(9) فصل في الغرض من الملك
واعلم بأن الغرض من الملك هو حفظ الناموس على أهله أن لا يندرس بتركهم القيام بموجباته؛ لأن أكثر أهل الشرائع النبوية والفلسفية لولا خوف السلطان لتركوا الدخول تحت أحكام الناموس وحدوده وتأدية فرائضه واتباع سنته واجتناب محارمه واتباع أوامره ونواهيه.
واعلم بأن الغرض من حفظ الناموس هو طلب صلاح الدين والدنيا جميعا، فمتى ترك القيام بواجباته انفسدا جميعا وبطلت الحكمة، ولكن السياسة الإلهية والعناية الربانية لا تتركهما ينفسدان؛ لأنها هي العلة الموجبة لوجودهما وبقائهما ونظامهما وتمامهما وكمالهما، وكل صورة في المصنوع فإنها أولا تكون في فكر الصانع وعلمه.
(10) فصل في أن الجسم لا يتحرك من ذاته
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن موضوعات الصناع ومصنوعاتهم وآلاتهم وأدواتهم وأجسادهم كلها أجسام، والجسم من حيث الجسمية ليس بمتحرك والأفعال لا تكون إلا بالحركة، فالمحرك للأجسام جوهر آخر وهو الذي نسميه نفسا، والنفوس من حيث النفسية جوهر واحد، كما أن الأجسام من حيث الجسمية جوهر واحد، وإنما تختلف النفوس بحسب اختلاف قواها واختلاف قواها بحسب اختلاف أفعالها ومعارفها وأخلاقها، كما أن اختلاف الأجسام بحسب اختلاف أشكالها، واختلاف أشكالها بحسب اختلاف أعراضها.
واعلم بأن نفس العالم نفس واحدة، كما أن جسمه جسم واحد بجميع أفلاكه وكواكبه وأركانه ومولداته، ولكن لما كانت لنفس العالم أفعال كلية بقوى كلية، وأفعال جنسية بقوى جنسية، وأفعال نوعية بقوى نوعية، وأفعال شخصية بقوى شخصية، وهي حركتها من المشرق إلى المغرب وبالعكس، ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس، ومن فوق إلى أسفل وبالعكس؛ سميت هذه القوى بأفعالها نفوسا جنسية ونوعية وشخصية، فتكثرت النفوس بحسب قواها المختلفة، وتكثرت قواها بحسب أفعالها المفتنة، كما تكثر جسم العالم بحسب اختلاف أشكاله، وتكثر أشكاله بحسب اختلاف أعراضه، فأفعال نفس العالم الكلية هي إدارتها الأفلاك والكواكب من المشرق إلى المغرب بالقصد الأول وتسكينها مركزها الخاص بها، وأفعالها الجنسية ما يختص بكل فلك وكل كوكب من الحركات الست العارضة، كما بينا في رسالة السماء والعالم، وما يختص أيضا بالأركان الأربعة التي تحت فلك القمر من الحركات الطبيعية، كما بينا في رسالة الكون والفساد.
وأفعالها النوعية ما يختص بالكائنات المولدات التي هي الحيوان والنبات والمعادن وأفعالها الشخصية التي تظهر من أشخاص الحيوانات وما يجري على أيدي البشر من الصنائع التي تقدم ذكرها.
واعلم يا أخي بأن النفس جوهرة روحانية حية بذاتها، فإذا قارنت جسما من الأجسام صيرته حيا مثلها، كما أن النار جوهرة جسمانية حارة بذاتها، فإذا جاورت جسما من الأجسام صيرته حارا مثلها، واعلم بأن للنفس قوتين اثنتين؛ إحداهما علامة والأخرى فعالة، فهي بقوتها العلامة تنزع رسوم المعلومات من هيولاها وتصورها في ذاتها، فتكون ذات جواهرها لتلك الرسوم كالهيولى، وهي فيها كالصورة وبقوتها الفعالة تخرج الصور التي في فكرها، وتنقشها في الهيولى الجسماني، فيكون الجسم عند ذلك مصنوعا لها، وكل متعلم علما فإن صورة المعلوم في نفسه بالقوة، فإذا تعلمها صارت فيها بالفعل.
وهكذا كل متعلم صنعة فإن صور المصنوعات في نفسه بالقوة، فإذا تعلمها صارت فيها بالفعل، والتعلم ليس شيئا سوى الطريق من القوة إلى الفعل، والتعليم ليس شيئا سوى الدلالة على الطريق.
والأستاذون هم الأدلاء وتعليمهم هو الدلالة، والتعلم هو الطريق، والمعلوم هو المطلوب المدلول عليه، فنفوس الصبيان علامة بالقوة، ونفوس الأستاذين علامة بالفعل، وكل نفس علامة بالقوة لا بد لها من نفس علامة بالفعل تخرجها من القوة إلى الفعل.
Página desconocida