Historia de la Filosofía Moderna
قصة الفلسفة الحديثة
Géneros
وما بيت سليمان هذا الذي يشير إليه الرجل؟ إنه يقوم في أطلانطس الجديدة بما يقوم به البرلمان في لندن، فهو مقر حكومة الجزيرة، ولكنها حكومة ليس بين أعضائها سياسيون، وليس في البلد أحزاب، فلست ترى مثل هذه الضجة الصاخبة التي تلازم عملية الانتخاب، فالطريق المؤدية إلى أوج الشهرة العلمية مفتوحة أمام الجميع، وليس يظفر بوظائف الدولة إلا من سار في تلك الطريق من أولها إلى آخرها. إنها حكومة الشعب للشعب يديرها صفوة منتخبة من الشعب، هي حكومة يملك زمامها رجال الفن والمهندسون والفلكيون وعلماء طبقات الأرض والنباتيون والأطباء والكيماويون والاقتصاديون وعلماء الاجتماع والنفس، ثم الفلاسفة، وهي حكومة لا تصب سلطانها على الإنسان، إنما توجه حكمها إلى الطبيعة التي فرضت دراستها على الإنسان فرضا، فرضها الله الذي «وضع الدنيا في قلوب الناس.» ويعني بهذه العبارة أن الله قد كون عقل الإنسان، بحيث يستطيع تصوير الكون كما تستطيع العين رؤية الضوء. قال محدثنا: «إن الغاية من حكومتنا إنما هي معرفة الأسباب والحركات الكامنة في الأشياء، وتوسيع نطاق مملكة الإنسان.» وهذه العبارة هي خلاصة الكتاب كله، بل هي حجر الزاوية من فلسفة بيكون بأسرها، أعني أن يشتغل حكام الدولة بدراسة الطبيعة ليستخدموها لخير الإنسانية ونفعها، فيدرسون أفلاك السماء ونجومها، ويحاولون استخدام قوة الماء الساقطة في إدارة الأرحاء، ويدرسون ما ينتاب الإنسان من أمراض وكيفية الوقاية منها، ويبحثون في استنباط أنواع جديدة من الحيوان وأنماط من النبات، وغير هذا وذاك من ألوان الدراسة التي تعود على الناس بالخير الوفير. قال الرجل: إن رجال الحكومة في هذا البلد لا يدخرون وسعا في محاولة تقليد طيران الطير، حتى أخضعوا أجزاء الفضاء لسلطان الإنسان، وإن لنا بفضلهم لسفنا تسبح مع الحوت تحت أغوار الماء ... وتنتج جزيرتنا ما تستهلكه وتستهلك ما تنتجه، فلا مبرر أن تزج برجالها في معمعان الحروب من أجل الأسواق الخارجية وترويج التجارة ... ويقضي نظام الجزيرة أن تبعث إلى البلدان الأجنبية طائفة من علمائها يتبدلون مرة في كل اثني عشر عاما، وهؤلاء يزورون شعوب الأرض قاطبة، فيتعلمون لغاتهم ويدرسون علومهم وصناعاتهم وآدابهم، ثم يعودون إلى بلادهم يحملون إليها ما أفادوه في رحلتهم حيث يتقدمون به إلى رجال «بيت سليمان» لتمحيصه وتطبيق النافع منه في بلادهم، وبهذا تستطيع أطلانطس الجديدة أن تسرع الخطا نحو الكمال المنشود.
تلك صورة مقتضبة موجزة يقدمها لنا «بيكون» عن المدينة الكاملة كما تخيلها وتمناها، وإنه ليلهج فيها بما حلم به الفلاسفة جميعا: شعب يقوده حكماؤه في رخاء وفي سلم، لا تشوبه شائبة من حرب أو قتال، يتمنى «بيكون» كما تمنى قبله كثير من الفلاسفة أن يسود العلم بدل السياسة، وأن يتربع العالم الفيلسوف على عرش الملك والسلطان.
نقد «بيكون»
تصدى كثيرون لنقد طريقة «بيكون»، ولكن كان أعنفهم وأقساهم جميعا اللورد ماكولي الكاتب الإنجليزي المشهور، فقد تناول طريقة «بيكون» بالنقد والتجريح حتى لم يبق له شيئا من الفضل، فهو يتساءل: هل أتى بيكون للإنسانية بجديد مبتكر؟ ألم تكن طريقته الاستقرائية التي ملأ بها الدنيا صياحا معروفة منذ أقدم العصور، بل منذ كان الإنسان على وجه الأرض إنسانا مفكرا عاقلا؟ إنه لعمر الحق لم يزد في دستوره العلمي الجديد على «تحليل لما يعمله الناس جميعا من الصباح إلى المساء.» ويسوق ماكولي لذلك مثلا فيقول: يحس الرجل الساذج مرضا في معدته، وهو لم يسمع قط باسم بيكون، فتراه يسير وفق القواعد التي يذكرها «بيكون» على أنها طريقة جديدة للبحث، حتى يقتنع بأن الفطير الذي أكله يوم كذا قد كان سبب علته: «لقد أكلت فطيرا في يوم الاثنين ويوم الأربعاء، فأرقني عسر الهضم طول الليل (هذه الخطوة توافق مرحلة الإثبات عند بيكون)، ولكني لم آكل فطيرا في يومي الثلاثاء والجمعة، فكنت سليما معافى (هذه هي مرحلة النفي)، وقد أكلت منذ يوم الأحد قليلا جدا، فأحسست في المساء ألما خفيفا، غير أني يوم عيد الميلاد لم أكد آكل في طعام الغداء إلا فطيرا، فمرضت مرضا أشرف بي على الخطر (مرحلة المقارنة). ويستحيل أن يكون ذلك ناشئا عما شربته من نبيذ؛ لأنني أشرب النبيذ كل يوم منذ أعوام طوال فلم يصبني منه أذى (مرحلة العزل).» وهكذا يسلك الأمي الجاهل في شئون حياته اليومية نفس الطريق التي رسمها «بيكون»، ولهذا لا يتردد «ماكولي» في الحكم على طريقة «بيكون» بالتفاهة وقلة الخطر، وأن صاحبها قد أسرف في تقديرها إسرافا جاوز كل حد معقول.
ولكن ماكولي قد غلا في نقده غلوا شديدا، فليس يستطيع الرجل الساذج أن يصطنع في حياته الاستقراء بهذه الدقة، وإن هذا المثل الذي ساقه للرجل الجاهل لأرفع جدا وأدق جدا مما يستطيعه عامة الناس. ومن جهة أخرى فإن الاستقراء الذي ضرب له مثلا لأقل جدا مما يريده «بيكون» بطريقته، فإن «بيكون» لا يكفيه هذا الطريق المعبد الممهد، بل إنه في مثل هذه الحالة يفرض أسبابا عدة غير النبيذ مما قد يكون سببا في علة المعدة التي عزاها الجاهل إلى الفطير بعد أن تبين له أنها لم تكن من النبيذ. فلم لا يكون السبب لون آخر من ألوان الطعام؟ ولم لا يكون سوء الطهي، ولم لا يكون السرعة في تناول الطعام، ولم لا يكون ناشئا عن حزن ألم بالرجل عند الغداء؟ إن طريقة «بيكون» تشترط في البحث سلسلتين من التجارب: تكون الأولى بالاستمرار في أكل الفطير، ثم استبعاد ألوان الطعام الأخرى واحدا بعد واحد في كل وجبة من وجبات الطعام، ففي يوم الاثنين مثلا يتناول الرجل غذاءه إلا السمك، ويتناول يوم الثلاثاء نفس الغذاء إلا اللبن، ويوم الأربعاء يستبعد النبيذ، وهكذا يستثني في كل يوم نوعا واحدا فقط، فإذا ظل يلازمه سوء الهضم في الحالات كلها، حق له أن يحكم بأن السمك وحده أو اللبن وحده أو النبيذ وحده لم يكن سببا في مرضه، ولكن إن لم تكن هذه الأنواع سببا في المرض وهي فرادى، فقد يؤثر الواحد منها حين يشترك مع آخر، وإذن فينبغي أن يتابع الرجل تجاربه فيواصل أكل الفطير، ثم يستبعد ألوان الطعام زوجا زوجا، وبعد ذلك يستبعدها ثلاثة ثلاثة، ثم يأكل الفطير وحده عدة أيام، فإن لازمه سوء الهضم حق له أن يرجح (يرجح فقط دون أن يقطع) أن الفطير هو سبب المرض.
هنا ينتهي جانب من جوانب البحث، ولا بد للرجل أن يستأنف التجربة على نحو آخر، فيحذف الفطير في كل مرة، ويقلب الصنوف الأخرى حذفا وإضافة بكل صورة ممكنة، مع إدخاله في تجاربه ظروفا مختلفة تحيط بالأكل، فيوما يتغذى بعد مشي طويل، ويوما بعد ركوب كثير، ويوما في جو من المرح والسرور، ويوما في هم وحزن، وتارة يأكل في سرعة، وطورا في بطء، وهكذا يظل يجرب مئات ومئات ومئات من الحالات مع حذف الفطير في كل حالة منها، فإذا وجد أن مرضه قد امتنع في تلك الحالات جميعا على اختلاف ظروفها انتهى إلى نتيجة محققة: هي أن الفطير هو العلة في سوء الهضم بغير شك. •••
يعتقد «بيكون» أن العلم وسيلة لغاية عملية في حياة الإنسان، «العلم قوة» وهو أطول القوى بقاء، فيستطيع الإنسان أن يكون سيد الطبيعة بفهم كنهها الحقيقي فهما صحيحا. وعنده إذن أن دراسة العالم الخارجي لا تقصد إلا لكي تعين العقل البشري على فرض سيادته على الطبيعة.
وقد كان «بيكون» بهذا القول يعبر عما كان يتردد في خواطر الناس؛ إذ نهضت عدة عوامل تدل الإنسان على أن سيادته على الطبيعة ممكنة ميسورة، منها: استكشاف القارة الجديدة، واختراع البوصلة، والبارود، وفن الطباعة. هذا وقد كشفت لهم المناظير المكبرة عن خفايا السماء وألغازها، وبدأ كل شيء يسلم زمامه لعقل الإنسان. ولا بد للإنسان أن يتخذ من العلم رائدا يهديه سواء السبيل في تجوابه في أنحاء الطبيعة.
بهذه النزعة العملية تفوق «بيكون» على الفلسفة المدرسية التي لا تؤدي إلى شيء، ولكن الفلسفة كان يتهددها خطر على يديه، وهو أن تزيح عن كاهلها خدمة الأغراض الدينية؛ لكي ترزح تحت عبء آخر هو خدمة الأغراض العملية.
والواقع أن ثمار المعرفة لا تنضج إلا حيث تكون المعرفة وحدها هي الغرض المنشود، وإن ما وصلت إليه أذهان الفلاسفة من الحقائق الطبيعية التي كانت فيما بعد أساس العلم الطبيعي، والتي بفضلها أصبح هذا العلم عماد المدنية الإنسانية، إنما جاء نتيجة رغبة هؤلاء الفلاسفة في تفهم الطبيعة ونظامها، لا لأنهم يريدون إصلاحا عمليا من وراء ذلك الفهم، بل يريدون إشباع عقولهم فحسب.
Página desconocida