هي أبدية؛ لأنها بنت الأبدية، وقد تتحول فتنمو وتنتشر في أشكال جديدة ولكن جوهرها الحي المحيي هو واحد. فيا أيها الصارخ من خبث الزمان ولؤمه القائل إن ديوجن في يومنا يحتاج إلى مصباحين في رابعة النهار اعلم أن لا سلطة لك على الزمان ، وليس لك أن تصلح البشر، أن تنقذ عالما منغمسا في الغش والفجور والنفاق، وإنما كتب لك أن تصلح رجلا واحدا فيه وأعطيت لذلك قوة عظيمة مطلقة فأنقذ هذا الرجل، أصلحه قوم أوده إن في اهتمامك هذا شيئا بل أشياء تذكر، وحياتك وأعمالك لا تكون بعدئذ باطلة.»
وكلنا هذا الرجل، وكلنا نستطيع أن نصلحه إذا سعينا في هذا وكنا ثابتين في سعينا صادقين، أما الإصلاح السياسي فهو ينقي الأرض ويحصبها فقط، والإصلاح الأدبي الذاتي يعطينا بذورا صالحة نزرع منها هذه الأرض المنتخبة الطيبة، وأما إذا حصبناها ونقيناها وكانت بذورنا رديئة فاسدة يجيء كل إصلاح سياسي شرا من الآخر. وبأسف أخبركم أن ما في جراب بذارنا اليوم غير بذور الحنظل والقرقفان والعوسج والقراص، فإذا كانت لنا غيرة على بلادنا، وكان في قلبنا حب لأرضنا حقيقي نأبى أن نتعبها ونهلكها بالإصلاحات السياسية العقيمة، لنسع في تنقية البذور قبل تنقية الأرض، اطرحوا إلى النار جراب السياسة وما فيه - غيره آسفين - وخذوا لكم جرابا جديدا تملئونه من بذور النفس المصلحة الجديدة فقد أعطي كل منا كما قال كرليل قوة عظيمة مطلقة ليصلح نفسه وكل منا يستطيع إلى ذلك سبيلا إذا سعى قليلا.
ونصيحتي لإخواني اللبنانيين لأبناء وطني المحبوب أن يبتعدوا عن السياسة ويقتربوا من الحقول، إن فلاحا في كرمه وراء محراثه لأشرف من كثير من ذوات لبنان، إن صانعا في معمله لأطهر ذيلا وأنزه نفسا من ساسة لبنان، إن حائكا في نوله لأسلم قلبا من مصلحي لبنان. جبالنا المقدسة! أيهجر بنوك أطلال السكينة فيك ليتلوثوا بأوساخ السياسة وأوحالها؟ أيهملون أرضك فتصير بورا وأحراجك فتصير صخورا حبا بمنصب في الحكومة يذل النفس ويفسد الحياة؟ إلى الحقول أيها السياسيون إلى الحقول، بارت أراضي جبالنا من الإهمال، تصخرت أحراج جبالنا من الإهمال، غاضت مياه جبالنا من الإهمال.
أتشقون في السياسة إخواني والمحراث ينشدكم نشيد الهناء والحبور؟ أتتمرغون في أوحال الوظائف والأرض تحن إليكم حنين الأم إلى أولادها أتستذلون وتستضعفون وتستعبدون في دوائر السياسة والحقول تدعوكم إليها لتلبسكم تاج الاستقلال، لتعيد إليكم شرف الرجال، لتمتعكم بحرية الفكر والعمل والمقال؟ إلى الحقول إخواني، إلى الحقول، ليرع كل منا خويصة نفسه، ليشتغل كل منا عن إصلاح الناس بإصلاح شئونه، ليتعهد أرضه وأملاكه بالحراثة والتربية فيصطلح عندئذ لبنان ويصطلح شعب لبنان، وتصطلح لبنان. (12) التساهل الديني (خطبة ألقيت في احتفال جمعية الشبان المارونيين في نويرك ليلة 9 شباط سنة 1900)
تنبيه
هذه أول خطبة ألقيتها في لغتي وقد انتشرت في سوريا ومصر وأميركا وقرظتها الجرائد والمجلات هنا وهناك؛ لذلك أحببت أن أبقي عباراتها على ما كانت عليه في الطبعة الأولى.
مقدمة الطبعة الأولى
قد طبعت هذه الخطبة لاعتقادي أننا بحاجة كلية إلى التساهل الديني فأملي أن تصادف من المتساهلين استحسانا ومن المتعصبين قبولا تكون نتيجته الارتياح والاستحسان على ما أرجو، فيزول - إذ ذاك - التعصب ويسود التساهل وتبرز بعد ذلك أمتنا السورية إلى عالم الوجود قائمة على صخرة لا تقوى عليها نيران الجحيم.
نويرك في الشهر الخامس من سنة 1901
مقدمة الطبعة الثانية
Página desconocida