وأرسل مغيث بن الحارث على سبعمائة فارس لامتلاك قرطبة، فأخفى جنوده حتى إذا جاء الليل تقدم نحو المدينة، واتفق في ذلك الحين أن سقط هاطل من البرد أخفى وقع سنابك الخيل، فعد المسلمون ذلك عناية من الرحمن ، والتقوا براعي غنم أرشدهم إلى ثغرة في سور المدينة، فعزموا أن يجعلوا منها منفذا لهجومهم، وتسلق رجل منهم كان أكثرهم نشاطا وأشدهم حمية شجرة تين كانت تحت الثغرة، ثم وثب منها إلى السور حتى إذا استقر به خلع عمامته، وأرسل بطرفها إلى بعض أصحابه، ثم جذبهم إليه واحدا واحدا، حتى إذا نزلوا من السور إلى داخل المدينة دهموا حراس الأبواب ففتحوها للفاتحين، وتم الاستيلاء عليها دون عناء.
وعندما دخل المسلمون قرطبة التجأ حاكمها وحرسها إلى دير يعصمهم من العدو، ولزموه ثلاثة أشهر محاصرين، حتى إذا انتهى أمرهم إلى التسليم بقيت المدينة بأيدي اليهود الذين أثبتوا صدق إخلاصهم للمسلمين فنالوا عطفهم ورعايتهم، ونظر العرب إليهم نظرتهم إلى الصديق، فلم يضطهدوهم كما اضطهدهم قساوسة القوط إلا في العهد الأخير، فحيثما اتجه سلاح المسلمين سار اليهود من ورائه متابعين متزاحمين، فالعرب يحاربون واليهود يتجرون، حتى إذا ألقت الحرب سلاحها رأيت اليهود والعرب والفرس وقد اجتمعوا على إنماء التعليم، والفلسفة، والآداب، والعلوم، إلى غير ذلك مما ميز حكم العرب، وأرسل شعاعه في العصور الوسطى منيرا وهاجا.
وجرت فتوح طارق شوطا بعيدا بمعاونة اليهود وشدة فزع الإسبان، فاستولى على أرشذونة دون أن يلقى مقاومة، وفر سكانها إلى التلال، وألقت القياد مالقة، وعصفت الحرب بإلبيرة (بالقرب من مكان غرناطة الآن).
ودافع تدمير
Theodemir
حينا عن شعاب جبل مرسية بشجاعة وصبر، ولكنه دفع إلى ترك معقله والاشتباك مع العرب في موقعة طاحنة حطم فيها جيشه تحطيما، وفر مع خادم له إلى مدينة أوريولة، وهناك فكر في أن يلقى مطارديه بخديعة بارعة، فإنه حينما رأى أن الحرب لم تكد تبقي على رجل بالمدينة لسقوط شبان مرسية في المعركة جميعا، جمع النساء وألبسهن ثياب الرجال ووضع الخوذ على رءوسهن وسلحهن بقصب يشبه الرماح، وأمرهن أن يضعن شعورهن فوق الذقون كاللحى، ثم وزعهن على أسوار المدينة، فلما اقترب المسلمون في دغش الشفق، سقط في أيديهم لما رأوا من قوة الدفاع عن المدينة، وبعدئذ حمل «تدمير» بيده راية الهدنة، وألبس خادمه عباءة يلبسها السفراء، وذهبا لمفاوضة القائد المسلم الذي لم يعرف الأمير الإسباني فأحسن استقبالهما، ثم قال له تدمير: «لقد قدمت نائبا عن حاكم المدينة لأفاوض في شروط تليق بعظيم تسامحك وشرف منزلته، فأنت ترى أن المدينة جديرة بأن تثبت أمام حصار طويل، ولكن الحاكم شديد الرغبة في الإبقاء على حياة جنوده، فعدني بأن يغادروا المدينة أحرارا دون أن يمسهم سوء أسلمها إليك غدا بغير حرب، وإلا فقد وطدنا العزم على القتال إلى آخر رجل.» فقبل القائد ما عرضه عليه.
ثم وضعت شروط التسليم كما أحب، وبعد أن ختمها القائد وأمضاها تدمير، التفت إلى القائد قائلا: «انظر إلي فأنا حاكم المدينة.»
وعند الفجر فتحت أبواب المدينة، واتجه المسلمون ليروا الحامية القوية خارجة منها، ولكنهم لم يروا إلا تدمير وخادمه في درع محطمة، وخلفها جمع من الشيوخ والنساء والأطفال، فسأله القائد العربي: «أين الجنود ورجال الحامية الذين رأيتهم حول الأسوار البارحة؟» فأجابه: «ليس لدي من الجند أحد، أما رجال الحامية فها هم أولاء أمامك فانظر إليهم، فبهؤلاء النسوة حصنت أسواري، أما هذا الخادم فهو سفيري وحارسي وحاشيتي.» فأخذ القائد العجب من جرأته، وسر من براعة حيلته فعينه حاكما لمقاطعة مرسية التي سماها العرب بعد ذلك باسمه.
وتدل هذه القصة على كرم العرب ورقة طباعهم، ولا ريب فقد كانوا مثلا عالية للفروسية الحقة التي طالما ازدانت بها أعمالهم، وكانوا يمتازون بالعفو عند المقدرة وبكثير من صفات البطولة والنجدة التي حملت الإسبان بعد تغلبهم عليهم على أن يلقبوهم «بفوارس غرناطة وبالغطارفة، وإن كانوا عربا».
وفي هذه الأثناء كان يضغط طارق على طليطلة قصبة القوط؛ لأنه كان يجد في طلب أشراف القوط، فقد بحث عنهم في قرطبة ففروا قبل جيئته، ولما دخل طليطلة التي أسلمها إليه اليهود لم يجد بها للأشراف أثرا، فقد غادروا المدينة قبل دخوله والتجئوا إلى صخرة أشتورش (أستورياس) ولم يبق بطليطلة إلا الخونة من أسرتي غيطشة ويوليان الذين كوفئوا بمناصب في الدولة، أما سراة المملكة فقد هجروها وأسلموها للعرب فصارت ولاية تابعة للدولة الأموية التي جعلت مقر حكمها بدمشق ووسعت رقعة مملكتها من جبال الهند إلى أعمدة هرقل.
Página desconocida