قشتمر
قشتمر
قشتمر
قشتمر
تأليف
نجيب محفوظ
قشتمر
العباسية في شبابها المنطوي، واحة في قلب صحراء مترامية، في شرقيها تقوم السرايات كالقلاع، وفي غربيها تتجاور البيوت الصغيرة مزهوة بجدتها وحدائقها الخلفية، تكتنفها من أكثر من ناحية حقول الخضر والنخيل والحناء وغابات التين الشوكي، يشملها هدوء عذب، وسكينة سابغة لولا أزيز الترام الأبيض بين الحين والحين في مسيرته الدائبة ما بين مصر الجديدة والعتبة الخضراء، ويهب عليها هواء الصحراء الجاف، فيستعير من الحقول أطيابها، مثيرا في الصدور حبها المكنون، ولكن عند الأصيل يطوف بشوارعها عازف الرباب المتسول بجلباب على اللحم، حافيا جاحظ العينين، يشدو بصوت أجش لا يخلو من تأثير نافذ:
آمنت لك يا دهر
ورجعت خنتني •••
Página desconocida
بدأ التعارف عام 1915 في فناء مدرسة البراموني الأولية، دخلوها في الخامسة وغادروها في التاسعة، ولدوا عام 1910 في أشهر مختلفة، لم يبارحوا حيهم حتى اليوم، وسيدفنون في قرافة باب النصر، تضخمت جماعتهم بمن انضم إليهم من الجيران، جاوزوا العشرين عدا، ولكن ذهب من ذهب بالانتقال من الحي أو بالموت، وبقي خمسة لا يفترقون ولا تهن أواصرهم؛ هؤلاء الأربعة والراوي. التحموا بتجانس روحي صمد للأحداث والزمن، حتى التفاوت الطبقي لم ينل منه. إنها الصداقة في كمالها وأبديتها. الخمسة واحد والواحد خمسة، منذ الطفولة الخضراء وحتى الشيخوخة المتهاوية، حتى الموت. اثنان منهم من العباسية الشرقية واثنان من الغربية، الراوي أيضا من الغربية ولكنه خارج الموضوع. وتتغير المصائر وتتفاوت الحظوظ ولكن تظل العباسية حينا، وقشتمر مقهانا، وفي أركانه تسجلت أصواتنا، مخلدة البسمات والدموع وخفقات لا حصر لها من قلب مصر. •••
قبل أن نهتدي إلى قشتمر جمعتنا الشوارع وميدان المستشفى والنخلة الرشيقة بحقل عم إبراهيم الممتد بين شارع مختار باشا من ناحية وبين الجناين من الناحية الأخرى. تطل عليه الحدائق الخلفية لمساكن كثيرة في العباسية الغربية، ويمدنا بما نحتاج من خضر، في جنوبه تقع غابة التين الشوكي، وفي شماله ناحية الوايلية تدور الساقية التي ترويه وتنتشر حولها أشجار الحناء زافرة شذاها الطيب. في العطلات الأسبوعية والصيفية نجلس تحت النخلة المغروسة في وسطه، تسيل أفواهنا بالحقائق والأساطير. ودل كل واحد على مسكنه لتتم المعرفة به، فرأينا بيت صادق صفوان ببين الجناين، وبيت إسماعيل قدري سليمان بشارع حسن عيد وسراي حمادة يسري الحلواني بميدان المستشفى وفيلا طاهر عبيد الأرملاوي ببين السريات، وأعجب صادق وإسماعيل بالسرايتين، وتأملا حديقتيهما بانبهار، وثمل رأساهما بالفخر وهما يعلنان صداقتهما باثنين من أولاد الذوات، وفي أوقات السمر تنهمر المعلومات عن الدنيا والآخرة.
يقول صادق صفوان النادي: بابا موظف بالأوقاف، ونينة ماهرة في كل شيء!
ونرى صفوان أفندي النادي فيجذب اهتمامنا من أول لحظة، نحيل الجسم مائل إلى القصر، ولكنه ذو شارب غزير طويل لم نر مثله من قبل، مع التقدم في العمر يصير شارب صفوان أفندي موضوعا مغريا بالتعليقات والقفش والتنكيت، ويشاركنا صادق الضحك من أعماق قلبه رغم ما يكنه لوالده من حب واحترام، أما الأم تيزة زهرانة كريم فصادفتنا مرات في الشارع في تزييرتها السوداء، ومن وراء البيشة .. تحذرنا من الترام ونحن نعبر الطريق، وتدعو لنا بالسلامة. وصادق مؤدب مهذب، ويصلي، وسوف يصوم عندما يبلغ السابعة، ولكنه لا إخوة له ولا أخوات، بسبب مرض أصاب أمه عقب ولادته. هو وحيد الأسرة وأملها الباقي، ونشعر كثيرا بأنه موضع الرعاية والعناية، غير أن أباه الحصيف يقول له كثيرا: «يا صادق، اجتهد، أبوك لا يملك شيئا ليتركه لك، فاجعل الشهادة وسيلتك إلى الوظيفة.» ودب تغير عميق في روح صادق منذ طرق عالما قريبا لهم هو رأفت باشا الزين. صحبه أبوه معه إلى زيارة ابن عمه الباشا بسراياه في بين السرايات غير بعيد من فيلا طاهر عبيد الأرملاوي صديقه، يقول صادق وهو يلهث: سراي ابن عم بابا مثل سراياكم يا حمادة، حديقتها تقارب غيط عم إبراهيم في وسعها، جامعة لأزهار الدنيا والآخرة، والسلاملك، والبهو الأزرق، وبهو السفرة، هائل .. هائل، والباشا في غاية العظمة، وزبيدة هانم حرمه جميلة جمالا لا قبله ولا بعده، وفي غاية الطيبة، يحبون أبي وأمي، كما لو أننا أغنياء مثلهم، ابنهم محمود أكبر مني بعامين، أما أميرة ابنتهم فهي أجمل من زبيدة هانم .. كل شيء يجنن!
بدأ حياته من صغار الأغنياء، وبفضل ثروة زبيدة هانم أنشأ أكبر مصنع للنحاس، ورزقه الله بالطول والعرض، ومد حباله إلى الكبراء والسادة الإنجليز ثم نال رتبة الباشوية. ويقول صادق: أهم شيء في الدنيا أن تكون غنيا.
حب الثراء غرس في قلبه في سراي قريبه. ينعكس ذلك في أحلامه أكثر مما ينعكس في اجتهاده، تلميذ متوسط كغالبية شلتنا. مسحور برأفت باشا وزبيدة هانم وأميرة التي تكبره بسبع سنوات. هم رموز للجنة ونعيمها، ويظل مثالا للمؤدب المؤمن، وتقدم الأعوام لا يقلل من حيائه، ولا تجري على لسانه حكاية مكشوفة، وإذا جاء ذكر لبنت من البنات لاذ بالصمت أو راح يذكرنا بعذاب القبر وحساب الآخرة. ولمناسبة وفاة جده يقول بحيرة: نينة قالت لي إننا كلنا سنموت.
لا يتصور أن تموت أمه أو يموت أبوه. وليس في قوله جديد فيما يبدو، ولكن شعورهم آمن بأن الموت حتم مؤجل إلى أجل غير مسمى. كلنا نسلم بالموت بألسنتنا، أما قلوبنا فترمي به إلى موضع في الزمان قصي. وبين حين وآخر تمر بنا الجنازات في طريقها إلى القرافة فنرنو إليها بغير اكتراث كأنها أحداث لا تعنينا. وتحت النخلة السامقة نلهو بشد الحبل، والتهام أطباق الدندورمة المصنوعة من البسكوت، وتقليد المدرسين في أطوارهم الخارقة للمألوف. ولا نكون وحدنا دائما؛ فقد ينضم إلينا عشرة أو أكثر من أصدقاء الدرجة الثانية، فيهم نفر عرفوا بطول اللسان أو الخشونة أو حب العنف والأذى، ولكنه يبقى الأساس كنواة صلبة لا يسمح لغريب باختراقها. ويدعونا صادق إلى وليمة غداء فيقدم لنا طعمية لذيذة وكفتة فاخرة وتشكيلة من السلطات ثم طبقا من البرتقال اليافاوي. وتمطر السماء في جو بارد فنتأخر في بيته الصغير ببين الجناين حتى العصر. ويرد حمادة يسري الحلواني التحية فيدعونا للغداء في السراي بميدان المستشفى. تستقبلنا الحديقة المترامية بروائحها الطيبة وخضرتها المغسولة المشرقة. نمضي إلى بيت صغير مستقل بذاته في الحديقة مكون من حجرتين وشرفة ومرافق. ثمة نافذة مفتوحة على الحديقة تتحرك الأغصان خارجها كالمراوح، تنتشر في الأركان على قوائم خشبية أوراق عريضة مصمغة لصيد الذباب. أما الغداء فشواء وضلمة وسلطات ومهلبية. يتسابقون في الأكل كشد الحبل دون كلفة. يتريضون بعد الغداء في مماشي الحديقة. يرون «توفيق» شقيق حمادة الذي يكبره بأعوام ينطلق فوق دراجة خضراء، ويلمحون «أفكار» الشقيقة الكبرى بنت العشرين في إحدى نوافذ القلعة. زيارة سعيدة لم يلم بها شيء من الارتباك إلا حين رأينا أدوات الطعام - الملعقة والشوكة والسكين- منظومة حول الطبق. ولكن إسماعيل قدري سليمان بدد الارتباك حين قال: نحن لا نستعمل إلا الملعقة واليد!
وكان مما يحمده صادق لآل الزين باشا أن الباشا والهانم يأكلان، كما يأكل والداه، مجاملة ومحبة، ولم يكن يستعمل الأدوات إلا محمود وأميرة. يقول صادق: ناس طيبون حقا، كأنهم منا أو كأننا منهم، وزبيدة هانم تحب الفسيخ وتطالب أبي بهدية منه، ونينة تخبرها بأن لذته لا تتم إلا بتناول البصل، فأكلت الفسيخ بالبصل.
يروي الواقعة وكأنها معجزة في العلاقات البشرية. على ذلك فهو أجمل شلتنا؛ معتدل القامة ذو بشرة تميل إلى البياض، دقيق القسمات ذو عينين سوداوين جميلتين وشعر أسود ناعم. •••
ونعرف الشيء الكثير عن حمادة يسري الحلواني وأسرته؛ نشأة ملكية في السراي، الباشا صاحب أكبر مصنع للحلاوة الطحينية في القطر، حلاوة أرق من الهواء محشوة بالفستق، وفي السراي مكتبة هائلة وإن لم يتسع وقته للقراءة. رجل مال وأعمال، رأيناه كثيرا في سيارته الفورد، ربعة بدينا مبروم الشارب خمري اللون تشع منه العظمة، كما رأينا حرمه عفيفة هانم بدر الدين، صورتها مقبولة ولكن فخامتها تفوق جمالها. - بابا مشغول دائما، ماما شديدة وتحب أن تطاع، أختي تربت في الميردي دييه واختارت لها ماما خطيبا غنيا، وأخي توفيق يرضيها باجتهاده، أما أنا فلا تكف عن لومي ومحاسبتي، وتكرر على مسمعي بأنه لا قيمة للمال بدون العلم والمركز.
Página desconocida
ويسأله إسماعيل قدري: ولم لا تجتهد؟ - أحب أن أقلب صفحات الكتب في مكتبة بابا وأتفرج على الصور. - ألا تحب أن تكون مثل أبيك؟ - كلا، يأخذنا - أنا وأخي - إلى المصنع، أخي يهتم بكل شيء وأنا أتثاءب.
فيسأله صادق صفوان: ماذا تريد أن تكون؟ - لا أدري.
العلاقة بينه وبين أسرته متوترة باستثناء أفكار أخته التي يحبها ويقول بحسرة: ها هي تستعد لفراقنا.
أبوه يطالبه بالاهتمام بمستقبله في المصنع، وأمه لا تكف عن لومه وأخوه يسخر من كسله، وقد مارس الصلاة فترة ثم تهرب من التزاماتها .. قال: لا يواظب على الصلاة إلا أبي.
ويسأله صادق: وماما؟ - لا تصلي .. ولا تصوم .. ماذا عن حرم رأفت باشا؟
فابتسم صادق وقال: مثل مامتك رغم طيبتها المتناهية.
ويغيب عنا شهرا كاملا في الصيف عندما تسافر الأسرة إلى رأس البر للاصطياف، إنهم أصلا من دمياط والاصطياف في رأس البر تقليد دمياطي.
ويحدثنا عن عشتهم وموج البحر، حتى يسأله إسماعيل قدري: هل حقيقي أن موج البحر يعلو كالجبال؟ - وأكثر، والأهم من ذلك أن ترى التقاء النيل بالبحر.
إنه يفتن أخيلة صبية لا يبرحون القاهرة على طول العام، حتى آل الأرملاوي يقضون عطلة قصيرة في الريف .. وحمادة عميق السمرة، يبشر نموه بقامة طويلة، رأسه كبير فيه نبل واحترام، ملامحه مقبولة ويمتاز بنظرة هادئة. وفي نهاية المرحلة الأولية وسنه تقترب من التاسعة مرض بالتيفود، وعزل في حجرة خاصة بالسراي. كنا نزور السراي ولا يسمح لنا بدخول حجرته، غاب عنا شهرا ثم رجع إلينا كالخيال، وحدثنا عن مرضه طويلا؛ كيف منع عنه الطعام دون أن تريده نفسه، وكيف عضه الجوع في فترة النقاهة وحيل بينه وبين الشبع حتى أوشك أن يفقد وعيه، وكيف كشف له المرض عن حب الجميع له. ويقول متفلسفا: أصل البلوى كلها ذبابة!
وحتى في تلك السن المبكرة تخايلت لأعيننا أهداف عن مستقبل بعيد، إلا حمادة بدا غامضا لا نعرف له هدفا. •••
Página desconocida
طاهر عبيد الأرملاوي من أحب الشخصيات إلى قلوبنا لخفة روحه وبساطته وميله إلى البدانة، وهو أسمر وملامحه شعبية ولكن جاذبيته لا تقاوم، يقول: أنا تعبان لأني وحيد والديه. - ولكن لك شقيقتين؟ - أنا الولد الوحيد، بابا مصمم على أن يجعل مني طبيب مصر الأول .. وماما تصر على تعليمي الفرنسية من الآن.
فيلا الدكتور عبيد الأرملاوي باشا غاية في الأناقة رغم أنها دون السرايات ضخامة، والدكتور الباشا مدير للمعامل بوزارة الصحة وحاصل على الدكتوراه من النمسا، تراه والحاجب يفتح له باب السيارة يتهادى في جلال الميري وأناقة الروح الأوروبية، يلوح دائما في القمة رغم أن ثراءه دون الحلواني أو الزين، وبيننا وبينه بعد يجعله بمعزل عنا، ولم يرحب أبدا باختلاط ابنه بأبناء العباسية الغربية، ولكن طاهر صارحه بأنه لا يمكن أن يقطع ما بينه وبين أصحابه. وإنصاف هانم القللي أم صديقنا ليست مجرد خريجة في الميردي دييه مثل والدة حمادة، إنها أيضا مثقفة وقارئة وذات عقل ممتاز، وبفضلها كملت مكتبة الباشا العلمية بثمار الفكر والأدب .. واتفق رأيا الباشا والهانم على أن يجعلا من طاهر شخصا رفيع المقام.
وتسأله الهانم مرة: ما أحب المواد الدراسية إليك؟
فيجيب بصراحة معهودة: المحفوظات .. مثل:
أيها الطائر أهلا
بمحياك وسهلا
حتى في تلك السن المبكرة بدأ يحب الشعر ويحفظه، وربما وجد شعرا في مجلة مما يوجد في الفيلا فيسأل مامته أن تشرحه له ثم سرعان ما يحفظه، ويسعد الباشا بذلك ويقول لحرمه: الولد زكي وسيكون طبيبا مدهشا.
وعرف طاهر دينه لأول مرة في مدرسة البراموني، لا ذكر للدين في فيلا الأرملاوي، لا بخير ولا بشر، ولا ممارسة لأي شعيرة، ورمضان والأعياد لا تكون شهورا دينية إلا بين الخدم. ورغم حصة الدين وتدين صادق صفوان فيمكن القول بأن طاهر نشأ نشأة وثنية أو لا دينية مجردة، وتحية وهيام شقيقتاه كانتا تماثلانه في ذلك، ولكنه يقول عنهما: لهما صديقات كالأقمار يزرنهما ويجلسن معهما في الحديقة .. كالأقمار!
ويتسلل إلى مجلسهن مسوقا برغبة مبهمة، ويتلقى المداعبات كالورود، وتنفجر في أعماقه مسرة بريئة وجامحة مفصحة عن انفعاله الأول بالجنس الآخر. وفي عام من الأعوام دعيت الأسرة لقضاء أسبوعين بالإسكندرية عند خالته، فسمعنا عن الإسكندرية كما سمعنا من قبل عن رأس البر. واستحم في الحمام الخاص بالنساء في سان ستيفانو مع مامته وشقيقتيه، ودهش لمنظر الهوانم في أردية البحر التي تشبه قمصان النوم، وقال لنا ضاحكا: مثل الأبقار أو أضخم!
مامته إنصاف هانم القللي متوسطة العود، خارجة عن تقاليد عصرها التي ترى في البدانة رمزا للجمال في عالمي النساء والرجال معا، ولكن بدا لنا أن شغفه الأول بالمحفوظات التي كان يرددها تحت النخلة في غيط عم إبراهيم، وفتن أيضا بالسينما ليلة ذهبنا إليها أول مرة في عيد من الأعياد بدار عرض «المنظر الجميل» بالظاهر. الحق أنها فتنتنا جميعا ولكنه جن بها جنونا، وضاعف من أشواقه أنه لم يكن يسمح لنا بمغادرة حدود العباسية إلا في الأعياد، غير أن السينما احتلت موضعا هاما من حوارنا، ولعبت بخيالنا أيما لعب، وأصبحت قرية رعاة البقر وطننا الثاني يخفق القلب لمرآها ويثور الحنين. •••
Página desconocida
وأيضا فلإسماعيل قدري سليمان حديثه تحت النخلة، إنه أسمر قوي الجسم ذو عينين عسليتين جميلتين وأنف كبير ونظرة ذكية، بيته صغير ذو حديقة خلفية بشارع حسن عيد، يشبه بيت صادق صفوان ببين الجناين، أبوه قدري أفندي سليمان موظف بالسكك الحديدية يكاد يماثل ابنه في الشبه لولا بدانته، يقول عن أبيه: أبي يستقل أي قطار في القطر من غير أن يقطع تذكرة.
ويقول عن أمه ست فتحية عسل: أمي لا مثيل لها في صنع الكعك والفطائر.
له أربع أخوات سبقنه إلى الوجود، حظهن من التعليم وقف عند حد محو الأمية، وحجزن في البيت لتأهيلهن لعمل ست البيت، كن متوسطات الجمال، بل الحق أن إسماعيل يعد أجمل منهن، ولكنهن تزوجن قبل أن يبلغن السادسة عشرة من موظفين صغار في السكك الحديدية أيضا، وفي سبيل ذلك باع قدري أفندي سليمان البيت الوحيد الذي كان يملكه في باب الشعرية، وقال لابنه إسماعيل: أما أنت فمستقبلك بيدك.
ولم يخيب إسماعيل رجاء أبيه؛ فهو أبرزنا في المدرسة دون منازع، يذاكر ويحفظ ويتفوق ولا يشبع من ثناء المدرسين ولا من إعجابنا به، تتفق الآراء على أنه الفارس في هذا الميدان، وهو ذكي لماح، عشق الدين كما عشق طاهر الشعر، يصلي مثل صادق وصام في سن السابعة ، ولا يكف عن تصور الله في هيئة جليلة لا حدود لعظمتها، ويسأل المدرس حتى يضيق به المدرس ويأمره بالتسليم والطاعة. وإلى ذلك فتجاربه كثيرة ومسلية، يقول مباهيا: في حديقتنا الصغيرة أزرع البصل، أسقي الزرع، أجمع العنب والجوافة، أصطاد الضفادع وأشق بطونها لأرى ما بداخلها.
يسأله طاهر: تريد أن تكون طبيبا؟ - ربما .. لا أدري بعد.
وبشغفه الغامض اندفع يجرب الجراحة في يد خادمة صغيرة فجرح كفها، وغضبت أمه غضبة عنيفة، وهيأت له أنها ستفعل براحته مثلما فعل بالخادمة وهو يبكي ويتوسل، ولما رجع أبوه من عمله وعلم بالذي كان؛ قيد قدميه وضربه بعصاه خمسا! ولعل ذلك كان ضمن الأسباب التي حولته عن التطلع للطب فيما بعد. ومن حكاياته المسلية ما يرويه عن زياراته لأخواته في الأحياء الأخرى، فيحكي لنا عن شبرا وروض الفرج والقبيسي والسيدة زينب، ودعي أبوه مرة لنزهة في لونابارك بمصر الجديدة فاصطحبه معه، فجن بها كما جن طاهر بالسينما، هوس وهوسنا بالألعاب التي سحرته مثل القطار والقارب المتزحلق والغربال والمئذنة الحلزونية، أما مجد صباه الحقيقي فاستوى فوق سطح بيتهم الصغير، فوق السطح تربى الأرانب والدجاج وثمة حجرة للخزين، وهو يتطوع لتقديم الماء والغداء وتفقد المواليد وجمع البيض، وتحت أمره إذا شاء في حجرة الخزين السمن والمش والجبن والعسل الأسود، بالإضافة إلى جدار السطح الذي جعل منه لوحة طويلة عريضة للرسم، وفوقه السماء بطيورها ونجومها، وله من الوحدة أحيانا فرصة للغناء، وفرصة أجمل لدى استقبال بنات الأقارب والجيران، منذ ذلك العهد البعيد بدأ تجاربه مع الدين والجنس، يصلي في ناحية ويندمج في لعبة العروس والعريس في ناحية أخرى، وأمه تطمئن إلى تدينه، فلا تشك في عبثه، ويسأله صادق صفوان: ألا تخاف من الله؟
يضحك، يرتبك، ولا يجيب، ذلك الصبي يتقدمنا في كل شيء. •••
نجلس فوق النجيل عند أصل النخلة، حمادة وطاهر يرتديان قميصا وبنطلونا قصيرا، وصادق وإسماعيل في جلبابين. عنايتنا بمظهرنا كاملة؛ حمادة وطاهر يمشطان شعرهما الطويل أما صادق وإسماعيل فيحلقان رأسيهما نمرة 3، وبتأثير السينما شغلنا أنفسنا بتقوية أجسامنا وممارسة الألعاب الرياضية، ومثلنا الأعلى في ذلك بطل الفيلم «الشجيع» مثل توم مكس ووليم هارت وفير بانكس، وزعم كل منا أن أباه «بطل» واختلق له من الحكايات ما يثبت به ذلك مثل تغلبه على لص ضبطه في البيت أو قهره لبلطجي تحدى الناس في الطريق. ويحدث أن يتحرش بنا بعض الصبية في الشوارع فنتصدى لهم متشجعين بخيالنا، وسرعان ما تجيء النتيجة مخيبة للآمال، فهؤلاء الصبية ينطحون بالرأس أو يضربون بالقباقيب. أما المودة فيما بيننا فهي صافية لا تشوبها شائبة. في وقت انقسمنا فريقين بسبب السينما فتعصب فريق لماشست وآخر لفانتوم، واحتدم النقاش بيننا، وتكدر بعض الشيء صفونا، ولكن لم تبدر من أحدنا كلمة نابية أو إشارة متحدية، نحن مجموعة تثير الحسد في صدور من حولنا من الأقران. •••
وفي عام 1918 تقدمنا لامتحان القبول في مدرسة الحسينية الابتدائية بعد أن ختمنا الدراسة الأولية وبلغنا التاسعة من العمر، وقفنا في فناء المدرسة ننتظر إعلان النتيجة آملين ألا يفرق بيننا الدهر، ونجحنا والحمد لله. نجح إسماعيل قدري بتفوق، وصادق وحمادة مرا بسلام، وعبر طاهر بفضل اسم أبيه الدكتور عبيد الأرملاوي، ولتقارب أعمارنا جمعنا فصل واحد هو أولى رابع الذي اختص بأصغر المتقدمين سنا، ووزعوا علينا الكتب الجديدة فحملناها - كلها - آخر النهار معنا لتنعم برؤيتها الأسر، والتحق إسماعيل بفريق الأشبال لكرة القدم ثم انقطع يأسا من الإتقان، وقدم صادق في فريق التمثيل وسرعان ما تركه، أما حمادة فأراد الانضمام للكشافة ولكن الأسرة لم توافق. نلتقي في فناء المدرسة للسمر السريع، أما خارج المدرسة فاقتصرت اللقيا على يومي الخميس والجمعة، فنذهب مساء الخميس إلى سينما المنظر الجميل ونقضي صباح الجمعة - إذا سمح الجو - عند أصل النخلة. وحافظ اجتهادنا على إيقاعه السابق، فلم يتأثر بالتفوق إلا إسماعيل قدري سليمان.
وذات مرة قال لنا حمادة يسري الحلواني: سمعت بابا يتحدث عن رجال ثلاثة ذهبوا إلى الإنجليز يطالبون باستقلال مصر!
Página desconocida
وتساءلنا عن معنى ذلك فقال حمادة: أي أن يخرج الإنجليز من مصر.
لعلنا لم نكن نعرف عن الإنجليز إلا أنهم جيراننا في العباسية حيث تقوم ثكناتهم، وكثيرا ما نرى جنودهم في الترام، ولأول مرة تنبض أسرنا بهذا الحديث الجديد، ووقعت واقعة في مدرستنا نفسها، في أعقاب ما عرف عن نفي الزعماء، المدرسة تجمع أجيالا متفاوتة في العمر من التلاميذ دخلوها في ظل أنظمة مختلفة، نحن أصغر الأجيال سنا ولكن يوجد تلاميذ في السنة الرابعة بشوارب! وذات صباح خرج من بين الصفوف تلميذ بشارب وصاح بصوت كالرعد: «إضراب»، وحصلت استجابة وهياج، وأمر الناظر أولى رابع بأن تذهب في رعاية المدرسين إلى الفصل مستأذنا الثائرين في استثنائهم من الإضراب لحداثة سنهم، وهدر الفناء بالخطب الحماسية، ثم تدفق التلاميذ إلى الخارج في مظاهرة عاصفة. أول درس عملي نتلقاه في الوطنية، سرى إلى قلوبنا الحماس رغم الغموض والجهل بما يقع، في بيوتنا سمعنا أصداء ما يحدث في الخارج تتردد بحرارة، لأول مرة يلتقي الآباء والأبناء في عاطفة متأججة واحدة، حتى الأمهات يصغين وينفعلن. أنباء المظاهرات يحملها إلى بيوتنا هواء ديسمبر البارد ولكننا نتلقاها دافئة بل ساخنة، ومصارع الشهداء تروى كالأساطير، دوريات الإنجليز تخترق شوارعنا محمولة في اللوريات مدججة بالسلاح، الهتافات تترامى إلينا من الحسينية جنوبا ومن الوايلية شمالا. سعد يحيا سعد، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وتذاع الأخبار في منازلنا: قطعت المواصلات. - المظاهرات في كل مكان .. الفلاحون يحاربون.
زلزلت الأرض بغتة ولا تريد أن تسكت، تدفقت العواطف إلى قلوبنا لتخلقنا خلقا جديدا. اجتاح الحماس صادق وإسماعيل وحمادة، وطاهر لم يخل أيضا من حماس، المنشورات توزع فتؤجج النيران المشتعلة، وحدث في حينا حدث عظيم يوم اعتقل يسري باشا الحلواني منضما بذلك إلى طليعة الأبطال. ونظرنا إلى حمادة بإكبار، ويقول حمادة: بيتنا حزين ولكنه فخور، لو حدث ذلك في ظروف عادية لماتت ماما غما.
واحتجاجا على هدوء طاهر النسبي سألناه: ماذا عن والدك؟
فقال ضاحكا: بابا موظف، وهو من رجال السلطان، وهو مع ذلك مع الثورة ولكنه ...
فيسأله حمادة: ولكنه ماذا؟ - له رأي خاص في سعد! لا يعجبه تاريخه.
وقطبت الوجوه استياء فقال طاهر مخاطبا صادق: قريبك رأفت باشا الزين من رجال السلطان أيضا.
فقال صادق: هذا الموقف يخصه وحده ولا شأن لنا به!
وغطى الحماس والقتال والضحايا على مسيرة الحياة اليومية. انحصرنا نحن في عالمنا الصغير بين البيت والمدرسة، وفي المدرسة أصبح حمادة شخصية محبوبة يشار إليها بوصفه ابنا لبطل معتقل. وفي الفصل تطوع كل مدرس لتلقيننا درسا في التربية الوطنية مستهينا بأمنه وسلامته ومستقبله، وبفضل أولئك المدرسين العظام عرفنا ما أخفي عنا من تاريخنا منذ الثورة العرابية، وعرفنا سعد كمثال للقوة والنضال والذكاء والنزاهة منذ شبابه الأول، وثملنا بما سمعنا وانبثت فينا روح الوطنية التي لم تنتزع من قلوبنا حتى اليوم، وذاق البلد أول طعم للنصر بالإفراج عن الزعماء المنفيين، ثم شهد أعجب يوم في تاريخه يوم عودة سعد، وأطلق سراح يسري باشا الحلواني فيمن أطلق سراحهم، وحيته جماهير العباسية والحسينية والوايلية لدى رجوعه إلى سراياه بميدان المستشفى، وبفضل صديقنا حمادة استطعنا أن نتخيل احتفال عودة سعد الذي شاهده من موضع حجز للأسرة في فندق الكونتننتال. وشهدنا الأحداث تباعا، فطرأ الخلاف بين سعد وعدلي على وحدة الثورة، ووجدنا طاهر في جانب وبقيتنا في جانب آخر، كما اختلفنا سابقا حول ماشست وفانتوم، ولكننا - بخلاف الزعماء - حافظنا على مودتنا وصداقتنا الباقية. •••
وعلى حين يمضي البلد من كرب إلى كرب، وينفى سعد للمرة الثانية، ناهزنا جميعا البلوغ في فترات متقاربة. ثورة تنفجر في أجسادنا منذرة بالشر. إسماعيل قدري الوحيد الذي تعامل معها بجرأة فنقل ميدان عبثه الجنسي من سطح بيته إلى غابة التين الشوكي بغيط عم إبراهيم، أما صادق وحمادة وطاهر فكابدوا عذاب الغريزة تحت جناح البراءة والجهل.
Página desconocida
وصادق صفوان يعيش في بيت ينعم بالحب والوفاق والحياة الزوجية المستقرة، وهو - كوحيد لوالديه - يحظى بكل رعاية، غير أن البلوغ يعتبر من الأسرار المحظور الاقتراب منها، ترك مع بلوغه وتدينه بغير مرشد أو معين، حتى قال لنا مرة: لا علاج لهذا الداء إلا بالزواج، ولكن متى الزواج؟!
وهو يحب والديه ولا يخاف منهما، مثله في ذلك مثل طاهر عبيد، وبدأ صفوان أفندي النادي يصطحبه معه إلى صلاة الجمعة بسيدي الكردي، فننتظر حتى يرجع إلينا صادق فيسأله طاهر ضاحكا: ألا يدخل طرف شارب والدك في عين من يجاوره عند السجود؟
والأب لا يكف عن حث ابنه على الاجتهاد ليستقر في وظيفة مناسبة طالما أنه لا مستقبل للفقير إلا الوظيفة، ويصارح صادق أباه بحلمه قائلا: أريد أن أكون غنيا مثل رأفت باشا.
فيقول الرجل: الرزق بيد الله ولكن تفكيرك غير سليم. - ألم يبدأ من مستوى قريب من مستوانا؟!
فيقول صفوان أفندي ضجرا: لا تبدد طاقتك في الأحلام الفارغة.
ويقول له إسماعيل قدري: كل إنسان يحب الثراء ولكن الحب شيء والعمل شيء آخر.
سراي آل رأفت تعشعش في دماغه بأناسها وجمالها، وفتنة تواضعهم أكثر من أي شيء في الوجود. ولا شك أن أميرة أيقظت قلبه من براءته، رغم فارق السن، ورغم أنها موشكة على الزواج، بل إنها فتنت الجميع بطريقة ما. •••
وحمادة - ابن البطل - مضى يمتد طولا ورشاقة، ويتجلى فيه مظهر ابن الذوات الأصيل؛ يتكلم بتؤدة، ويشتق كلماته من قاموس مهذب، ولعله كان ينعزل عن العالم في كبرياء - مثل محمود بن رأفت باشا - لولا وقوعه في صداقتنا، ولم يتخل عن هذا الجانب الشعبي طيلة حياته. شد ما حزن لانتقال أخته أفكار إلى بيت الزوجية، هي الصديقة الوحيدة في بيئة معادية، أخوه توفيق موضع الحظوة ومعقد الأمل، يتبادلان عواطف فاترة، قال له مرة: أصحابك لا يعجبونني.
فقال بحدة: ولكنهم يعجبونني وهذا ما يهم.
وسعى توفيق إلى إثارة الموضوع مع والدهما بحضور حمادة فقال الباشا: على المرء أن يحسن اختيار أصدقائه.
Página desconocida
فقال حمادة: جميع أصدقائي من الطبقة التي ينتمي إليها زعيمنا سعد!
فضحك الباشا ولم يعقب، ويقول حمادة لنا: بابا يريدني على أن أكرس حياتي للمصنع، ولا يضايقني شيء مثل أن ينصحني بأن أقتدي بأخي توفيق، ولكنني مدين لمكتبته بأسعد ساعات حياتي.
ويقول طاهر: لا شك أن أباك من كبار المطلعين. - ربما كان كذلك على عهد الشباب، أما اليوم فلا يحظى بالراحة إلا في عطلة الأحد. - ومامتك؟ - تقرأ الجرائد والمجلات وتستغرقها الحياة الاجتماعية.
ويقول صادق صفوان: ما دام يوجد رجال مثل الحلواني والزين فالثراء ليس حلما فارغا!
ثم يسأل حمادة: ألا تحب أن تكون غنيا مثل أبيك؟
فيجيبه حمادة ضاحكا: أحب المال طبعا ولكنني لا أحب المصنع. - سيحل أخوك محل أبيك بعد عمر طويل ويصير ولي أمر الأسرة، ماذا تكون أنت؟ ماذا تريد أن تكون؟
فيفكر في شيء من الحيرة ثم يقول: لا أدري، لم أحب عملا بعد، ولكني أحب الحياة.
فيقول إسماعيل: طاهر يحب الشعر.
فيقول حمادة بإصرار: الحياة أجمل من الشعر والمصنع.
وبعد تأمل طويل لأناقته يسأله إسماعيل بلا أي مناسبة: ألا ينشب شجار أحيانا بين والديك؟
Página desconocida
يدهش حمادة ويسأله بدوره: ما معنى سؤالك؟ - أريد حقيقة أن أعرف. - لا تخلو حياة من ذلك. - كيف يجري الشجار الزوجي في طبقتكم؟
فابتسم حمادة قائلا: تندلع الحدة .. يقطبان .. أبي يقول: يا هانم لا يليق كيت وكيت، فتقول ماما: يا باشا أنا لا أقبل سماع ذلك .. يا هانم .. يا باشا.
فيسأله إسماعيل بجرأة: ألم يسبها مرة قائلا يا بنت كذا وكذا.
ويقهقه حمادة ثم يقول: هذا عندكم لا عندنا يا حضرة.
ويحدثنا عن حرص أبيه وتبذير أمه. - بابا ليس بخيلا كما يحلو لماما أن تتهمه أحيانا ولكنه يرى ألا يضيع قرش بدون سبب معقول، ماما ترى أن السبب المعقول هذا يجب أن يشمل ما يروق لها من سلع شيكوريل وشملا ومحال التحف والأطعمة والأشربة التي تقدمها في ولائمها بالإضافة إلى هدايا المناسبات، وقد تمادت بالطول والعرض وهي تجهز أختي أفكار بالأثاث المستورد والحلي، أما ليلة الدخلة فأحيتها منيرة المهدية وصالح عبد الحي.
ويقهقه حمادة ثم يواصل حديثه: ووصف بابا ماما قائلا: يا هانم ما أنت إلا نسافة من نسافات الأسطول البريطاني.
ومع ذلك فقد تبرع الباشا للوفد بعشرين ألفا من الجنيهات، وتقدم في الوقت المناسب ليحل محل المنفيين، فاعتقل واندرج في سلك الأبطال، وسوف يكون نائب حينا الهادي الجميل في البرلمان، وتكون سراياه ركن الوفد الركين. ورغم ذلك كله فلم يساو حمادة صديقنا إسماعيل قدري في حماسه ووفديته. وقلت لنفسي إن حمادة لم يرث عن أبيه مزاياه الفذة في العمل والجهاد، ورث البناء المتين والرأس الكبير والجبين العالي، منظر خلق للإدارة والسيادة ولكنه جرد من الولع بهما. •••
طاهر عبيد ينتمي إلى طبقة حمادة ولكنه بميله إلى البدانة ومرحه وبساطته يبدو كأنه منا. تحت النخلة أسمعنا أول أشعاره، ومضى يتعلم الفرنسية تلميذا محبا لمامته، ويهيم بين أركان مكتبة القصر الفاخرة، وينتابه القلق أحيانا فيقول: أنا مطارد، الويل لي إن لم أصبح طبيبا فذا!
فتنته بصديقات شقيقتيه غير خافية حتى سأله إسماعيل قدري: أليس للسراي سطح؟
فأجابه ضاحكا: لا سطح ولا غابة تين شوكي!
Página desconocida
ذو هيئة شعبية ومزاج شعبي رغم نشأته في فيلا نصف أوروبية، كيف أفلت من قبضة الباشا والهانم؟ في نظر الوالدين نحن نتحمل مسئولية السقوط. وهو أكول بطبعه، وعلمناه نحن حب الرمرمة، فعشق لحمة الرأس والفول والفلافل والممبار والكبد والمشبك والهريسة والكسكسي والباذنجان المخلل. بل تقدمنا جميعا في الاقتباس من قاموس الشوارع والحواري ورصع أشعاره الأولى بألفاظها المتمردة. وبدأنا طريقنا الثقافي بالقصص المؤلفة والمعربة، أما هو فبدأها بالشعراء الثلاثة شوقي وحافظ ومطران. ورغم النقد والترشيد فالمرحلة الابتدائية تعتبر أسعد أوقات حياته من ناحية العلاقة مع والديه؛ أسعدهما بتعلمه الفرنسية وبحفظ الشعر وصوغه، واعتبر الباشا ذلك كله من آي الذكاء المدخر للطب، ويتساءل طاهر في حيرة: أي علاقة بين الشعر والطب؟!
وكنا بوحي من غريزة حب البقاء نتجنب الاقتراب من فيلا الأرملاوي باشا أن تقع علينا عينا الباشا أو الهانم، والحق أن فضلا غير منكور يرجع إلينا في تفجير موهبته الشعبية التي ازدان بها شعره بعد ذلك، بل جررناه معنا لاستقبال سعد حين عودته من منفاه الثاني، كونت شلتنا موجة صغيرة في بحر متلاطم هدرت أمواجه في ميدان الأوبرا. لم نشهد في حياتنا منظرا رائعا كذلك المنظر، وابتلعتنا حومة الحماس وفرحة النصر وعزة الجماهير الملتحمة، وانسربت إلى قلوبنا الفتية عواطف متأججة وتيارات فدائية ومشاعر مجنحة تطير في الفضاء فوق هموم الحياة اليومية. رددنا الهتافات لمصر وسعد حتى بحت أصواتنا، وثمل طاهر بالسكرة الطارئة فنسي موقف أسرته من الزعيم القادم، وعندما هلت علينا سيارة الشيخ، عندما لمحنا من موقعنا فوق سور الأزبكية قامته المترامية، ووقاره الجذاب، جن جنوننا، واشتعلت جوارحنا بنيران مقدسة، واختزن وعينا في سراديبه .. يوما وذكرى وصورة لم يعد في الإمكان أن تتلاشى. واستقبلت العباسية بعد ذلك التاريخ أياما سعيدة صاخبة، فسمعنا لأول مرة عن الانتخابات والبرلمان، وطفنا بالسرادقات، واستمعنا إلى الخطب والأشعار والأزجال، ولم يكن آن الأوان بعد لنسجل أسماءنا في الناخبين. وعن طريق طاهر عرفنا رأي الباشا أبيه فيما يجري حولنا، فهو يرى مثلا أنه من التهريج أن يتم اختيار الحكام بهذه الطريقة البهلوانية، وأننا نقلد أوروبا في النتائج متجاهلين المقدمات والأسس. بخلاف يسري باشا الحلواني الذي أكد لنا في خطبته الختامية أن صوت الشعب من صوت الله، والواقع أنه لم يكن خطيبا مفوها، ولكن الحفل كان حافلا بالخطباء والشعراء، على حين أضفى عليه اعتقاله هالة من العظمة والجاذبية، وقال طاهر لأبيه: النفي والسجن والاعتقال هي مؤهلات المعركة.
فقال الباشا بازدراء: الحكم علم وخبرة ومقدرة لا نفي أو سجن أو اعتقال.
ولم تكن إنصاف هانم القللي دون زوجها في احتقاره لما يجري. •••
لإسماعيل قدري علينا ما يشبه القيادة، هذا حقه لتفوقه المدرسي، وللتفوق المدرسي امتياز لا ينكر، وله منزله خاصة عند المدرسين، بالإضافة إلى الإثارة التي يبعثها بسبب مغامراته الجنسية، وهو منذ البلوغ غدا موضع التفات خاص من أمه فضاعت من يديه فرصة السطح، وتحول بغريزته إلى غابة التين الشوكي يستدرج إليها صغار البائعات المتجولات، وثابر رغم ذلك على تدينه مثل صادق صفوان، وأثرت خزانته بمعلومات كثيرة استمدها من أمه عن الآخرة والحساب وعذاب القبر، وظل على شغفه بتخيل صورة الله، حتى قال لنا مرة: لعله شيء مثل سعد ولكنه يمارس سلطانه في الكون كله!
وضحك طاهر وعلق على ذلك قائلا: عرفت الآن لماذا لا يصلي أبي!
وهو يحظى بسعادة لما يحرز من منزلة بيننا فيعوضه ذلك عن بساطة أسرته، إنه الوحيد بينهم الذي تخلو شجرته من أي فرع ذي امتياز. حتى صادق صفوان وهو يماثله في المستوى يمت بصلة قربى إلى رأفت باشا الزين أما هو فلا قريب له يبل الريق، والبيت القديم الذي ورثه أبوه باعه وهو يزوج أخواته؛ لذلك فعندما انجذبنا جميعا نحو الثقافة كان يستعير الكتب للقراءة الحرة من مكتبتي حمادة وطاهر، ولم يشغله شيء عن إحساسه الوطني وحماسه الفائق للوفد الذي بلغ درجة من الحرارة لا تكون إلا للعقيدة الدينية، وهذا ما جعله يتجه نحو مدرسة الحقوق فتنة بالقانون والمجد والسياسة، لم يعد الطب ولا الهندسة مما يشبع طموحه بعد أن أصبح سعد زغلول مثله الأعلى في الحياة، وهو الذي حرض طاهر على والديه قائلا: السمع والطاعة للموهبة.
ويضايقه ولا شك هذا السؤال الذي يلحون به عليه «كيف تجمع بين العبادة ومغامرات الغابة؟!» .. فقال لنا يوما: عقب كل صلاة أستغفر الله كثيرا .. ولكن ما الحيلة مع نيران متأججة؟! •••
وفي غمرة الأحداث والحماس استعد كل منا لامتحان الشهادة الابتدائية، ونجحنا جميعا، إسماعيل في المقدمة ونحن وراءه، والتحقنا بمدرسة فؤاد الأول الثانوية لنمضي بها خمسة أعوام ما بين 1923 و1928، ولأول مرة نرتدي البنطلون الطويل ونقلع عن شراء البدل الجاهزة. أعوام انقضت في مراهقة وسياسة وثقافة وحب، وفي عامنا الدراسي الأول هدانا الهادي إلى مقهى قشتمر، إنه أحد أفراد شلتنا الهامة التي تلاشت تدريجيا مع الزمن ويدعى الصباغ، قال لنا ذات يوم: مجلسنا تحت النخلة لم يعد بالمكان المناسب، عثرت لكم على مقهى مناسب.
روعتنا لفظة المقهى الذي يعتبر عند أهلنا من المحرمات، كيف نجلس بين رجال في سن آبائنا وهم يدخنون النارجيلة؟! وقال الصباغ: لا تكونوا جبناء، آباؤنا توظفوا بالشهادة التي حصلتم عليها في الصيف الماضي، والمقهى بعيد عن الأنظار، يقع عند التقاء الظاهر بشارع فاروق، صغير وجديد وجميل وذو حديقة صيفية صغيرة، وما علينا إلا أن نختار ركنا منزويا للسمر ولعب الطاولة وشرب الشاي والقرفة والقازوزة.
Página desconocida
وفي سرية تامة تلمسنا طريقنا إلى الظاهر، تسوقنا روح المغامرة، ويعتمل في ضمائرنا إحساس بالذنب، وطالعنا قشتمر بلونه الأخضر الزاهي، وحجمه المحدود الذي لا يزيد عن حجم بهو بسراي الزين باشا - كما قال صادق - ومراياه المثبتة في الجدران، وحديقته الصغيرة الموصولة به بباب صغير مفتوح، تنطلق بأركانها نخلات أربع، ويقوم في الوسط عدد من الموائد في صورة مربع متساوي الأضلاع، أشار صاحبنا إلى مائدة في عمق المكان في أقرب موضع إلى منصة الشغل، فاتجهنا نحوها متجنبين الأنظار من شدة الحياء والارتباك، بدونا نبتا جديدا في عمره ومنظره، ودخل ثلاثة منا في جلابيبهم، وعلى رف وراء المنصة اصطفت النراجيل وقوارير المشروبات فضاعفت من ارتياعنا، جلسنا حول المائدة نتلقى النظرات المستطلعة بوجوه ساخنة حتى جاءنا النادل وبدأت الممارسة الجديدة، هكذا عرفنا قشتمر في أواخر 1923 أو أوائل 1924، ودون أن ندري أنه سينعقد بيننا وبينه زواج لا انفصام له، وأنه سيصغي بصبر وتسامح إلى حوارنا وأساطيرنا عمرا طويلا، بل ما زال يصغي مستوصيا بصبره وتسامحه. وفي ذلك الوقت اشتركنا ولأول مرة في مظاهرة وطنية، لم نعد أطفالا من ناحية والمظاهرة مأمونة العواقب من ناحية أخرى، فوزارة الداخلية هذه المرة بيد زعيم الأمة ورئيس الوزراء، في أثناء طابور الصباح خرج رئيس الطلبة من الصف وصاح بصوته الجهوري: «إضراب»، واندفعت الصفوف نحوه في عجلة ولهوجة فخطبهم مركزا على أزمة بين الزعيم والملك وأن على الشعب أن يتجمع في ميدان عابدين لتأييد الزعيم دون قيد أو شرط، وماج الميدان بالخلق من كل صنف، كيوم الاستقبال، ولكنه يفور هذه المرة بالغضب، ويهتف من أعماقه «سعد أو الثورة»، تخلف طاهر الأرملاوي عن الاشتراك في المظاهرة فتركناه لرأيه، ولدى عودتنا سأل صادق صفوان: ولكن ما أسباب الأزمة؟
ووضح لنا أننا لا ندري عنها شيئا ولكن إسماعيل قدري قال بحزم: نحن على أي حال مع سعد لسبب وبغير سبب وضد الملك بسبب وبغير ما سبب.
واتفقت قلوبنا على ذلك. ومما يذكر أننا لم نعرف أسباب الأزمة أو لم نهتم بمعرفتها إلا بعد انقضاء أعوام طويلة ونحن نسترجع الأحداث بعد أن صارت تاريخا، في ذلك الزمان صهرنا الوفد في أتون وطنيته فبعثنا على يديه خلقا جديدا، ويوما قال إسماعيل قدري: في مصر أربعة أديان، الإسلام والمسيحية واليهودية والوفد.
فقال طاهر عبيد ساخرا: والدين الأخير أعظمها انتشارا!
علمنا الوفد ماذا نحب وماذا نكره، وبأي قوة نحب وبأي قوة نكره، واجتاحتنا القضية الوطنية وملكت قلوبنا، غطت على الأسرة والمستقبل والأمل الشخصي، واندفعنا مع طوفان الحزبية بنفس القوة والعنف ونبضت كل خلية من خلايانا بالحياة والإصرار، وعجبنا للزين باشا والأرملاوي باشا وأحزابهما، أهم من البشر أم من شواذ الخلق والطبيعة؟!
وإلى جانب السياسة هبت علينا رياح الثقافة المنعشة البيضاء، التهمنا المجلات الأسبوعية والشهرية والكتب المؤلفة والمترجمة، وتنورت رءوسنا بمصابيح مشعة مثل المنفلوطي والعقاد وطه حسين والمازني وهيكل وسلامة موسى، ودار الحوار حول الفكر كما يدور حول السياسة، وشملت اليقظة العقل والقلب والإرادة.
صادق صفوان رسم بتقواه لنفسه حدودا لا يتعداها، أحب المنفلوطي والرواد ولكنه أغلق وعيه دون ما يمس العقيدة أو يثير الشك، وإذا جاوز الحوار في قشتمر الحدود والتقاليد لاذ بالصمت واستغفر الله، ولم يضعف شيء من حلمه القديم بالثروة ولا بإعجابه الثابت برأفت باشا قريبه مع استثناء الجانب السياسي. ويقول بطمأنينة: موقفه السياسي لا يمس مودتنا الراسخة، ويعاتب أبي كثيرا في رفق متسائلا: إلى متى يا خالي تنخدع بذلك الرجل المهرج؟ أو يقول لي: وأنت يا صادق تتبع والدك بلا تفكير، هل اشتركت حقا في المظاهرة الوقحة بميدان عابدين؟ أراهن أنك لا تعرف لها سببا، وأرجو ألا تعتاد المظاهرات؛ فهي اليوم آمنة، ولكنها لن تكون كذلك إلى الأبد، كم ضاعت من أرواح فداء للعجوز الأناني!
وتضحك زبيدة هانم من قلبها وتقول لأمي مداعبة: مبارك يا زهرانة، ابنك زعيم من يومه!
ما زال صادق مفتونا بالباشا وقصره وتحفه وزوجه وتواضعه، وإعجابه بأميرة لم ينضب حتى بعد انتقالها إلى بيت زوجها.
ويقول له إسماعيل قدري: لا عيب فيك إلا حلمك الغريب بالثراء.
Página desconocida
فيقول صادق: الثراء يبدأ بحلم . - لماذا لا تسأل قريبك عن طريق الثروة؟! - هممت أن أفعل مرة، وشاورت نينة فهالها تفكيري وحذرتني من مغبته أن يتهمني الباشا بالحسد.
إنه شخصية متكاملة وتقليدية ولكنه نصب لنفسه هدفا بدا لنا غير معقول.
أما حمادة الحلواني - كالآخرين - فقد فتح نوافذه للثقافة دون قيد أو شرط، ويصر على أن يروي لنا في ليلته ما قرأه بالأمس، رواية المسحور المنبهر المصدق دون أن يجشم نفسه عناء النقد. يقول: الثقافة هجمة ضاربة، أتيحت لنا لتوقظنا من سبات.
فإذا كانت آخر قراءة عن الدين لخصها بنبرته المترفعة، ثم يقول بيقين: هذا هو القول الفصل في الدين!
وتدور المناقشة بين أطراف متناقضة، ولم يكن حمادة في الأصل صاحب عقيدة راسخة فلم يكابد أزمة حقيقية، ونسمعه تارة أخرى وهو يقول: هذه هي قصة الإنسان وهذا هو أصله.
ثم حدث أن قرأ كتابا معتدلا عن الدين والعلم فإذا به يقول: يبدو أنه لا يوجد تناقض بين الدين والعلم!
إنه عميق التأثر بما يعرف، وسرعان ما ينتقل من حال إلى حال، يمتنع عن أي تعريف أو وصف، ليلة مع الليبرالية وأخرى مع الاشتراكية، وقد سأله صادق: ولكن من أنت؟
فأجاب بحيرة: أمامي طريق طويل.
طاهر عبيد يبدو ذا هدف واضح وموقف واضح، لا يشك أحد منا في شاعريته، إنه يحفظ الشعر ويتذوقه وبدأ يبدعه، ويحب الزجل أيضا، أسمعنا أول ما أسمعنا غزلا في صديقات شقيقتيه، وألف زجلا فكاهيا عن شارب صفوان أفندي النادي والد صادق، ونهل من كتابات الرواد فلم يقتصر على الشعراء الثلاثة أو مختارات أبي تمام والبحتري، وقال لنا: عما قريب سأقرأ بالفرنسية.
ولم تضف الثقافة الحديثة جديدا إلى عقيدته، فقد نشأ بلا دين تقريبا، لم يثر الدين اهتمامه ولا شغل تفكيره، ولكنه هام بالشعب والجمال والأغاني، وكان ضميره عامرا بالقيم الرفيعة، وإن تكن نشأته في فيلا الأرملاوي قد أقصته عن المجال السحري لسعد زغلول فإنها لم تربطه بالولاء للملك، ثم جاءت المعارك الحزبية فشحنته بالقرف والكفر بالجميع، وكان يقول: مصر جديرة بالحب ولكنها لم تجد بعد من يحبها لذاتها.
Página desconocida
إسماعيل قدري لا يقرأ بغزارة حمادة، ولكنه يفكر فيما يقرأ ويناقشه، وقد عبر عن موقف عندما قال: الثقافة الحديثة تحتشد للهجوم على حصن الدين والتراث.
وزاد قوله تفسيرا فقال: إنها تبدأ بالخرافات فتبددها ثم تتصدى للمسائل الكبرى.
فسأله صادق صفوان بقلق: هل أخذ الشك يوسوس في صدرك أنت أيضا؟
فتملاه بنظرة طويلة ثم قال: ليس للفكر حدود.
فقال طاهر عبيد ضاحكا: دعني أهنئك!
فقال مقطبا: الدين موضوع، والله موضوع آخر.
فضرب صادق كفا على كف وقال: اسمعوا العجب.
يبدو أنه يفكر ويشك، ولم يسلم من شكه إلا الوفد، ومال في اطلاعه إلى المعرفة أكثر من الفن والأدب، ومن ناحية المستقبل ركز على القانون باعتباره الباب المفضي إلى المجد والسياسة، ونحن نؤمن به ونثق في قدراته وفي بلوغه هدفه في النهاية، وعلى حين تستوي الثقافة كغاية في حياة حمادة الحلواني، فهي تلعب في حياة إسماعيل دور الدعائم التي يقيم فوقها بناءه الشامخ، إنه رجل عمل لا قلم، وأحلامه مقدمات لأفعال، وهو يتقدم بخطوات راسخة رغم فقره وانعدام زاده من ذوي الجاه والنفوذ. •••
ومع الثقافة اشتعلت نيران الجنس، أقسى من الشك وأعند إلحاحا، تطاردنا ليل نهار، وزاغت الأبصار متطلعة إلى مجالات الجنس اللطيف، كلما لاح في نافذة أو خطر في طريق. تسترق النظر إلى الوجوه والسيقان وتكوين الأجسام التي تنبض به الملابس الفضفاضة، أصبح إسماعيل موضع حسد ولكنه لم يكن دون الآخرين معاناة.
وذات يوم جاءنا الصباغ بكتاب متسائلا: هل سمعتم عن هذا الكتاب؟
Página desconocida
غلافه من الخارج يدل على أنه كتاب تاريخ، وقد غطي به لإخفاء عنوانه الحقيقي وهو رجوع الشيخ. ونصحنا بقراءته سرا. تبادلناه واحدا بعد الآخر. مررنا بسرعة على أبوابه لنقع في قبضة حكاياته، أججت نيراننا وأمدتها بوقود من العفاريت. ولما تأكد الصباغ من ضياع العقول شرع يحدث عن حي البغاء، وسأله صادق ذاهلا: والحكومة تعلم؟
فأجاب نبرة خبير: الحكومة تعطي الرخص وتحفظ الأمن بالمكان.
ويوم الخميس عدلنا عن سينما المنظر الجميل إلى كلوت بك ، تقدم وسرنا خلفه ونحن من الدهشة في غاية ومن الخوف في نهاية، هذه البيوت القديمة مرصعة مداخلها بالنساء من كل شكل ولون، وهمس حمادة: ما أشد الزحام.
فقال صادق: لنرجع بسرعة قبل أن نفتضح!
وقال الصباغ ساخرا: هل يتوقع أحدكم أن يقابل أباه هنا؟ .. كل زبون هنا في حاله، تقدموا ولا تكونوا جبناء .. اختاروا وبسرعة.
ووجدنا أن الاختفاء في بيت أخف من البقاء وسط الجمهور، والتقينا عند رأس الطريق ونحن نتبادل نظرات باهتة ولزمنا الصمت حتى جمعتنا مائدتنا في قشتمر، ونفد صبر كل واحد في معرفة ما وقع للآخرين، وكان صادق أول المعترفين: الأولى والأخيرة. - لماذا؟ - من ناحية الجمال لا بأس بها، الحجرة على البلاط، فراش ومرآة وكنبة قديمة، أشارت إلى طبق ساج فوق الكنبة وطلبت بقلة ذوق أن أضع النقود، وضعت النقود، وبسرعة نزعت الفستان الأحمر عن جسم عار، استلقت مشيرة بيدها إشارة تدل على السرعة، أنا بردت وكأني ما عرفت الشهوة، قلت بأدب: أشكرك أنا ذاهب، فجلست وهي تقول: مع السلامة .. أعوذ بالله .. هي الأولى والأخيرة.
روحنا عن أنفسنا بالضحك فتشجع طاهر وقال: وجدت فلاحة على ذقنها وشم باسمة الثغر، اتجهت نحوها فسبقتني إلى السلم، لم أهتم بالحجرة، قالت لي: أنت مثل البغل رغم صغر سنك، وضحكت فضحكت ولكني تضايقت، وبردت كما برد صادق، وشعرت بغربة شديدة، وسرعان ما تغير رأيي فقلت لها: لا مؤاخذة أنا غير مستعد هذه المرة، فقالت: أنت حر ولكن لا بد من الدفع، فدفعت القروش وأسرعت نحو الباب وهي تقول لي: لك قفا يغري بالصفع، فزدت من سرعتي كالهارب.
وضحكنا طويلا، وقال صادق: الأولى والأخيرة أيضا؟
ولكنه لم يجب، وقال حمادة الحلواني: تجربة موفقة من حسن الحظ، أعجبتني عيناها، وكانت مؤدبة ومشجعة، تركتني أحضنها ونحن واقفان، وتم كل شيء بسرعة .. لا بأس!
واتجهت الأبصار نحو إسماعيل قدري ونحن نتوقع أفضل النتائج بوصفه صاحب الخبرة الوحيد فينا، وضحك أكثر من عادته وقال: فتاتي صغيرة السن والجسم مقبولة، ولما ضمتنا الحجرة معا دخلت امرأة بين الأربعين والخمسين، ضخمة الجسم قوية الشخصية، فهرعت إليها الفتاة بأدب ودار بينهما تهامس عن العمل غالبا ثم غادرت الحجرة، وأصارحكم بأني رغبت في المرأة التي لم يفسدها الكبر بعد، وبجرأة قلت للفتاة: إنني أريد المرأة، فدهشت وقالت: إنها المعلمة وليست لذلك. فطلبت منها أن تبلغها رغبتي، فترددت قليلا ثم ذهبت. وما لبثت المرأة أن دخلت وأغلقت الباب وهي تقول بصوت غليظ: ادفع الضعف. فقلت لها: إنني لا أملك إلا عشرة قروش. فلم ترفض وضممتها إلي وذراعاي لا تحيطان بها من جسامتها، وكنت في غاية الانبساط.
Página desconocida
فهتف طاهر عبيد: أنت إنسان غير طبيعي.
وانقطع عنا الصباغ بسبب ما، ولكننا لم ننقطع عن كلوت بك. صادق صفوان الوحيد الذي لم يكرر التجربة بعد أن أثار الحي كله اشمئزازه ولم يتفق مع تدينه وذوقه، طاهر لم يتخلف ولكنه كان في الغالب يجلس في مقهى بلدي يسمع العربي ويتأمل الخلق، وعن له رأي في الموضوع فقال: هذا معرض للنساء والرجال في غاية الشذوذ والسوء، فعلى مريده أن يفقد وعيه أولا قبل أن يقدم عليه. •••
ومع السياسة والثقافة والجنس أشرق علينا الحب بنوره، وأول من ثمل بخمره المطهرة كان صادق صفوان، يوم رأى إحسان بصحبة أمها ست فاطمة يغادران مسكنهما بشارع أبو خودة. صاحبنا كان في السادسة عشرة وإحسان بنت ثلاثة عشر، كلما مررنا قريبا من المسكن في طريقنا إلى قشتمر ارتفعت عيناه بين خدين مضرجين إلى النافذة بالدور الثاني، وإحسان أنضج من سنها بكثير، ممتلئة الجسم في رشاقة، ووجهها مستدير مائل للبياض، وشعرها كستنائي غزير، وعيناها عسليتان صافيتان، وثغرها غاية في الدقة، يوصف عادة بأنه خاتم سليمان، ووضح للجميع أن البنت معجبة به، أو على الأقل معجبة بإعجابه بها، وقال لنا صادق بنشوة: البنت مثل التفاحة.
وكلها حيوية، وعرفنا أن أباها يدعى إبراهيم الوالي، موظف صغير كثير العيال، وسأله طاهر عبيد: هل عرفت الآن ما هو الحب؟
فقال صادق في غير قليل من الارتباك: أنا منبهر بخفتها، وتدور بي الأرض عندما تلقي علي نظرة ، وكلما تذكرتها شعرت بسعادة عجيبة.
فقال طاهر عبيد: شعرت بمثل ذلك نحو ماري بكفورد، وبشيء شبيه به نحو صديقات شقيقتي في زمن مضى.
فقال صادق: إنك لم تحب بعد.
وقال إسماعيل قدري: أنا أسيطر على نفسي بفضل غابة التين الشوكي وكلوت بك وانهماكي في العمل. لي جارة بنت الجيران ولكن لا صبر لي على إهمال عملي والوقوف في النافذة.
والتفت حمادة الحلواني نحو صادق قائلا: ها أنت تحب، فما الخطوة التالية؟!
فقال ضاحكا: صبركم، أنا لم أفق بعد.
Página desconocida
وطاهر عبيد أثارنا بشعره قبل أن يثيرنا بحبه، فاجأنا بنشر أول قصيدة غزلية له في مجلة الفكر، ظهرت القصيدة تحت عنوان «الجميلات في الحديقة»، في مجلة عريقة منتشرة ومعروفة بالدعوة لروح العصر والتقدمية. إنه تقدير بكل معنى الكلمة، واهتز ركن قشتمر سرورا وطربا، وقال حمادة: نحن نشهد ميلاد شاعر.
وسأله صادق باهتمام: هل علم بالنشر والداك؟!
فضحك طاهر وقال: الإعجاب بموهبتي في نطاق الفيلا يسعدهما ويعتبرانه تمهيدا لموهبتي المدخرة للطب اللعين، ولكن بابا وجم حينما اطلع على القصيدة في باب الشعر بمجلة الفكر وقال بامتعاض شديد: هذا شغل أدباتية ولا يليق بمقامك، فقلت له: ولكن شوقي بك شاعر يا بابا، فقال: إن شوقي أمير من البيت المالك أولا وأخيرا، أما الشعر في ذاته فحرفة الشحاذين.
على أي حال لم يفسد عليه ذلك سعادته بنشر قصيدته، ونصحه إسماعيل قدري بزيارة المجلة للشكر والتعارف وتوثيق العلاقة ففعل، وهناك اكتسب علاقات زمالة جديدة، وعرف المبادئ التقدمية من خلال نخبة من المؤمنين بها، وتعاطف مع الإرادة الطامحة لهدم العالم القديم كله وإقامة بناء جديد موضعه على أسس علمية معاصرة، وكأنما ود أن تبيد مع العالم القديم أفكار أبيه الكئيبة، ولكن التعاطف لم يتجاوز به حدود الصداقة للمبدأ ومعتنقيه دون الالتزام بمبادئه أو الاندماج في سلوكياته. وفي ذلك الوقت خرج من شرنقة الهيام الغامض إلى حومة تجربة حقيقية. رآه صادق يوما ينتظر أمام صيدلية العباسية ليرى رئيفة حمزة وهي تغادرها. بنت سمراء رشيقة الملامح فائرة الجسم ثائرة النهدين خفيفة الحركة، وتماثل طاهر في سنه على الأقل، لا يجهلها أحد من أهل العباسية تقريبا، فهي تقيم مع أمها في شقة بعمارة متوسطة العمر تطل على العباسية من ناحية وعلى القرافة من ناحية أخرى، وهي ممرضة تمارس مهنة إعطاء الحقن للمرضى عن طريق الصيدلية، ويقال إنها تعمل أيضا في مستشفى، سيئة السمعة دون أي دليل، ولكن هكذا يجري الحال في العباسية، فما دامت تعمل وتنتقل من بيت إلى بيت بخفة ووجه مليح وفستان ناطق فهي سيئة السمعة دون شك. طاهر يعترضها بجسمه المائل للبدانة ونظراته الحالمة، ومن ذا الذي لا يعرف طاهر بن عبيد الأرملاوي باشا؟ إنه ينظر ويبتسم وهي تعرض عنه دون غضب، وتستمر المطاردة ويلوح الأمل، هكذا يصبح في مجلسنا عاشقان، وتتجلى في أحوالهما أعراض السحر والنشوة. وقال له حمادة الحلواني: رئيفة تحتاج إلى مكان آمن .. أعني شقة خاصة مثلا!
فقال إسماعيل قدري صاحب الخبرة: هي أدرى بما تحتاج إليه، ولكن يلزمك مصروف إضافي.
فقال طاهر باستياء: كأنكما تحدثان عن مومس!
فلاذا بالصمت في دهشة، وقال صادق صفوان معتذرا عنهما: لا تؤاخذهما فأنت تعرف ما يقال.
فقال طاهر بوضوح: كلام فارغ، أنا أحب رئيفة كما تحب أنت إحسان.
وألزم قوله كل أحد حده رغم وساوسه الباطنة، ورجع يقول: أقبلت عليها بادئ الأمر بنية سيئة، تبعتها من بيت إلى بيت دون جدوى، وتبين لي أنها فتاة عاملة؛ فهي إما تمارس عملا أو ترجع إلى بيتها، الناس ألسنتهم لا ترحم، وتقذف بالتهم بلا دليل، والحق أنها لما ابتسمت لي غزاني شعور جديد فأدركت أنني أحبها.
وتم التعارف وتواعدا للقاء في حديقة بيبرس، وقالت له: الحرص واجب، وأنا أخدم الأسر الكريمة، وألسنة الناس رديئة.
Página desconocida
ربما تصور بعضنا أنها فتاة ماكرة وأنه شاعر طيب وابن ناس لا خبرة له بمكر الحواري. وتحدانا طاهر قائلا: هاتوا لي دليلا واحدا.
حقا لم يضبطها أحدنا مع شخص في شارع خال ولا سمع عنها واقعة محددة، وتمنينا لصديقنا السلامة، وتبادلا هدايا رمزية وقال لنا وهو ثمل بنشوته: إني ماض معها إلى النهاية المشروعة!
ثم بعد صمت: وهي تعرف أسرتي وتقدر ظروفي ولكنها سألتني في شيء من الحذر: هل تستطيع أن تقف أمام إرادتهم؟ فأكدت لها أنني أستطيع كل شيء.
ويحق لنا أن نذهل لهذا التحول الكبير. وقال له حمادة الحلواني: إنك ما زلت في السادسة عشرة!
فقال ببساطة: للزواج وقته المناسب.
فقال صادق: الوقت المناسب بالنسبة لها مختلف.
فقال ضاحكا: الحب لا يعترف بذلك.
وسأله إسماعيل قدري: هل تفهمك كشاعر؟ - على الأقل لا تسيء فهمي، ويعجبني فيها بصفة خاصة قوة شخصيتها.
فقال حمادة: قد تفصل من شجرة الأسرة بسببها؟ - لا يهمني ذلك.
وسأله صادق مداعبا: هل عرفت الآن الحب؟
Página desconocida
فقال ضاحكا: لعله جنون أو مرض، ولكنه على أي حال يمثل السعادة في ذروتها. - وماري بكفورد؟ .. وزائرات الحديقة؟
فقهقه قائلا: هذه فاتحات شهية.
فتساءل إسماعيل قدري باهتمام: هل يختلف عن الجنس؟ - إنه شجرة ملائكية نواتها الجنس.
وهنا اعترف لنا صادق قائلا: لقد سألت والدتي أن تقرأ الفاتحة مع ست فاطمة أم إحسان، وتفكر والدي طويلا ولكنه لم يعترض.
ووقع حمادة الحلواني في شرك الحب وهو يناقش المحبين. علمنا أنه شغف بسميرة المعروقي، وقال لنا: فيها جميع المواصفات المطلوبة.
وسميرة بنت ستة عشر أيضا، من الطبقة الوسطى، وعرف عنها أنها تزور الجيران سافرة الوجه وحدها فاعتبرت متفرنجة، وكانت تفعل ذلك بموافقة الوالدين ورغم اعتراض ابن عم لها غيرة على سمعة الأسرة، وطبعا حمادة معروف كنجل يسري باشا الحلواني الثري الكبير والبطل الوطني. وعن طريق خادمتها دعاها إلى لقاء في شارع السرايات الذي يخلو مساء للعشاق.
من بدء الحكاية شعرنا بأن حمادة يخوض مغامرة فريدة ولكنها لم تمتحن بالحب الحقيقي الذي اقتحم قلبي صادق وطاهر، على أي حال تلاقيا في شارع الحب ولكن التجربة أجهضت قبل أن تبدأ، ما كادا يسيران دقائق معدودة حتى انقض عليهما ابن عم الفتاة كالوحش الكاسر، لطم الفتاة على خدها ففقدت توازنها وتهاوت فوق الطوار، ثم انهار على صاحبنا باللكمات حتى أدركهما شرطي الدرك ، وذاعت الفضيحة من فم إلى فم ككرة القدم، وغضب يسري باشا غضبا شديدا وقال لابنه: يعتدي عليك وأقف مكتوف اليدين لأننا نحن المعتدون، ألا تدري كيف تكون المعاملة مع بنات الناس؟ ومن هو المعروقي هذا؟ .. يا لك من طفل مخيب للآمال.
ونال صاحبنا من المعركة كدمات في الخد والشفة فاضطر إلى الاعتكاف أياما في السراي، ولما رجع إلينا لم نتمالك أنفسنا من الضحك، وسأله طاهر باهتمام: ماذا أنت فاعل؟
فأجاب ببرود: لا شيء. - ألا تحبها؟
فقال ضاحكا: تلاشى كل شيء في المعركة. - ألم تتبادلا أي كلام؟ - مجرد التعارف والإعجاب ثم كان ما كان. - لعلها تنتظر خطوة جديدة من ناحيتك؟ - لن يحدث أي جديد.
Página desconocida
فقال صادق: المسألة أنك لم تحب.
فهز منكبيه قائلا: ربما.
ولم يغير إسماعيل قدري من سيرته، ويقول ببساطة: الجنس شيء عظيم ومفهوم وهو مكتف بذاته.
فيقول طاهر: رأي عجيب لإنسان له ثقافتك وعقلك.
فيقول بترو: الجنس يضعك في صميم الوجود ولا وزن عندي لما يقول المنفلوطي .. لعله شغل عن الحب أو لم يخلق له. •••
وفي غمرة الهموم الخاصة الممتعة خفق فؤاد الوطن خفقة أليمة عميقة بموت الزعيم سعد زغلول. شد ما ذهلنا واشتعلت جوانحنا بنار الحزن والحسرات، حتى طاهر عبيد وجم وأسف بعد أن أظلت زعامة الراحل الجميع في الائتلاف الوطني وأحبه الخصوم مع المريدين والأتباع. وكل منا له حكاية عن الخبر في أسرته وما أسال من دموع. كل عين بكت سعد وكل قلب امتلأ بالشجن، وسأل صادق طاهر عبيد: كيف تلقى عبيد باشا وإنصاف هانم الخبر؟
فأجاب: بالحزن طبعا، وقال أبي إنه في أعوامه الأخيرة كفر عن ماضيه كله وأصبح أبا للشعب والوطنية.
وذهبت جماعتنا إلى ميدان الأوبرا وانحشرنا في الجموع الحزينة الواجمة ننتظر، وعندما لاح النعش فوق المدفع ارتفعت صرخات الأسى إلى سماء أغسطس الصافية التي تقطر حرارة ورطوبة، وجرفنا التيار وراء الجنازة إلى شارع محمد علي، وهناك اختلطت الهتافات بصوات المطلات من النوافذ والشرفات، ورجعنا إلى العباسية صامتين بلا سعد. ونخوض أمواجا جديدة من تاريخنا المفعم بالحرارة والقلق، فنبايع خليفة سعد ونرقب ما يلوح في السماء من نذر وبشائر.
وفي عام البكالوريا ضاعفنا الهمة تطلعا للنجاح، واجتهد إسماعيل قدري مستهدفا التفوق ليلتحق بالحقوق بالمجان، ولكن سوء الحظ اعترض سبيله المرسوم بتدبير ماكر؛ ففي ختام الثلث الأول من العام الدراسي لزم قدري أفندي سليمان الفراش لمرض في القلب، اختل نظام إسماعيل وشغل بأبيه، وازدادت متاعب الأسرة بتكاليف الطبيب والأدوية، وحدثنا إسماعيل عن مرض أبيه بتأثر شديد، عن هزاله، وورم ساقيه، وضعف الأمل في شفائه. والحق أن قدري أفندي لم يسترد صحته، وأسلم الروح في أواخر مارس قبل الامتحان بشهر تقريبا. وأساء مرضه وموته صديقنا إساءة لا تجبر، نجح في البكالوريا وجاء ترتيبه دون المتوقع ودون ما يستحق، وعجز معاش والده عن توفير المصروفات له، وبالكاد وفى احتياجات الأسرة الضرورية. وسئل عما ينوي فعله فأجاب بأسى: لا توجد فرصة للمجانية إلا في كلية الآداب.
وشعرنا جميعا بأن همة عالية قد أهدرت عبثا، وقال له صادق مواسيا: لا تحزن، ففي أي مجال فرصة للتفوق.
Página desconocida
فقال مستسلما: يا لها من ضربة قاضية!
أما بقية الأصدقاء فقد التحق طاهر بكلية الطب بسعي أبيه وإصراره، وقال الباشا لابنه: نجاحك وحده ودون سعيي لا يؤهلك لكلية الطب، ولكنك قادر على التفوق إذا عزمت.
فقال له طاهر: ولكنني شاعر يا بابا.
فقال الباشا بحدة: حتى مع التسليم بأنك معتل بهذه العاهة فلا يمنع ذلك من دراسة الطب، أعرف أطباء مهووسين مثلك ولكنهم أطباء على أي حال.
وسأله حمادة الحلواني: ترى كيف تدرس الطب على رغمك؟
فأجاب ضاحكا: دعنا من الطب وسيرته، المهم أن مجلة الفكر ترحب بأشعاري ورئيس تحريرها يحثني دائما على الإبداع، والمعركة الفاصلة مع أبي آتية لا ريب فيها.
ودخل حمادة الحلواني كلية الحقوق بلا أدنى رغبة فيها ولا في غيرها، قال: لأسكت أبي ليس إلا، كف الآن عن إغرائي بالاهتمام بعمله وقنع بأخي توفيق كخليفة له، وقد دخلت الحقوق لأوهمه بأنني صاحب هدف هام أيضا.
قال له صادق : بوسعك أن تعمل في النيابة والقضاء.
فقال ضاحكا: هدفي أكبر من ذلك، أنا عاشق الثقافة والحياة والحرية. - الحرية؟! - سمها مؤقتا البطالة إذا شئت.
مع الزمن مضى حلمه يتبلور ويتجسد، أن يعيش كالأعيان، يقطف من كل بستان زهرة، بالطول والعرض، بالروح والجسد، دون التزام أو ارتباط. وقال إسماعيل قدري: إنه قادر على تحقيق حلمه.
Página desconocida