فقال بحزم: كلا، لست من هؤلاء، السر يوجد في الدنيا كما يوجد وراءها، والسماء والأرض والأشياء تخاطبنا في كل حين، وعلينا أن نعي ما تقول، فأنا أعشق السر كما يتجلى في هذه الدنيا، كما سأعشق وجوده الآخر بعد الموت.
ويضحك طاهر قائلا: إنها الشيخوخة والخوف من الموت.
فيقول إسماعيل باسما: إنه الحب، وهو أكبر من الشيخوخة والخوف. - جميل أن تبرر تعلقك بالدنيا على هذا النحو. - فهتف: كلا، إنه تعلق من نوع خاص، تعلق مقدس، ولا يخجل من الاعتراف بأن قمة الجمال في الدنيا يتركز في المرأة!
ويقهقه حمادة الحلواني قائلا: لا داعي للف والدوران، قل إنك تستقبل المراهقة الثانية، وأنك ترسم خطة لارتكاب الخيانة الزوجية.
فقال باسما: علي أن أتحلى بالصبر.
وضحك طاهر كما كان يضحك قديما وقال: وضحت طريقتك يا شيخ إسماعيل، ومقاماتها هي الثروة والتأمل والحب ثم المقويات الجنسية!
على أي حال فإن سلوك إسماعيل لم يجاف خيال طاهر في الظاهر على الأقل، ورفض بكل قوة أن يعد مسلكه هروبا، فإنه لا يعرض عن الحياة حتى آخر لحظة ولا يزهد في حبها وتصور الكمال لها، ولم يسلم نفسه للتأمل والحب إلا بعد أن أدى واجبه في نطاق قدراته عمرا طويلا، ولم نعرفه كما نعرفه اليوم صفاء وعذوبة؛ فهو لا يجري وراء الملامح كما يجري حمادة مثلا، ويقينا إنه يجد في الحب ما لا يجد أي عاشق عادي، بل يجد في الجنس ما لا يتصوره أي رجل عادي! ولكن حق لصادق صفوان أن يقول: الشرطة لا تعرف لهذا السلوك إلا وصفا واحدا هو المنصوص عليه في قانون العقوبات، فربنا يستر عليه! •••
هلموا نمضي معا في الحلقة الثامنة. ركن قشتمر باق، ربنا يديمه! المكان المستقر الوحيد مهما تثر العواصف من حولنا، ولا تحول جدرانه القديمة بيننا وبين الدنيا، وتمر السنون سراعا فلا تمنع قلوبنا من الخفقان أو ألسنتنا من الكلام، حتى الحلم تنعم به، فضلا عن ذكرياتنا المشتركة ومودتنا الأصيلة، تمدنا بين الحين والحين بنادرة نرددها أو ابتسامة نبتسمها، حقا يرعبنا الغلاء، ويكدرنا الفساد، ويحزننا الظلم. ويوم قتل الزعيم فزعنا وتساءلنا عما يخبئه لنا الغد، ورغم الشيخوخة والروماتيزم والذبحة والبروستاتا والتصوف ذهبنا متوكئين على العصي إلى مركز الاستفتاء بالمدرسة القديمة ب «بين الجناين» لننتخب الرئيس الجديد الذي تعلقت به آمالنا بقدر تعلقها بالأمان والحياة.
وتلقى صادق صفوان من الروماتيزم آلاما كثيرة، ولكن بيته سعد بنمو نهى ودخولها المرحلة الإعدادية وبزيارات إبراهيم ودرية ونبيلة له، ولم تنقطع المراسلات بينه وبين صبري الذي وعده بزيارة قريبة لمصر هو وأسرته التي كونها في الخارج، وأصبح صادق يصلي وهو قاعد، ويمضي وقتا كل يوم في سيدي الكردي، وقد هبطت عليه الشيخوخة بجمالها الخاص الذي تجلى في بياض رأسه وشاربه ووقار وجهه، وربما تساءل: ترى كيف يكون زمان نهى ونبيلة؟!
فيفتح باب الحديث عن الشباب وتحديات الواقع له وما فعله الماضي بحاضرهم ومستقبلهم، فيقول حمادة الحلواني: أبناؤكم أفضل حظا من الملايين الضائعة.
Página desconocida