ولم يدع ذلك أحد من العلماء ممن يستضاء بنوره، ويورد نمير مائه. ولكانت هذه الدنيا تسمى حبينًا، لتكنيتهم إياها بأم حبين. ولكانت الحمى تسمى ملدمًا إياها ملدم. فقولك:) أم الدهيم وأم دفر هابل (لا انتظام لمعناه ومحصول المعنى في بيتك أن أم النتن وأم الداهية ثاكل. وهذا من المعاني الممقوتة التي تصم ناطقها، وتهين قدره، وتسم بميسم النقص شعره، لأنه قد جمع فساد المعنى والطاء في اللغة. وفي هذه القصيدة تقول:
) لوْ طابَ مْولدُ كل حيٍ مثلهُ ... وَلدَ النّساءُ وما لهنّ قَوابلُ (
ما أراك أردت إلا أنهن يتسعن حتى لا تحس المرأة عند مخاضها بخروج الجنين عنها. وإلاّ فما وجه سقوط حاجتها إلى القابلة عند ولادتها، أما سمعت قول الأول:
حَملتْ بهِ أم ُتباركُه ... فكأنها بالحَملِ لم تدرِ
حملتْ بهِ غَرّاءُ مذُكرةٌ ... زَهراءُ بنتُ عقائلٍ زهْرِ
فأتيت بما لا يأتي به ذو مرة سوية، ولا قريحة ذكية. وما أحسن ما قال الكروس بن زيد الطائي:
لئنْ فَرحتْ ب مَعقلُ عند شدُتي ... لقد فرحتْ بي عند أيدي القَوابلِ
أهَلّ به لمّ استهلّ بصوْتهِ ... حسانُ الوُجوه ليَنات الأناملِ
فلماّ تردّى بالحمائل وانتحىَ ... يصولُ بأطرافِ الرّماحِ الذّوابلِ
تَبَيَنتِ الأعداد أنّ سناَنهُ ... يطيلُ حَينُ حنينَ الأمهات الثواكلِ
فأحنقه هذا القول وغير من لونه، واستروح إلى قول حدث مأفون العقل كان بحضرته: سبحان الله ما أعجب أول هذه القصيدة:
) لك يا منازَلُ في القلوبِ منازِلُ ... أقفرْتِ وهنُ منْكِ أواهلُ (
فلم يستكمل البيت حتى قلت له: أعجب منه، أيقظ الله رقدتك، ما استرق هذا منه وهو قول أبي تمام:
وَقَفْتُ وأحشائي منَزِلُ للأسىَ ... بهِ وهوَ قَفزٌ قد تعَفتْ منَازلهْ
وأبو تمام احتذى في هذا القول ذئب الخزاعي:
ألا منْ لطَرفٍ لا يزالُ مسهَداَ ... ويا منْ لقلبٍ لا يزالُ مصيداَ
رَماهُ الهوىَ حتى إذا شَكّ قلبهٌ ... تَرَددَ في أحشائِهِ وتَبدداَ
بنى ليَ قلبي منزِلً في فُؤادهِ ... وأعطتك من إنسانها العينُ معقدَاَ
وإلى هذا أشار قيس بن معاذ بقوله:
سَرتْ في سوادِ القلبِ حتى إذا انتهىَ ... بها السير وارتادتْ حمِى القلبِ حلتِ
فللْعَينِ تهمْالُ إذا القلبٌ ملّها ... والقلبِ وسواسُ إذا العينُ ملّتِ
ووالله ما في القلبِ شيء من الهوىَ ... لأخرى سواها أكثرتْ أمْ أقلتِ
وهذا أبو عثمان الناجم يقول على تأخر زمانه:
إذا ساءني منهُ شُحوطُ ديَارهِ ... وضاقتْ عليّ في هواهُ مذَاهبي
عطفتُ على شخصٍ له غيرِ نازحٍ ... مَنازِلهُ بينَ الحَشا والترائبِ
قلت: وأخطأت في قولك:
) مَلكُ زَهَتْ بمكانهِ أيامهُ ... حتى افتَخرْنَ به على الأيام (
وكان من الصواب أن تقول: زهيتْ بمكانه. أتراك مع فضلك وتوسعك في أدبك لم تطالع كتاب) الفصيح (وما تضمنه من قوله:) وقد زهيتَ علينا يا رجل، وأنت مزهو، وكذلك يقال: زهي الرجل وزهيت المرأة كما يقال نخى الرجل ونخيت المرأة من النخوة، فهما منخوان. وقالت عائشة، ﵂: الحلي مستعار للعرائس وفلانة تزهى أن تلبسه. ولا يقال زها إلا في النبت إذا اصفر وظهر زهوه أي صفرته. ونهى رسول الله، ﷺ آله، عن بيع التمر حتى يزهو. وبعض أصحابنا يقول حتى يزهي من أزهى. وذكر أن) يزهو (خطأ والزهو البسر إذا لون. يقال: أزهى البسر، والإزهاء، زعموا، في البسر أن يصفر ويحمر. والأصمعي يقول حتى يزهى البسر، بفتح الهاء، ويأبى ما سواه البسر الأصفر، والزهو الكذب وأنشد:
عند ابن عمرانَ زهوُ غُير ذي رُطبٍ ... وعندهُ رطبٌ في النخلُ ممنوعُ
يقول عند كذب لا بسر. وقال الآخر:
ولا تقَولَن زَهُر ما تٌحدًثٍناُ ... لم يتركُ الشًيبٌ لُي زهرًا ولا العورُا
والزهو أيضًا: المنظر الحسن؛ والزهو الفخر، قال الشاعر:
متى ما أشأ غيرً زهوٍ الملوكٍ ... أجعلُك رَهْطًا على حيُضِ
1 / 19