احرص الحرص كله على أن تكون خبيرا بأمور عمالك؛ فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك.
ليعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك، أنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب؛ فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.
عود نفسك الصبر على من خالفك من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهلن سبيل ذلك إلا لأهل العقل والسن والمروءة؛ لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه، أو يستخف له شأن.
لا تتركن مباشرة جميع أمرك؛ فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزم نفسك مباشرة الصغير؛ فيصير الكبير ضائعا.
اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم، وأن مالك لا يغني الناس كلهم فاختص به ذوي الحقوق، وأن كرامتك لا تطيق العامة فتوخ بها أهل الفضائل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك، وإن دأبت فيهما، وأنه ليس لك إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الدعة، فأحسن قسمتهما بين دعتك وعملك.
واعلم أنك ما شغلت من رأيك بغير المهم أزرى للمهم، وما صرفت من مالك بالباطل فقدته، حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضر بك في العجز عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة.
اعلم أن من الناس ناسا كثيرا يبلغ من أحدهم الغضب إذا غضب، أن يحمله ذلك على الكلوح والتقطيب في وجه غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته، وسوء المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك، ثم يبلغ به الرضا إذا رضي أن يتبرع بالأمر ذي الخطر لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطي من لم يكن أعطاه، ويكرم من لا حق له ولا مودة، فاحذر هذا الباب كله؛ فإنه ليس أحد أسوأ حالا من أهل القدرة الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم وسرعة رضاهم؛ فإنه لو وصف بصفة من يتلبس بعقله، أو يتخبطه المس من يعاقب في غضبه غير من أغضبه، ويحبو عند رضاه غير من أرضاه؛ لكان جائزا في صفته.
اعلم أن الملك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى، فأما ملك الدين؛ فإنه إذا أقيم لأهله دينهم. وكان دينهم هو الذي يعطيهم ما لهم، ويلحق بهم الذي عليهم؛ أرضاهم ذلك، ونزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم، وأما ملك الحزم؛ فإنه يقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن والتسخط.
ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر.
إذا كان سلطانك عند جدة دولة فرأيت أمرا استقام بغير رأي، وأعوانا جزوا بغير نيل، وعملا أنجح بغير حزم، فلا يغرنك ذلك فلا تستنم إليه؛ فإن الأمر الجديد مما تكون له مهابة في أنفس أقوام وحلاوة في أنفس آخرين، فيعين قوم بأنفسهم ويعين قوم بما قبلهم، ويستتب بذلك الأمر غير طويل، ثم تصير الشئون إلى حقائقها وأصولها، فما كان من الأمر بني على غير أركان وثيقة، ولا عماد محكم أوشك أن يتداعى ويتصدع.
Página desconocida