وربما كان من أوضح المعالم التي تستوقف النظر عند التحليل أن ثمة ينبوعا مشتركا بين ثقافة البداوة الوافدة إلينا من الصحراء، وثقافة الريف الزراعي كما انتهى أمرها تحت سيطرة الطغاة الذين استبدوا بالحكم في مصر قرونا طويلة، وهذا الينبوع المشترك هو فقدان الأمان في كلتا الحالتين، لأسباب تختلف في إحدى الحالتين عنها في الأخرى؛ فنتج عن الشعور بقلة الأمان مجموعة من القيم في بداوة الصحراء، ومجموعة أخرى من القيم في حضارة الريف الزراعي، فلما غزت ثقافة البداوة بمجموعة قيمها، ثقافة مصر بمجموعة قيمها؛ حدث مركب خليط هو الذي نحياه اليوم (مأخوذ من مقالة «بداوة وحضارة» في كتاب «هذا العصر وثقافته» فارجع إليه لمعرفة تفصيلات التحليل الذي أوردته عن ثقافة المصري).
على أن عروبة المصري لا تنفي عنه مصريته بكل ما يميزها عن سائر أجزاء الوطن العربي، كالفرد في الأسرة الواحدة تكون له خصائصه الفردية كما تكون له سمات الأسرة في وقت واحد، فمهما يكن بين أبناء الأمة العربية من ضروب التباين من حيث العرق أو الأصول التاريخية أو غير ذلك، فبينهم وحدة «ثقافية» فيها من السعة والعمق ما يكفل لها القوة والدوام، وإذا نحن أنكرنا القومية الثقافية فلن نستطيع أن نعلل الوحدة القومية لشعوب كثيرة كالولايات المتحدة الأمريكية - مثلا - وغيرها.
فما هي أبرز الخصائص الثقافية التي تجعل العربي عربيا، سواء كان قبل عروبته مصريا أم سودانيا أم عراقيا؟ أول خصائص العروبة لغتها، على أنه لا يكفيني في هذا الجانب أن تكون لغة الكلام والكتابة عربية؛ فالأوروبي الدارس للغة العربية قد يتكلمها ويكتبها، ومع ذلك لا ندرجه في العروبة ابنا من أبنائها، وإنما المهم هنا هو اللفتات العقلية أو الإدراكية العميقة التي تكمن في كيان العربي، فتميل به إلى اكتساب الصفات المتمثلة في اللغة العربية؛ فالأجنبي الذي درس اللغة العربية إنما يتكلمها ويكتبها من السطح - إذا جاز هذا القول - وأما العربي فهو يتكلمها أو يكتبها من الجذور.
وأعني بالجذور تلك الصور الدفينة التي توشك أن تكون جزءا من فطرة الإنسان التي منها تنبثق اللغة المعينة، فمن خصائص اللغة العربية - مثلا - أنك إذا عرفت الأصل الثلاثي عرفت كيف تفجر منه شجرة المشتقات على كثرة فروعها، فإذا عرفت كلمة «كتب» فجرتها بعد ذلك فأخرجت منها: كاتب، كتابة، مكتوب إلخ إلخ، فهي على غرار القبيلة أو العشيرة العربية يتعدد أفرادها، لكن هؤلاء الأفراد جميعا ينتمون إلى رأس واحد.
فإذا قلنا: إن اللغة العربية هي أول خصائص العروبة، فإنما نقصد بذلك إلى ما هو أعمق من مجرد عملية التفاهم بلغة معينة، وهو أن خصائص اللغة تكون هي نفسها خصائص أصحابها، ومعنى ذلك أن أبناء العروبة على امتداد الوطن العربي الكبير قد جاءوا في طرائق النظر على غرار ما تتميز به لغتهم من صفات.
وثانية الخصائص الإدراكية التي تتألف منها عروبة العربي هي ميله إلى القفز السريع من الأفراد الجزئية إلى تجريدها وتعميمها في أنواع وأجناس، فهو لا يهمه «هذا» الطائر المفرد المعين الواقف هناك على ذلك الفرع من تلك الشجرة، بل يكفيه أن يعرف الطائر في عمومه من حيث هو نوع بأسره من الأحياء؛ انظر إلى رسوم الطير والحيوان والنبات في الفن العربي كما تراها - مثلا - في سجادة أو فوق آنية فخارية؛ تجد الفنان العربي يتعمد إهمال التفصيلات، كما هي الحال اليوم في الفن التجريدي المعاصر، فكأنما هو يرسم تخطيطا لطائر ولا يرسم طائرا، أو يخطط لغزالة ولا يرسم غزالة، وهكذا، لماذا؟ لأنه في صميم تكوينه العقلي لا يعبأ كثيرا بالأفراد أو المفردات، وإنما يريد «الخلاصة» العامة المجردة؛ ليسهل حملها معه وهو مسافر في الفلاة على ظهور الإبل، شأنه في ذلك كشأنه تجاه اللغة، فهو يحرص على الأصل الثلاثي ليحمله معه أينما سار، وأما ما يتفجر من ذلك الينبوع اللغوي فيتركه إلى حين الحاجة إليه ... (مأخوذ من مقالة «العروبة ثقافة لا سياسة» في كتاب «هموم المثقفين»، راجع المقالة للمزيد من جوانب الثقافة العربية التي تتألف منها الذات العربية.)
Página desconocida