإنَي لطَرْفِ العيَنِ بالعينِ زاجرُ ... فقد كِدتُ لا يخفي علي ضَميِرُ
فقلت:
) وأبصرَ من زَرْقاءٍ جَوُ لأنُسي ... إذا نظرَتْ عَينايَ شاءَ هما علمي (
وقال أبو نؤاس:
إذا ضَنُ رَبُ المالِ ثَوُبَ جوُدُهُ ... يحَيُ على مالِ الأميرِ وَأذُناَ
فقلت:
) ونادَى الندى بالنائمِينَ عن الندى ... فأسْمعَهُمْ فقد هلَك البخلُ (
وقال أبو نؤاس:
فلم يبق لي لحما ولم يبق لي دما
فقلت أنت:
) وخيَالُ جسِمْ لم يُخَلُ له الهَوَى ... لحمًا فينْحلَهُ السقامُ وَلا دمَا (
ثم قلت له: أيقنعك هذا من أي نؤاس وفيه أم أزيدك؟ فقال: زد إن شئت وانقص، أما في أبي نؤاسك هذا الذي تنعى سرقي منه أسوة لغيره، وهو القائل:
وتدَخُلُ عَينُها في كل قَلْب ... مَداخلِ لا تغَلغلُها المدام
وإنما أخذه من قول ذي الرمة:
وعيَنْانِ قالَ اللهُ كونا فكانتَا ... فَعولانِ في الألبابِ ما تفعلُ الخمرُ
وهو الذي يقول:
وخَيَمْةِ ناطورٍ برأسٍ منُيفةً ... تهُمُ يدا منَ رامهاَ بزَليلِ
كأنّا لدَيها بيَنَ عطفَيْ نعَامةٍ ... جفاَ زَوْرُها عن منزِلٍ ومقَيلِ
وإنما احتذى قول جرير:
ظلَلْنا بمسْتنً الأراكِ كأنّما ... لدى فرَسٍ مستَقبلِ الّريحِ صائمِ
أغرَ من البُلقِْ الجِياد يشُفّهُ ... أذى البقّ إلاّ ما احتمى بالقوائم
فقلت له: إنّما أراد جرير أن خفوق الريح بالحاشية يشبه فرسًا يرمح برجله إذا قرصه البق، وذكر خباء مصنوعًا من أثواب ألوان مختلفة من الثياب، ولذلك شبهه بالفرس الأبلق. وليس بيت أبي نؤاس منْ هذا ومشاكلًا له. فقال:: وقال الأعشى:
بأشجَعَ أخّاذٍ على الدهرِ حكمهُ ... فمنْ أيّ ما يأتي بهِ الدهرُ أفرقُ
فأخذ هذا أبو نؤاس:
دارَتْ على فتيةٍ ذلّ الزّمانُ لهمْ ... فما يصيبهمُ إلاّ بما شاءوا
فقلت له: لئن كان أخذه من الأعشى فلقد أحسن فيه. وإذا وقع الإنصاف علمت أن بيت أبي نؤاس أكرم لفظًا، وأعذب عبارة، وأكشف معنى، وفيه زيادة بقوله:) ذلّ الزمان لهم (. فقال: وقد قال الأعشى:
وتَحْسبُ أنهمُ موْتى إذا ما ... تَمشّتْ فيهمُ الرّوحُ العقارُ
فأخذه أبو نؤاس فقال:
إذا لم يجُرهنّ القُطبُ متْنا ... وفي دوْراتهنّ لناَ نشُورُ
فقال: وفي بيت أبي نؤاس زيادة وهو قوله:
وفي دَوْراتهنّ لناَ نشُوُرُ
وهذا بقول الأخطل أولى وهو:
أقمنَ بها نُسقىَ سلافةَ قهوةٍ ... تموتُ لها أوصالنا ثم تنشُرُ
فقال: وهو القائل:
سائل القادمَين من حكَمان ... كيفَ خلفتهم أبا عثمانِ
فيقولونَ لي جنِانُ كما سرّك ... في حالهاِ فَسلْ عن جِنانِ
وهذا مأخوذ من قول الأول:
وسائلةٍ عن رَكْبَ كلًهمْ ... ليَسمعَ حسّانُ بنُ زيدِ سؤالهاَ
ثم قال: وكذلك قوله:
1 / 34