يسرني جدا أن أرى روايات نابغة المراسح بل نابغة العالم تمثل في سوريا؛ فإن شكسبير من سائر الشعراء كجبل الأرز من سائر جبال لبنان، ورواية هملت من روايات شكسبير كضهر القضيب من جبل الأرز، بل شكسبير هو أمير شعراء العالم، ورواية هملت هي أميرة روايات شكسبير. وكم قام بعده من المقلدين من الإنكليز والألمان والإفرنسيس فأجادوا في طريقتهم، ولكنهم لم يشقوا غيوم مؤلف هذه الرواية الفريدة.
ومن مميزات هذا الشاعر العظيم أنه ما ترك عاطفة من العواطف البشرية كلها - دقيقة كانت أو غليظة، واطئة أو سامية، راقية أو وحشية، ظاهرة أو غامضة - حتى ألبسها من شعره سربالا شفافا جميلا واستخرج منها حكمة سامية جليلة. فإن ذكرنا الحب نرى في «روميو وجوليت» أرقه وأشرفه وأسماه وفي «ترولس وكريسيدا» أحطه وأكرهه وأدناه.
وإن ذكرنا الغيرة يدهشنا بل يخجلنا تمثيله إياها في رواية «قصة من قصص الشتاء» بصورة خبيثة صفراء خالية من ألوان الانعطاف والسماحة والحشمة. ويعجبنا بل يسحرنا في رواية «أوتلو» الشهيرة تلك الرواية التي تستنشق الغيرة فيها أنقى هواء البحار والجبال. وإننا لنرى أن ذاك الشهم الزنجي «أوتلو» ما فادى «بدرة أتمن من قبيلة كلها» إلا كرها وفي سبيل عرضه وشرفه، وذلك بعد أن أفرغ الخائن يعقوب كل سمه في قلب من أخلص له الوداد، وإن ذكرنا الانتقام نشاهده في أفظع وأوحش هيئاته في «تيتوس أندرانيكوس» وفي أشرف وأسمى مظاهره في رواية الليلة.
وفي هذه المقارنة تظهر عظمة الشاعر الذي يسقط إلى أعمق أغوار الحياة فيستخرج منها درر الشعر والفلسفة، ويرتقي إلى أعلى السماكين فيجيئنا بكواكب من الحكمة السامية والحقيقة الإلهية.
هذه ست روايات ذكرتها موجزا لأمثل مقدرة الشاعر واتساع نطاق أفكاره وتصوراته وفلسفته وشعوره ، فمن «كريسيدا» إلى «جوليت» ومن «أندوانيكوس» إلى «هملت» ومن «بوليكسين» إلى «أوتلو» ننتقل دفعة واحدة من جحيم الحب إلى سمائه ومن أدغال الانتقام إلى ذرواته ومن أكواخ الغيرة إلى قصورها. وقد تجتمع أسمى مظاهر هذه العواطف كلها في دور هملت؛ لذلك هي أعظم الروايات التي تمثل على مراسح اليوم. هي رواية منقطعة النظير فريدة في بابها وجلبابها.
ففيها الضمير والفلسفة يمتزجان فيتماوجان بين التردد والإقدام. وفيها الدقايق والحقايق تسيل حبا فتتلون غضبا فتهيج انتقاما، وفيها من الشعر والتصور والفصاحة ما لا يجتمع مثله في رواية واحدة لغيره من الشعراء، وفيها - وهذا أهم ما فيها للممثلين - غوامض أطوار هملت وشذوذاته، فإن دور هملت للممثلين هو كالنور للفراشة. وندر في أوروبا وأميركا من لم يحرق جنحيه من الممثلين الشهيرين في بادئ أمره مع هملت، ولتتأكدوا أهمية هذه الرواية في عالمي الشعر والتمثيل أقول: إن من مائة ممثل في إنكلترا وأميركا لا يحسن تمثيل هذا الدور العظيم أكثر من عشرة ممثلين.
وكل واحد من هؤلاء يمثل الدور بطريقة تختلف عن طريقة سواه؛ وذلك لأن المؤلف أكثر فيه من أوابد الفلسفة وغوامض الحكمة وأسرار المعاني البديعة ما يحتمل التخريجات والتأويلات العديدة، لا أقول هذا لأثبط من عزم هؤلاء الشبان النشيطين فإنني أكبر همتهم وأثني على إقدامهم وأرجو ألا يقفوا في درس هذه الصناعة الجليلة وإتقانها عند حد تصفيق الناس واستحسانهم فقد يضر المديح بالشاعر والممثل أكثر من نقد الناقدين وتحامل المتعنتين.
لا شك أن بينكم كثيرين ممن سافروا إلى أوروبا وشاهدوا فيها تمثيل الروايات، ولكنني لا أظن أن أحدا منكم دخل العالم الكائن وراء الستار هناك فإن المرسح بأدواته وعجلاته وأنواره وأخشابه وأسراره وممثليه وجدران الورق والقماش فيه لعالم آخر لمن يتسنى له الدخول إليه.
أذكر لما كنت أمثل دورا صغيرا في هذه الرواية مع أحد الممثلين الكبار في الولايات المتحدة أنني دهشت أول ليلة من أمر الشبح في الرواية وكيفية ظهوره، فلما قال «برناردو»: (ها هو، ها هو) رأيت من كان يمثل هذا الدور يتخطى تحت الأرض، أي: تحت المرسح، فسألت أحد الممثلين وهلا يخرج لتشاهده الناس؟ فقال: بل هم يشاهدونه الآن فقلت: وكيف ذلك؟ فأشار إذ ذاك إلى مرآة طويلة في مؤثر المرسح، وقال: ترى الذي يمثل دور الروح واقفا تحت المرسح أمام المرآة فينعكس خياله فيها فيخيل للناظرين أنه شبح حقيقي واقف بين الأرض والسماء وإذا تكلم فصوته من تحت المرسح أقرب إلى حقيقة حاله؛ فإنه أشبه بصوت خارج من القبر، وعندما ينتهي من كلامه لا يخرج كالأحياء ماشيا بل يتحول الممثل من أمام المرآة فيخيل للناس أنه طار في الفضاء كما لو كان شبحا حقيقيا! إلى هذا الحد من الإتقان والتفنن وإلى ما فوقه ترتقي هذه الصناعة هناك.
وقد جاءني منذ أسابيع مجلة إنكليزية موضوعة للتمثيل والممثلين قرأت فيها أن ابن السيدة إلن تري، وهي كسارا برنار عند الإنكليز طبع رواية هملت على حدة في خمس مجلدات ضخمة طبعة فريدة في بابها، فنشر فيها صور أشهر من أجاد في تمثيل هذا الدور من الممثلين من أيام شكسبير حتى يومنا. ورسوم الثياب ووصفها في زمن هملت مع المواعين والأشياء التي تستخدم على المرسح أثناء التمثيل، وفيها أيضا وصف المشاهد والمناظر وحركات الممثلين وسكناتهم كلها، وكيفية إلقائهم مسنودة إلى تقاليد تكاد تكون مقدسة عند عشاق هذا الفن وأربابه، وتباع النسخة من هذه الطبعة من رواية هملت بخمسة عشر ذهبا إنكليزيا. فتأملوا!
Página desconocida