وقال أرسطاطاليس: إن الذي استخرج القوة التي غيرت ماءَ الكرم حتى صيرته خمرًا يتولد عنها لشرابها الفرح والسرور، قد أتى بشيءٍ تقصر عنه عقول المستنبطين، وقد أتى بما فاق وعلا كلَّ قوة شجرية، ولقد أشرقت الأرض بفعله، وأزهرت بصنيعه لأن نور الخمرة لا يعدله نور من الأنوار الأرضية، وإذا عدَّت المحاسن كلها وجدتها قد كملت فيها فصارت غاية المحبوب ونهاية المطلوب. وكما أنها ملكة الأشجار، صار من يشربها مَلِكًا بها. ومن فضائلها أنها لا تدع الشارب لها من الطرب والفرح والسرور [يكتم] ما يحسن من الملاهي والموسيقى والنغم التي في الخمرة إلاَّ أبداه وأَخرجه، ولو أنه كان زاهدًا من الزهاد، أو عابدًا من العبَّاد. ومن فضائلها أن الذي يميل إليها ويهواها لا يصبر عنها ولا يلهو عن ذكرها ولا يقبل فيها لوم لائم ولا عدل عادل ولا يجد في ملاذ الدنيا ما يكون له عوضًا عنها.
وقال أفلاطون: كم غدرة لأصحاب الشراب إذا ذكروها رجعوا إليها، وكم حلف يمين حنث أصحابها، وكم عهد نُقِض بسببها، وكم كفارة أُديت عنها، لأنه لا صبرَ دونها ولا احتمال على تركها.
وقال اصطفن الرهاوي: على أي شيءٍ نشكر رب الكل ومبدع الأشياءِ، أعلى اصطناعه الخمرة أم على أنه ملكنا إياها وأباحها لنا مع ما أباح من الذهب والفضة، فمن بيم محروم وبين مرزوق، لأن هذه الثلاث معادن بها قوام هذا العالم، والخمرة أفضل الثلاثة لأن الاثنين جوهرٌ للبدن، والخمرة جوهر الروح لأن النفس تتربى بالخمر وتسرُّ بها وتفرح لها، والبدن يتربى بالآخرين ويشربهما ويفرح لهما، والخمرة تستعمل من داخل والجوهر من خارج، والداخل أفضل.
وقال الحكيم في شعره: الخمرة جوهر ذائب، والجوهر خمرة جامدة.
وقال أرسطاطاليس، في كتاب " الكرمة " أيضًا: كلها منافع، لد جاءت الحكمة في أمرها، ودقت العظمة والقدرة في خلقها محضة المنافع، وإن أحدثت مضرة، فإنما ذلك بسوء تدبير من يستعملها بالخروج عن التقدير.
وقال بيلسون: عجبت لمن يأكل ثمرتها إذا بلغت بقصدٍ، ويشرب من خمرتها بقصدٍ كيف يمرض مرضًا عرضيًا أو يألم بأحد الآلام إلا أن يقع في الأمر إفراطٌ في شيء من الأشياء.
واليونانيون يسمون هذه القوة التي تعيد ماء الكرمة خمرًا، القوة المتقدمة في الشرف على جميع الأنوار لأنها أشرف الشجر، وماؤها أشرف المياه لأنها تولد السرور والفرح، ففي خيرها أكون باقي حياتي.
وقال شاعر آخر وذكر الشراب: هو أخو إخوانٍ ونديم ندمانٍ، يشربه أقوامٌ كرام يشاكلونه في الأفعال، يتصاحبون وينزاورون ويتحابون ويتآلفون، لا كأقوامٍ يرون الحسنات مساوئ والمساوئ حسناتٍ، غفران الذنوب طبعٌ لهم، وترك الأحقاد سنةً لهم، لا يتجاوزون طبعهم ولا يتركون سنَّتهم، الحسنة الصغيرة عندهم عظيمة، والسيئة العظيمة عندهم صغيرة مغفورة. وهذا بكلام اليونانيين شعر موزون.
وقال لبيروس: يُنتقد بالخمرة الناس، فيعرف الزائف منهم والمغشوش كالحجر اليذ يُحلُّ به الذهب فيعرف خالصُهُ من مغشوشه، كذلك الخمر في الأشربة إن عُدَّت فيما يطرب النفس وينشر السرور والفرح ويسليّ الأفكار الرديئة كانت حقيقة بذلك، وإن عُدَّت فيما يُزيل الهموم ويذهب الغموم اجتمع ذلك فيها، وإن قلنا إنها تنشط الكسلان وتروي العطشان وتشجع الجبان وتسخِّي البخيل، فيعطي الجزيل ويراه نزرًا قليلًا، وتعزِّي عن المصائب وتسلي عن العشق المبرح، ولولاها لم تعمل الملاهي، ولكانت الأحزان والهموم دائمة لا تبرح، لكنها تزيلها وتذهب بها وتبدلها بأضدادها.
وقالت فيها طريطاوس الشاعرة: الشراب معدن اللذات وجالب المسرات، يُطيب النفوس ويصرف البوس ويُعفي على النحوس، ويُولد طرب الجليس ويشد القلب ويُزيل الكرب، ويُذكي الأذهان ويغسل الأدران، ويُنير البصر ويُصفي الكبد ويغرس العلوم ويُوفر الحلوم إذا كان بقصدٍ واعتدالٍ، وإذا جتاوز الحد، وزاد، عادت أفعاله إلى الأضداد.
وقال جالينوس: لولاه لما تمازجت الأدوية المختلفات، ولولا وقوعه في الدرياق الكبير لما صار الرئيس على سائر المعجونات.
1 / 64