وهذه عشر سنوات مضت والتساهل الديني - أي: هذه الخطبة - لم تزل من الأدوية الناجعة دليل على أن داء التعصب الدفين لم يزل متأصلا في الصدر. وقد قال لي أحد كبار الاتحاديين: إن الجمعية تود لو انتشرت هذه الخطبة في كل أقطار المملكة، فلتتكرم الجمعية إذا وتترجمها إلى التركية، أبدلوا «الأمة السورية» في الخطبة بالأمة العثمانية ولا تخشوا اللوم والتثريب؛ فإن عناصر هذه الدولة كلها كالعنصر الذي عالجته، وإن ما نئن منه نحن المسيحيين لأشد وطأة عند إخواننا المسلمين أفيسقمنا التعصب ويجهز علينا التمويه؟
اتقوا الله أيها الناس، فقد صاح بكم الأحرار الأصفياء: عودوا إلى كتبكم. ظنا منهم أنكم تعودون إلى الحسن السمح السامي من آياتها. فخاب ظنهم. لذلك أقول: ارفعوا أعلام الوطن ولا تعودوا إلى كتبكم في غير المعابد؛ لأنكم تعودتم أن تسرعوا إلى ما خط فيها من آيات فتفسرونها بما لا يقتضيه حالنا اليوم بل لا يجيزه. عودوا إخواني إلى ضميركم إلى وجدانكم إلى عقولكم إلى حكمة موروثة فيكم، وساعدوا هذه الدولة الجديدة فتساعدكم، ساعدوها أيها الرؤساء والأسياد في بث روح التساهل الديني والجنسي في الناس، وسيف - والله - يرفع علي شر من سيف أرفعه على إخوان لي في الوطنية. وشر من الاثنين - أيها العثمانيون - سيف يرفع علينا أجمعين.
بيروت في 6 نيسان سنة 1910
التساهل الديني
أيها السيدات والسادة
لما علم بعض أصدقائي بأني انتقيت موضوعا دينيا ألقيه على مسامعكم في هذه الليلة الحافلة انتشر الخبر في جاليتنا السورية وأخذ كل رجل يبني عليه العلالي والقصور ويستخرج النتائج ويقدر العواقب ويفسر الموضوع بحسب مبلغ ذوقه وإدراكه وهواه، وقد اتفق هؤلاء المفسرون في شيء واحد وهو أني سأتعرض للدين تعرضا خبيثا وهم ينوون توقيفي عن الخطابة؛ لأنهم للآن لم يألفوا حرية القول والانتقاد فعسى أن يصادفوا الفشل وخيبة الأمل؛ لأنهم حكموا علي قبل أن يسمعوا كلامي ويتدبروا براهيني.
وهذا شيء يناقض الشريعة والعدل ويأباه الرأي المستقيم والذوق السليم فالقاضي الذي يحكم على مجرم بالقتل قبل أن يسمع دفاعه يكون ظالما مجرما جاهلا، فلا تحكموا قبل أن تسمعوا ولا تقصدوا الشر قبل أن تتبينوا شرا أكبر يستوجبه، وقد يظن البعض أن البحث في الأمور الدينية متعلق برؤساء الأديان فقط ومحرم على سواهم، وهذا عين الضلال والغلط، فالمرء لا يرى مساوئه ولا ينتقد الحرفة التي يتوقف عليها معاشه، ورؤساء الأديان لا يتكلمون عن الدين شيئا مشينا ومضرا به على مسامع الشعب ولو لم يكن منافيا العدل والإصلاح بل كل مباحثهم الفلسفية وكل أقوالهم العلمية هي مستنتجة من مقدمة تسبق كل بحث وكل تنقيب، يطبعونها في جنانهم قبل أن يقدموا على الكتابة والجدال.
وهي هذه: الدين تأييده واجب وتعزيزه أوجب وإذا أفسده الزمان ولوى فيه الألسنة بعض رؤساء الأديان فلا يعلن الفساد للشعب، فإذا كانت المقدمة على هذا المنوال فهل يرجى منهم انتقاد جهري يكشف للعلمانيين ما لا يظنونه موجودا. إن ذلك لا يكون فالرؤساء لا يرجى منهم إصلاح جهاري في الدين إذ إن ذلك يضر بمصالحهم ويضعف سلطتهم ويسقط سيادتهم، وإذا سألتموني لماذا تبحث وتتكلم في الدين وأنت لست من رجاله فأجيبكم كما أجاب روسو الفيلسوف الإفرنسي الشهير لما سئل عن تعرضه للبحث في السياسة، وهو ليس أميرا ولا حاكما.
قال: أنا لست أميرا ولا حاكما ولكنني من أجل هذا كتبت فإني لو كنت أميرا أو حاكما لما أضعت الزمان بكتابة ما ينبغي أن أفعل بل كنت أفعله وألزم السكوت، وأنا لست قسيسا أو مطرانا ومن أجل هذا أخطب بموضوع ديني فلو كنت قسيسا أو مطرانا لأصلحت وحسنت واستغنيت عن الخطابة ولزمت السكوت فالبحث في أي موضوع كان محرما على الحيوانات العجم فقط أما الناطقة العاقلة فمن حقوقها أن تخوض عباب أي موضوع شاءت.
ولكن الذي أوقعني في مثل بحر من الاضطراب هو الطلب الذي طلبته مني عمدة هذه الجمعية (جمعية الشبان المارونيين) كي أعدل عن الخطابة بهذا الموضوع تجنبا للشر وهربا من العواقب الوخيمة حسب زعمهم، ولعمري لا ينجم عن البحث والتفتيش المصحوبين بالمعرفة والحكمة إلا كل شيء مستحسن ومفيد، البحث أم الحقيقة، ماذا أفعل إذن، أأرمي نفسي في بحر البحث والتنقيب أم أسلم تسليما غير شرطي دون أن أنبس ببنت شفة، من وجه لا أريد أن أخون ضميري وأعود نفسي التردد فالشاعر يقول:
Página desconocida