وأصل الأمر في المعيشة ألا تني عن طلب الحلال، وأن تحسن التقدير لما تفيد وما تنفق، ولا يغرنك من ذلك سعة تكون فيها؛ فإن أعظم الناس في الدنيا خطرا أحوجهم إلى التقدير، والملوك أحوج إلى التقدير من السوقة؛ لأن السوقة قد يعيش بغير مال، والملوك لا قوام لهم إلا بالمال، ثم إن قدرت على الرفق واللطف في الطلب والعلم بالمطالب؛ فهو أفضل.
وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة، والأمور الغامضة التي لو حنكتك سن كنت خليقا أن تعلمها، وإن لم تخبر عنها، ولكن أحببت أن أقدم إليك فيها قولا لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجري على عادة مساويها؛ فإن الإنسان قد تبتدر إليه في شبيبته المساوي، وقد يغلب عليه ما يبدر إليه منها.
إن ابتليت بالإمارة فتعوذ بالعلماء، واعلم أن من العجب أن يبتلى الرجل بها فيريد أن ينتقص من ساعات نصبه وعمله، فيزيدها في ساعات دعته وشهوته، وإنما الرأي له والحق عليه أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه، فإذا تقلدت شيئا من الأعمال فكن فيه أحد رجلين، إما رجلا مغتبطا به فحافظ عليه مخافة أن يزول عنه، وإما رجلا كارها فالكاره عامل في سخرة، إما للملوك أن كانوا هم سلطوه، وإما لله أن كان ليس فوقه غيره.
إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثلمة من الثلم يتقحمون عليك منها، وبابا يفتتحونك منه وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منها.
اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده؛ فإن الراد له محمود والقابل له معيب.
لتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال: رضا ربك، ورضا سلطان، أن كان فوقك، ورضا صالح من تلي عليه، وما عليك أن تلهى عن المال والذكر، فسيأتيك منهما ما يكفي ويطيب، واجعل الخصال الثلاث بمكان ما لا بد لك منه، والمال والذكر بمكان ما أنت واجد منه بدا.
اعرف أهل الدين والمروءة في كل كورة وقرية وقبيلة؛ فيكونوا هم إخوانك وأعوانك وبطانتك وثقاتك، ولا يقذفن في روعك، أنك إن استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك؛ فإنك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكن تريده للانتفاع به. ولو أنك مع ذلك أردت الذكر كان أحسن الذكرين، وأفضلها عند أهل الفضل أن يقال لا يتفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي.
إنك إن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك، وكيف يتفق لك رأي المختلفين؟! وما حاجتك إلى رضا من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم وذوي العقل؛ فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مؤنة ما سواه.
لا تمكن أهل البلاء من التذلل، ولا تمكن من سواهم من الاجتراء عليهم، والعيب لهم .
لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها، والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها.
Página desconocida