فبدأ أولا ربنا تعالى فبنى لخليفته هيكلا من التراب عجيب البنية، ظريف الخلقة، مختلف الأعضاء، كثير القوى، ثم ركبها وصورها في أحسن صورة من سائر الحيوانات؛ ليكون بها مفضلا عليها، مالكا لها، متصرفا فيها كيف يشاء، ثم نفخ فيه من روحه، فقرن ذلك الجسد الترابي بنفس روحانية من أفضل النفوس الحيوانية وأشرفها؛ ليكون بها متحركا حساسا دراكا علاما عاملا فاعلا ما يشاء.
ثم أيد نفسه بقوى روحانية سائر الكواكب في الفلك؛ ليكون متهيئا له بها، وممكنا له قبول جميع سائر الأخلاق، وتعلم جميع العلوم والآداب والرياضيات والمعارف والسياسات، كما مكنه وهيأ له بأعضاء بدنه المختلفة الأشكال والهيئات تعاطي جميع الصنائع البشرية والأفعال الإنسانية والأعمال الملكية.
وذلك أنه قد جمع في بنية هيكله جميع أخلاط الأركان الأربعة وكل المزاجات التسعة في غاية الاعتدال؛ ليكون بها متهيئا وقابلا لجميع أخلاق الحيوانات وخواص طباعها؛ كل ذلك كيما يسهل عليه ويتهيأ له إظهار جميع الأفعال والصنائع العجيبة والأعمال المتقنة المختلفة والسياسات المحكمة؛ إذ كان إظهارها كلها بعضو واحد وأداة واحدة وخلق واحد ومزاج واحد؛ يتعذر على الإنسان، كما بينا في رسالة الصنائع البشرية.
والغرض من هذه كلها هو أن يتمكن للإنسان ويتهيأ له التشبه بإلهه وباريه الذي هو خليفته في أرضه وعامر عالمه، ومالك ما فيه وسائس حيوانها ومربي نباتها ومستخرج معادنها ومتحكم ومتسلط على ما فيها، ليدبرها تدبيرات سياسية ويسوسها سياسة ربوبية، كما رسم له الوصايا الناموسية والرياضات الفلسفية؛ كل ذلك كيما تصير نفسه بهذه العناية والسياسة والتدبير ملكا من الملائكة المقربين، فينال بذلك الخلود في النعيم أبد الآبدين ودهر الداهرين، كما ذكر في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل، قال الله تعالى: «يا ابن آدم خلقتك للأبد، وأنا حي لا أموت؛ أطعني فيما أمرتك به، وانته عما نهيتك عنه؛ أجعلك حيا لا تموت أبدا، يا ابن آدم أنا قادر على أن أقول للشيء: كن فيكون؛ أطعني فيما أمرتك به، وانته عما نهيتك عنه؛ أجعلك قادرا على أن تقول للشيء: كن فيكون.»
وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الغرض وما المراد من وجود الأخلاق المختلفة في جبلة الإنسان وطبيعته؛ فنريد أن نذكر العلل والأسباب التي بها ومن أجلها تختلف أخلاق البشر وسجاياهم: كم هي، وما هي، وكيف هي؟ إذ قد تبين فيما تقدم: لم هي؟
(2) فصل في وجوه اختلاف الأخلاق
اعلم يا أخي أن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربعة وجوه؛ أحدها من جهة أخلاط أجسادهم ومزاج أخلاطها، والثاني من جهة تربة بلدانهم واختلاف أهويتها، والثالث من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم ومعلميهم وأستاذيهم ومن يربيهم ويؤدبهم، والرابع من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم ومساقط نطفهم، وهي الأصل وباقيها فروع عليه، ونحتاج إلى شرح هذا الباب؛ ليتبين صدق ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، ونبدأ أولا بذكر العلل والأسباب التي تكون من جهة أخلاط الجسد وتغيرات أمزجتها من الاعتدال والزيادة والنقصان، وما يتبعها من الخلاق والسجايا المختلفة المتضادة.
(3) فصل في اختلاف الأخلاق من جهة الأخلاط
اعلم يا أخي بأن المحروري الطباع من الناس وخاصة مزاج القلب يكونون على الأمر الأكثر شجعان القلوب، أسخياء النفوس، متهورين في الأمور المخوفة، قليلي الثبات والتأني في الأمور، مستعجلي الحركة، شديدي الغضب، سريعي المراجعة، قليلي الحقد، أذكياء النفوس، حادي الخواطر، جيدي التصور. والمبرودين في الأمر الأكثر يكونون بليدي الذهن، غليظي الطباع، ثقيلي الأرواح، غير نضيجي الأخلاق، والمرطوبين يكونون في أكثر الأمر ذوي طباع بليدة وقلة ثبات في الأمور، ليني الجانب، سمحاء النفوس، طيبي الأخلاق، سهلي القبول، سريعي النسيان، مع كثرة تهور في الأمور الطبيعية. واليابسي المزاج يكونون في أكثر الأمور صابرين في الأعمال، ثابتي الرأي، عسري القبول، الغالب عليهم الصبر والحقد والبخل والإمساك والحفظ.
(4) فصل في خلق آدم عليه السلام - كما وجد في بعض كتب بني إسرائيل
Página desconocida