Rasail
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
Géneros
وقد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورا ورئيسا معروفا يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار ويتذاكرون الأخبار ويشربون الخمر، وقد سمع دلائل النبوة وحجج الرسالة وسافر إلى البلدان ووصلت إليه الأخبار وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة، ومن كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر والإسلام عليه أسهل والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا، وكل ذلك عون لأبي بكر على الإسلام ومسهل إليه سبيله. ولذلك لما قال النبي
صلى الله عليه وسلم : أتيت بيت المقدس، سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه فصدقه وبان له أمره وخفت مؤنته لما تقدم من معرفته بالبيت. فخرج إذا إسلام أبي بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب. وفي ذلك رويتم عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا وكان له تردد ونبوة إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والإسلام. فأين هذا وإسلام من خلي وعقله وألجئ إلى نظره مع صغر سنه واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته في ضد ما دخل فيه، والغالب على أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو؟ فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة ولم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته وغالب خواطره وخرج من عادته وما كان غذي به لصحة نظره ولطافة فكره وغامض فهمه، فعظم استنباطه ورجح فضله وشرف قدر إسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تنعم فيها بنعيم حدثا ولا كبيرا، وحمى نفسه عن الهوى، وكسر شرة حداثته بالتقوى، واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا، وأشغل هم الآخرة قلبه ووجه إليه رغبته، فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره.
وما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي
صلى الله عليه وسلم
كمنزلة هارون من موسى، وأنه وإن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا ولمنهاجهم متبعا. وكانت حاله كحال إبراهيم عليه السلام. فإن أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد، فلما نشأ ودرج وعقل قال لأمه: من ربي؟ قالت: أبوك. قال: فمن رب أبي؟ فزبرته ونهرته، إلى أن طلع من السرب فرأى كوكبا فقال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. وفي ذلك يقول الله جل ثناؤه:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ، وعلى هذا كان إسلام الصديق الأكبر عليه السلام. لسنا نقول: إنه كان مساويا له في الفضيلة! ولكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى:
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .
وأما اعتلال الجاحظ بأن له ظهرا كأبي طالب وردأ كبني هاشم، فإنه يوجب عليه أن يكون محنة أبي بكر وبلال وثوابهما وفضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله
Página desconocida