ولما رجع إلى شقته مساء عقب سهرته في قشتمر لم يجد إلا الخادمة التي أخبرته أن الست أخذت إبراهيم وصبري وذهبت إلى بيت والدها بشارع أبو خودة. ولم يصبر إلى الصباح فذهب إلى أبو خودة ليجد إبراهيم أفندي الوالي وست فاطمة في انتظاره. أي حزن وجد! قال إبراهيم أفندي: إحسان خير بناتي ولكنها سيئة الحظ.
فقال صادق ليلطف من حرارة الجو: هي خير النساء جميعا.
وشرح همه بالتفصيل الضروري. وعلى أي حال رجعت إحسان إلى بيتها في اليوم التالي بصحبة صادق، أما هو فبدأ من فوره في تنفيذ ما عقد العزم عليه، وعرفنا الأخبار في توالدها وتتابعها؛ فقد صارحته ست عيشة بأن ما لديهم من نقود يكفي بالكاد لتجهيز ثياب العروس، فتعهد بتأثيث الشقة الجديدة، وطالبت ليلى بأن تكون الدخلة في العطلة الصيفية، واعتذر هو عن عدم إقامة أي احتفال احتراما لمشاعر زوجه الأولى، وهنا قال طاهر عبيد: عندنا كازينو العائلات بالظاهر.
وقد كان، وتم التعرف بيننا وبين ليلى، وتناولنا عشاء طيبا، وتجول بهما حمادة في سيارته في خلوات القاهرة ثم رجع بهما إلى العش الجديد. هكذا وجدت حيوية صديقنا المتدين العفيف إشباعا مشروعا، وتمتع صديقنا بعروسه في الليالي المظلمة على صراخ زمارات الإنذارات ودوي المدافع المضادة. وفي عز الشتاء بغتنا يوم 4 فبراير بدباباته وعودة الوفد المفاجئة إلى الحكم. ارتفعت الأصوات في قشتمر منا ومن سائر الزبائن وتضاربت الأقوال. الناس سعداء لعودة الوفد ولكنهم واجمون أمام ما يقال من أنه جاء على دبابات الإنجليز. ولم يتردد طاهر عن أن يقول ساخرا: ألا ترون أن جميع رجالنا خونة؟!
وقال صادق: من العسير جدا أن يتهم إنسان مصطفى النحاس بالخيانة، ولكني لا أدري ماذا أقول.
وقال حمادة الحلواني: كل وزارة تجيء فبأمر الإنجليز، فلماذا نتكدر إذا توافق أمرهم مع رغبة الشعب؟
أما إسماعيل قدري فلم يفتر حماسه ولا ساوره شك. لقد شك في كل شيء إلا الوفد. يبدو أمام الأفكار كالفيلسوف، ولكنه أمام الوفد مؤمن بسيط من عامة الشعب المتحمس، وقال بثقة: لا تشكوا في الوفد وشكوا ما شئتم فيما يقال!
وذات ليلة دهمتنا أول غارة حقيقية. استيقظنا على زلزلة القنابل. هذه انفجارات في الأرض تخفق بها بيوتنا وليست طلقات مدافع مضادة في الهواء، إنه الموت يهدر من حولنا، وهرعنا لا نلوي على شيء إلى المخابئ. وفي مخبأ واحد اجتمع إسماعيل وأمه وطاهر ورئيفة ودرية، وصادق وعروسه، وإحسان وإبراهيم وصبري وست زهرانة. حفر الرعب حفائره في صفحات وجوهنا، وتمثل لنا الموت في قربه وعنفه وصوته. صوتت النساء وصرخ الصغار وتجملنا نحن بالخرس. ولم تستمر الغارة أكثر من خمس دقائق وربما أقل، ولكننا كنا كالعاجز عن التنفس لغوصه تحت سطح الماء. ولدى أول نفس نتنفسه في استرخاء وإعياء قال طاهر بصوت متهدج: هل يقضى علينا بأن نعيش في الخيام؟!
وبعودتي إلى الواقع، ورجوعي إلى الوعي، وجدتني أعيش بين ليلى وإحسان. كلتاهما ترتديان قميص النوم ومتلفعتان بروب. الشعر مشعث والوجه شاحب. وعلى حين تبدت ليلى جميلة رغم كل شيء، فإن إحسان ذاب جمالها في برميل من الدهن، وخرج صادق من هول الغارة ليجد نفسه في حيرة ممزقة بين أفراد أسرتيه المتباعدتين، ذهب وجاء، وجاء وذهب، وتعلق به إبراهيم وصبري ولاح في وجهه الشاحب الارتباك والحرج، ولم تخلصه من ورطته إلا زمارة الأمان التي دوت في سكون الهزيع الأخير من الليل لترد الناس من الاحتضار إلى الحياة مرة أخرى. وقسم صادق وقته بين أسرتيه، يقضي يومين في شقة ليلى ويومين في شقة إحسان، وكان عليه أن ينتظر طويلا حتى تخلو حياته العائلية من توترات الغيرة، وأخذ ميزان الحرب يميل لصالح الحلفاء، ومضت أشباح الغارات في التلاشي، وكالعادة أقيلت وزارة الوفد، واستقرت حياتنا في قشتمر بين الراحة والأسى، وأطل جيل الأبناء إبراهيم وصبري ودرية على البلوغ والمراهقة، ونوه صادق وطاهر الفخوران بتفوق الذرية في الدراسة وولعها بالثقافة، ولكن ... - إنهم يشهدون الحياة السياسية في تفسخها، ولا انتماء لهم لحزب من الأحزاب. - لديهم تجمعات جديدة كالإخوان والماركسيين ومصر الفتاة. - ألسنتهم طويلة وسخريتهم مريرة.
ووضح لنا أن صادق يبذل همته ليخلق من ابنيه رجلين من رجال الأعمال، أما طاهر فكان يترك درية لنموها الذاتي في استقلال تام قانعا بالمشاهدة والمساعدة عند الحاجة، وما زال نجاح الصديقين المميزين يتأكد في الثراء والفن، وحتى إسماعيل فاز بترقية إلى الدرجة السابعة في حكم الوفد. غير أن إسماعيل كان يدخر لنا مفاجأة بدت في وقتها آية في الغرابة. فذات ليلة أشار إليه حمادة الحلواني وقال ضاحكا: من سيارتي وفي شارع الجبلاية رأيت هذا الأفندي الداهية مع امرأة يتناجيان!
Página desconocida