أذكر هذه لتقدروا هذه الرواية حق قدرها؛ فإنكم لو جئتم هذا المكان فسمعتموها تمثل أربعين وخمسين مرة لتجلى لكم كل مرة شيء جديد من رائع حكمتها وبديع معانيها وجميل التصور فيها.
وقد يخطر في بال البعض منكم أن كيف تكون يا ترى تأثيرات مثل هذا المرسح، ومثل هؤلاء الممثلين في نفس من مثل على مراسح أميركا، وشاهد هذا الفن في أرقى مظاهره، وعرف شيئا من أسرار المرسح وخباياه؟ أما الممثلون فإنني وإن كنت لا أستصوب هجومهم دفعة واحدة على روايات شكسبير وبالأخص أعظمها أكبر همتهم - كما قلت - وأثني على نشاطهم وأرجو أن يتوفقوا في سعيهم واجتهادهم ودرسهم المتواصل إلى شيء راق من هذا الفن. وأما المرسح أو الملهى أو الملعب أو التياترو أو بالحري هذه الأخشاب المسندة التي تدعى تياترو فإنها تذكرني بأيام شكسبير لما كان يمثل بنفسه أدوارا في رواياته.
فإن فن التمثيل هناك ولد في مثل هذا المهد الحقير فلا عيب ولا عار في ذلك.
ولا بأس في ذكر شيء من سيرة نشوء هذا النابغة العظيم فإن فيها عبرة لمن اعتبر، في أيامه، أي: منذ ثلاثماية سنة، كانت لوندرا شبيهة ببيروت اليوم من حيث أسواقها وأبنيتها وملاهيها.
ولم يكن فيها عربات ومركبات، بل كانت شوارعها دائما كشوارع مدينتنا يوم الاعتصاب، فكان الناس يجيئون التياترو راكبين الخيل، فاقتضى لذلك وجود أولاد أمام الباب يستلمون هذه الجياد فيحفظونها لأصحابها إلى أن تنتهي الرواية. ووليم شكسبير - أيها السادة - كان من هؤلاء الغلمان، ولكنه عمل عمله بنباهة وأمانة وإخلاص حتى أصبح بعد قليل زعيم الساسة وسيدهم، فكان الناس عند وصولهم إلى التياترو لا ينادون إلا شكسبير فيجيئهم هذا ويجيئهم ذاك قائلا: أنا يا سيدي من رجال شكسبير، وكذلك ترى الرجل العظيم ناجحا فائزا مقدما في أول عمل باشره، نراه ناجحا؛ لأنه أتقن عمله وثابر على الصدق والأمانة فيه. ومن دور السائس ارتقى إلى المرسح فأخذ يمثل الأدوار الصغيرة إلى أن استيقظت في قلبه ربة الشعر فطفق ينظم الروايات ويمثل فيها حتى آخر أيامه.
قلت لكم إن لوندرا منذ ثلاثماية سنة كانت من بعض الأوجه مثل بيروت، وكان فن التمثيل فيها كما هو اليوم عندنا، وكانت التياترو - خاصة شكسبير وشركائه - شبيهة بهذه فالحالة الاجتماعية التي كتب فيها شكسبير أعظم رواياته كانت كحالتنا اليوم منحطة جدا عن تصوراته وأفكاره وتشويقات نفسه.
فهل كتب الشاعر ما يلائم طبائع قومه وأمثالهم في تلك الأيام؟ هل راعى خواطر شعب لوندرا منذ ثلاثمائة سنة؟ فإنه لو فعل ذلك لما كنا نقرأ رواياته ونمثلها اليوم، بل هو ألف هذه الروايات لكل جيل ولكل زمان، ألف رواياته والحقيقة آخذة بضميره وربة الشعر تملي على فؤاده والحكمة تنير زوايا قلبه ونفسه، ألف رواياته ولسان حاله يقول: إن لم يقدرها أبناء اليوم حق قدرها فسيفعل - إن شاء الله - أبناء المستقبل.
وهذه من نبوءات الشعراء، فالنابغة يا سادتي يتقن أي عمل أتاه بشرط أن يكون قلبه مائلا إلى ذاك العمل، ومن مميزات شكسبير في صعوده من أحقر الأشغال إلى المهنة التي تتصل بالآلهة أسبابها أنه كان يفرغ قلبه ودماغه في قالب عمله. وإن حياة هذا النابغة لشبيهة بتمثال حي لما جاء في رواياته؛ فإنه ارتقى السلم من أوطى الدرجات حتى أعلاها ووقف هنيهة في كل منها ليفكر بالحكمة التي فوقها والحكمة التي تحتها.
فإتقان العمل إذا إن كان في مسح الأحذية أو في النظم أو في التمثيل هو أساس كل ما يدوم طويلا من الصنائع والفنون، ونحن الشرقيين مفتقرون جدا إلى الثبات الذي يتغذى منه الإتقان فإننا لا نتقن شيئا ولا نثبت في شيء، بل ترانا نيأس قبل أن نتمم عملنا فنضرب به الحائط وظننا أننا صورنا على الحائط صورة جميلة، نتطلب تمام الاستحسان والتقريظ لأعمالنا وقد تركناها وراءنا ناقصة، فعسانا إذا أن نتمثل بشيء من حياة هذا النابغة الإنكليزي الذي أتقن عمله سائسا، وأتقنه ممثلا، وأتقنه شاعرا. (8) حول المساواة
40
Página desconocida