مقدمة
1 - عقل يلتمس الطريق
2 - مرحلة الانتقال
3 - دعوة إلى ثقافة العصر
4 - التجريبية العلمية
5 - دفاع عن العقل
6 - نظرية في النقد
7 - عقل ووجدان معا
8 - رحلة في دنيا التراث
9 - أصالة ومعاصرة
Página desconocida
10 - مصري يكتب عن مصر
مقدمة
1 - عقل يلتمس الطريق
2 - مرحلة الانتقال
3 - دعوة إلى ثقافة العصر
4 - التجريبية العلمية
5 - دفاع عن العقل
6 - نظرية في النقد
7 - عقل ووجدان معا
8 - رحلة في دنيا التراث
Página desconocida
9 - أصالة ومعاصرة
10 - مصري يكتب عن مصر
قصة عقل
قصة عقل
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
في سنة 1965م أصدرت كتاب «قصة نفس»، الذي أردت به أن يكون ترجمة ذاتية من الباطن لا من الظاهر، بمعنى ألا تجيء تلك الترجمة سردا للأحداث البارزة التي صنعت لي مجرى حياتي؛ لأن تلك الأحداث الخارجية وحدها إن هي في الحقيقة إلا سطح يخفي وراءه ما يخفي، وهي - بعد ذلك - أحداث في مستطاع الباحث المتعقب - إذا أراد - أن يلتمسها في مظانها ويرويها مسلسلة في صورة مترابطة الأطراف، لكنني أردت لنفسي شيئا آخر حين كتبت «قصة نفس»، فرب حادثة تبدو لأعين الآخرين تافهة لا تستحق الوقوف عندها، فإذا هي عندي نقطة تحول في طريق الحياة بأسرها؛ لما كان لها في نفسي من آثار عميقة، فأين هو ذلك الباحث الخارجي الذي يستطيع أن يتعقب النتائج التي أحدثتها في حياتي كلمة سمعتها تقال عني، وأنا في نحو الرابعة عشرة - فيما أذكر - تنصح أبي بأن يكف عن تعليمي بسبب قصر في البصر، من شأنه حتما أن يحول بيني وبين وظائف الحكومة؛ أقول: أين هو ذلك الباحث الذي يستطيع إذا ما وجد في الوثائق ما يدله على أن هذه الكلمة قد قيلت ذات يوم، فيستدل منها أنها كانت هي إحدى نقاط التحول الرئيسية في مجرى حياتي؛ إذ هي بدل أن تكون عندي عامل تثبيط وإحباط، كانت حافزا على مضاعفة القراءة لأثير الغيظ في نفس قائلها، وما إن ضوعفت القراءة منذ تلك اللحظة، حتى أصبحت من حياتي بمثابة الروح من الجسد، أو كادت! إن مثل هذه الهزة الداخلية المؤثرة، كائنا ما كان المحدث لها، لا يدرك حقيقة حجمها إلا من يرى نفسه من الداخل.
إذن فقد أردت بكتاب «قصة نفس» حين أنشأته، أن أصور حياتي كما سارت بها عوامل الباطن، وكان حتما أن ألجأ إلى الرمز؛ لأن ثمة من حقائق الحياة الباطنية عند كل إنسان ما لا قبل لأحد بردها، ومع ذلك فهي مما لا يجوز الإفصاح عنه بحكم موازين المجتمع. وكان أول ما لحظته في نفسي حين بدأت العمل - وأظنه كذلك مما لا بد أن يلحظه كل إنسان في نفسه لو أمعن النظر - هو أنني بمثابة عدة أشخاص في جلد واحد، فهنالك من تجرفه العاطفة ولا يقوى على إلجامها، ولكن هناك إلى جانبه من يوجه إليه اللوم ويحاول أن يشكمه حتى يقيد فيه الحركة التي تقذف به إلى الهاوية، على أن هذا الشد والجذب في داخل النفس، بين عاطفة تشتعل وعقل يخمد اشتعالها، لا يمنع أن ينعم الإنسان بلحظات هادئة تتصالح فيها العاطفة والعقل، فيسيران معا في اتجاه واحد.
وعلى هذا الإطار الثلاثي أقمت «قصة نفس»، فلما أن صدر الكتاب وقرأته مطبوعا؛ أحسست إحساسا شديدا بأوجه نقص في بنائه؛ مما دعاني إلى التفكير في إعادة كتابته إذا هممت له بطبعة ثانية، لكني فوق ذلك أحسست بما هو أهم؛ وهو أن صورة نفسي كما قدمتها إلى القراء قد أسقطت من حياتي جانبا هو بغير شك أبرز جوانبها وأكثرها إيجابية، وأوفرها نفعا للناس، إذا كان فيما أنجزته ما ينفع. وأعني بذلك الجانب الذي سقط من الحساب في «قصة نفس»، لا عن تقصير فيها، بل عما تقتضيه طبيعة قصة أرادت أن تغوص في باطن النفس؛ أقول: إن الجانب الذي أعنيه هو سيرة «العقل» في حياتي، فهو الذي كان أداة الدرس والتحصيل، وهو الذي طفق طوال سنوات النضج يتصيد «الأفكار» من عند الآخرين حينا، وحينا يعمل على توليدها في ذهني، وهو الذي تولى الكتابة فيما كتبته، حتى لو كان المكتوب أدبا خالصا، فلقد كان الأدب الذي أنتجته من النوع الذي يستبطن «أفكارا» في أطر يقيمها لتصلح حاملا لها .
Página desconocida
ومنذ أن أحسست بغياب الحياة العقلية من «قصة نفس»، نشأت عندي الرغبة في أن أعقب على «قصة نفس» بتوءم لها أسميه «قصة عقل»، ولبثت تلك الرغبة حائرة، تظهر لحظة لتعود فتختفي، حتى أراد لي الله توفيقا فأخرجتها إلى دنيا الناس.
ولعل من أهم العوامل التي كانت تضعف عزيمتي دون تحقيق تلك الرغبة ما يقرب من عشرين عاما؛ أن الشطر الأعظم من الأفكار، التي هي أفكاري وليست مستعارة من أحد، جاء مفرقا في عدد ضخم من «المقالات»، فمن هذه الناحية يمكن اعتبار كل مقالة منها كتابا صغيرا يحمل فكرة محددة، لم يكن ينقصها إلا الإسهاب في عرضها لتكون كتابا له حجم الكتب كما يألفها الناس، فإذا أردت أن أقدم صورة لإنتاجي العقلي، كان لا بد من جمع تلك الأفكار المفرقة وتصنيفها تحت رءوسها التي تحتويها، فربما كنت أنا أوضح رؤية لما أنتجته من غيري إذا أراد أن يضطلع بعمل كهذا، فقد كنت على يقين من أنني - خلال أربعين سنة على الأقل من (من 1940 إلى 1980م) - سرت على خطوط فكرية محددة واضحة، برغم ظهورها في أشكال مختلفة بين كتب ومقالات، ومن تصوير أدبي إلى كتابة تحليلية علمية. لكن الرءوس الفكرية واضحة؛ فأنا أدعو بكل قوتي إلى أن نزيد من اهتمامنا «بالعلم»، حتى ولو جاء ذلك على حساب الجانب الوجداني، وأدعو إلى الأخذ بأسس الحضارة العصرية وما يتبعها من ثقافة، ثم أدعو إلى البحث عن صيغة تصون لنا هويتنا دون أن يضيع منا العيش في عصرنا ... هي خطوط واضحة أدرت عليها كل ما بذلته من جهود.
لكنني كلما هممت بالكتابة في «قصة عقل»، ترددت في منهج السير كيف يكون؛ فقد فكرت مرة في أن أجعل طريق السير على مراحل، كل مرحلة منها عشر سنوات، منذ بدأت نشاطي العقلي (1930م) بصورة جادة وإلى الساعة التي هممت بالكتابة فيها؛ وذلك لأني - بالفعل - أجد لكل عقد من السنين في حياتي العقلية سمة بارزة تميزه من سواه؛ ففي العقد الأول (1930-1940م) كنت أقتصر على عرض أفكار أنقلها عن أصحابها في كتاب أو في مقالة؛ وفي العقد الثاني (1940-1950م) ركزت طاقتي في نقد الحياة المصرية في مقالات روعي في معظمها أن تلتزم «أدب المقالة»، ذلك فضلا عن أن ذلك العقد من السنين هو الذي قضيت جزءه الأوسط دارسا في إنجلترا، ومحصلا للدكتوراه من جامعة لندن، ومبلورا لنفسي وقفة فلسفية لازمتني إلى اليوم؛ وفي العقد الثالث (1950-1960م) اتجهت بمعظم جهدي نحو التأليف الجامعي، وهو تأليف دار كله على محور الوقفة الفلسفية التي انتهجتها؛ وفي العقد الرابع (1960-1970م) صببت اهتمامي على طائفة من الأفكار شاعت يومئذ في حياتنا الثقافية شيوعا كان طابعه الغموض الشديد، فتناولتها بالتحليل الذي يبين حقائقها؛ لتكون على وعي بمضمونها قبل أن نجعلها موضع قبول أو رفض؛ وأما العقد الخامس (1970-1980م) فقد انصرفت خلاله إلى محاولات لم تهدأ للبحث عن نقاط يلتقي فيها جوهر تراثنا بجوهر العصر الحاضر، لعلنا نجد الصيغة التي تجمع الطرفين في وعاء ثقافي واحد.
أقول إني فكرت ذات يوم في أن أجعل هذا التقسيم التاريخي أساسا للكتاب، لكنني عدت فخشيت أن يضيع علي وعلى القارئ ما حرصت على ألا يضيع، وهو إبراز «الأفكار» الأساسية التي صنعتها بنفسي، أو اصطنعتها لنفسي، ونسجت منها موقفا عقليا متسقا موحدا، فلقد لحظت في مناسبات كثيرة أنه حتى أخص الخاصة ليس على دراية بأنني صدرت فيما كتبته عن «موقف»، بحيث ظن أنني إنما كتبت ثم كتبت ثم كتبت، ولكنها كتابات جاءت كما اتفق كأنها ذرات الهباء لم تجتمع منها ذرة إلى ذرة عن قصد وتدبير وغاية موحدة.
لهذا آثرت آخر الأمر أن أسير على طريق يحقق التسلسل التاريخي إلى حد ما، ولكنه في الوقت نفسه يبرز أهم الرءوس التي أدرت فكري على منوالها.
كان الفرق كبيرا بين صورة حياتي كما رأيتها في «قصة نفس»، وصورة حياتي كما رأيتها وأنا أكتب «قصة عقل»: في الحالة الأولى رأيت نفسا صنعها آخرون فتلقيتها راضيا بها أو مرغما عليها، وفي الحالة الثانية رأيت «عقلا» صنع نفسه بنفسه، وهو راض كل الرضا عما صنع، ويحمل تبعته أمام الله وأمام الناس، ومع ذلك فإنني لشديد الرغبة في أن يقف التوءمان معا جنبا إلى جنب أمام القراء؛ ولهذا فقد صحت عزيمتي - بإذن الله - أن أدفع بقصة نفس إلى الحياة من جديد، بعد شيء من المراجعة أتجنب به بعض ما لحظته من أوجه النقص في تكوينها الأدبي.
أسأل الله الهدى والتوفيق.
الجيزة، في 8 يونيو 1982م
زكي نجيب محمود
الفصل الأول
Página desconocida
عقل يلتمس الطريق
1
العقل الذي نؤرخ له في هذه الصفحات، ونحاول الترجمة لمراحل تطوره منذ ظهوره وحتى أوشك على نهاية رحلته، ليس هو «العقل» بمعناه العام الذي تندرج فيه الإدراكات بشتى صورها من مرئي ومسموع، ومن مشاعر الرضا والغضب والحب والكراهية، بل هو العقل بمعناه المنطقي المحدود فيما يسمى ب «الأفكار» - على صعوبة تحديد «الفكرة» ماذا تكون - ولكن الذي نريده هنا بهذه الكلمة ليس هو مجرد التصورات التي ترتسم في ذهن صاحبها عن الأشياء، بل هو ربط تلك التصورات في أحكام عن تلك الأشياء، فإذا ما نسجت تلك الأحكام المتفرقة بعضها مع بعض في منسوجة واحدة، كان لصاحبها موقف معين من الكون، ومن الحياة، ومن الإنسان.
فمتى وكيف استقام لي موقف فكري؟ لقد دفعت بالذاكرة دفعا إلى الماضي حتى أوصلتها إلى أول ما تستطيع استعادته من ذلك الماضي؛ فقدمت لي، أول ما قدمت، طفولة مترددة بين الفزع والطمأنينة، بين الخوف والجرأة، فترتاع من مواقف الحياة لحظة، وتتقحم تلك المواقف في شجاعة لحظة أخرى. فقلت للذاكرة: لا، ليس هذا هو ما أنشده؛ فالذي تقدمينه هو «حالات» وجدانية وسلوكية، وأما ما أنشده فهو «أفكار» أو هو ضرب من «الأحكام» على الكائنات والمواقف، سواء اتسقت تلك الأحكام بعضها مع بعض في رؤية واحدة وشاملة، أم كانت ما تزال فرادى لم تنخرط بعد في عقد واحد.
فقدمت الذاكرة بعدئذ صورا من مرحلة المراهقة، فرأيت غلاما تسري في أوصاله المشاعر الدينية إلى حد الخشوع الذي يتصدع له الجبل، فماذا يكون شأنه مع غلام لم يبلغ من عمره الخامسة عشرة؟ فقلت للذاكرة مرة أخرى: لا، ولا هذا هو ما أنشده؛ لأنك ما تزالين تقدمين لي «حالات» وجدانية لا أفكارا ذهنية تربط التصورات العقلية بعضها مع بعض في إحكام، يمكن الاستدلال منها، أو يمكن قبولها ورفضها على ضوء الخبرة.
فراحت الذاكرة بعد ذلك تبحث في طوايا الماضي حتى وقفت بي عند سنة 1925م، وكان لي من العمر عامئذ عشرون عاما، وهناك أوقفتني عند «عقل» يأخذ ولا يعطي؛ فهو يأخذ أشتاتا من الأفكار يعرضها كاتبوها في الكتب والصحف والمجلات، ولم يكن هؤلاء العارضون جميعا من لون واحد؛ وعندئذ رأيت أمامي شابا نهما لا يريد لفكرة واحدة مما يكتبه الكاتبون تفلت منه، فأخذ يتعقب كل ما تجري به الأقلام في ذلك المضمار على كثرته وغزارته وتنوعه.
لكن الذي يستوقف النظر في ذلك الشاب وهو يتصيد أفكار الكاتبين، أنه مع إفساح صدره لكل ما يصادفه في الطريق - حتى ولو كانت أفكارا ينقض بعضها بعضا - إلا أنه كان أشد اغتباطا للفكرة التي تنطوي على ثورة تهدم المألوف، فإذا صادف - مثلا - فكرتين عن شعر أحمد شوقي، تقول إحداهما إنه شعر يسلك صاحبه مع فحول الشعر، وتقول الأخرى إن شوقي لا هو شاعر ولا هو شبه شاعر (وهي عبارة قيلت بنصها هذا)؛ أسرع صاحبنا الشاب إلى هذا الحكم الثاني يجعل له من نفسه مكانة أعلى من مكانة الحكم الأول في نفسه. وكذلك إذا صادف صاحبنا فكرتين عن امرئ القيس، تقول إحداهما عن الرجل ما تقوله دون أن ترتاب في وجوده أصلا، وأما الأخرى فلا تقول ما تقوله عن امرئ القيس إلا بعد أن تتحوط بالشك: هل كان هنالك حقا رجل بهذا الاسم؟ وهل كان هو نفسه الشاعر الذي ينسب إليه ما ينسب من شعر؟ أقول: إن صاحبنا إزاء هاتين الفكرتين لم يكن ليتردد لحظة في اختيار الثانية ليتمثلها ويدافع عنها وكأنها كانت فكرته.
ولقد كان صاحبنا - في نهمه الفكري من جهة، وفي اختياره للأفكار الثائرة على المألوف من جهة أخرى - ذا حظ حسن؛ لأنه اجتاز بشبابه ذاك فترة غنية غاية الغنى، ثائرة أعنف الثورة، فما أكثرهم أولئك الأعلام خلال العشرينيات، الذين ما انفكوا يوما بعد يوم يهزون العقول هزا بما يعرضونه من أفكار يأتون بها من هناك ومن هنا، وقلما كانت من إفراز عقولهم، حتى لقد أخذت الصورة كلها تتغير أمام صاحبنا عما كان يألف سماعه في مراهقته المبكرة والمتأخرة معا.
فلأول مرة يسمع عن معيار «الوحدة العضوية» في نقد الأدب، والشعر منه بصفة خاصة، فيطبق هذا المعيار - جهد طاقته - على معظم ما حفظه من قصائد الشعر، فإذا هي تتبدى أمامه وقد فقدت كثيرا من سحرها الذي كانت قد فتنته بها وهو في أعوام ما قبل العشرين، وكان صاحبنا منذ تلك السن الباكرة مفتونا بقراءة الشعر وحفظه، ولأول مرة يسمع بشيء اسمه «العقل الباطن»، وبرجل اسمه «فرويد»؛ وإذن فلم يعد الإنسان هو الإنسان الذي قيل له عنه قبل ذلك إنه يحيا مهتديا بنور العقل؛ إذ أصبح الإنسان في صورته الجديدة كائنا تسيره غريزته ورواسب طفولته. ولأول مرة يسمع بشيء اسمه «التطور»، وبرجل اسمه «دارون»، وإذن فلم يعد الإنسان - مرة أخرى - مخلوقا فريدا ذا تاريخ خاص به منذ بدايته؛ إذ هو سليل أصل يختلف به عن أصول سائر الحيوان، بل هو حلقة - حتى وإن تكن هي الحلقة الأخيرة والأكثر تقدما - من سلسلة تعاقبت فيها حلقات الحياة الحيوانية كلها.
لأول مرة قرأ صاحبنا عن السؤال الذي يسأل عن القرآن الكريم: أهو أزلي قديم، أم هو حادث نشأ عند نزوله وحيا على الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهي المشكلة التي كانت أدت بابن حنبل إلى محنته لقوله عن القرآن إنه أزلي قديم؛ لأنه كلام الله، وكلام الله يكون أزليا مع الله؛ فاشتدت الرغبة بصاحبنا أن يزداد علما بهذه المشكلة العجيبة، ولم يدر أين يجد ما يقرؤه عنها، فانتهز أول فرصة سنحت وسأل أستاذ التاريخ الإسلامي لعله يهديه، وإذا بالأستاذ يتوهم أن الطالب يتحداه بسؤاله ذاك ليكشف مدى إلمامه وعلمه، وقرر أن يحرم ذلك الطالب من نعمة الحضور في محاضراته.
Página desconocida
ولأول مرة يقرأ صاحبنا عن «الجمال» بما يفسره ويعلله، وكان قبل ذلك لا يعرف عن الجمال إلا أنه شيء يثير النشوة في الحس، بصرا كان أو سمعا، أما السؤال وراء ذلك، الذي يسأل: لماذا يثير ما يثيره من نشوة؟ فلم يكن يطرأ له ببال. ولأول مرة يقرأ عن موقف الإسلام من الخلافة، فيعلم أن الإسلام لم يحدد للحكم صورة معينة، خلافة كانت أم غير خلافة، مع أن صاحبنا لم يقرأ في تاريخ المسلمين عن عهد لم يكن الحكم فيه لخليفة.
وفكرة «المنهج» تعرض على صاحبنا لأول مرة، فهو قبل ذلك كان يقرأ ما يقرؤه من فلسفة وتاريخ ونقد أدبي وغير ذلك؛ ليعجب بما يقرؤه أو لا يعجب، أما أن يكون الكاتب ذا منهج معين فيما كتبه، وأن ذلك المنهج يمكن تحديده وتقنينه، فلم يكن يعلم من أمر ذلك شيئا، حتى قرأ - أول ما قرأ في ذلك الباب - تفصيلا لمنهج «تين» في كتابة التاريخ، والتاريخ الأدبي بنوع خاص؛ وهو أن الرجل يصنعه التقاء خطوط ثلاثة: البيئة المكانية، واللحظة التاريخية، وشخصيته ونسبه الأسري. وإنني لأقلب في أكداس المقالات التي كتبتها على طول فترة امتدت حتى اقتربت من ستين عاما، وأعني المقالات التي لم تنشر بعد ذلك مع غيرها في كتاب، فأجد بين الأكداس مقالة طويلة صدرت في شهر مارس سنة 1927م عن الخليفة أبي بكر الصديق، وأقرأ صفحاتها الأولى فأرى أن صاحبنا الشاب، وهو في سن الثانية والعشرين، يبدأ بحثه بتفصيل منهج «تين» الذي يعتزم الكتابة عن أبي بكر على أسس قواعده.
كثيرة هي الأفكار التي صادفت صاحبنا إبان النصف الثاني من عقد العشرينيات، وكثيرون هم أعلام الفكر الذين سمع عنهم لأول مرة. نعم، إنه كان بالطبع قد عرف أشخاص الفلاسفة وأسماء مذاهبهم، وذلك بحكم دراسته، ولكن العجب هو أنه لم يكن يتأثر بما يتلقاه في قاعات الدرس تأثره بما يحصله من كتابات المفكرين الأحياء، الذين يلتقي بهم في كتبهم وصحفهم وكأنه يلتقي بأشخاصهم يتحدثون إليه حديثا حيا نافذا إلى عقله.
وإنه لمما يلفت نظري الآن ، أن ذاكرتي وهي تعرض أمامي من المؤثرات في تلك المرحلة من العمر ما تعرض، فإنها لا تذكر كلمة واحدة عن أدب القصة وأدب المسرح؛ فلماذا لم أقرأ يومئذ قصة ولا مسرحية؟ كانت أول مسرحية قرأتها هي «أهل الكهف» للحكيم في أوائل الثلاثينيات، وكانت أول قصة قرأتها هي قصة «سارة» للعقاد، وأما كل ما عرفته عن القصة والمسرحية فقد جاءني من الأدب الإنجليزي بصفة مباشرة، ومن الأدب الفرنسي أو الألماني بصفة غير مباشرة عن طريق الترجمات العربية، وأبرز مثل في هذا المجال هما: ترجمة الزيات لقصة «آلام فرتر» لجوته الألماني (ترجمها الزيات عن الفرنسية فيما أظن)، وقصة «رفائيل» للامارتين الفرنسي. على أنني هنا أبحث عن «الأفكار» التي هي بضاعة «العقل» ومكوناته، وأما شأن الأدب الخالص في تكوين العقل فأمر آخر يحتاج إلى توضيح وتحليل.
2
أسدلت العشرينيات أبوابها، وبدأ عقد الثلاثينيات، وفي أول أعوامه (1930م) تخرج صاحبنا في مدرسة المعلمين العليا، وبدأ حياة التدريس ليجعلها أحد خطين متوازيين سار عليهما، أما الخط الثاني فهو الإقبال الشديد على متابعة الحياة الثقافية متابعة كادت ألا تترك كتابا أو مقالة مما كان يكتبه أعلام الحركة الفكرية والأدبية في مصر، ومعها متابعة أخرى - لم تكن شاملة - لما يصدر في أوروبا، وإنجلترا بصفة خاصة، من نتاج ثقافي. ولنا أن نضيف خطا ثالثا كان له أعمق الأثر في سيرة حياته بعد ذلك بأعوام، وذلك هو أن صاحبنا لم يكد يضع قدميه على طريق الحياة العملية حتى أدرك أنه إنما يمشي في طريق مسدود؛ فمهنة التدريس لم تكن تؤدي إلى منزلة مرموقة في دنيا الفكر والأدب، ولم يكن من سبيل إلى مثل ذلك المركز المرموق إلا أستاذية جامعية. فأما وباب البعثات العلمية إلى أوروبا مغلق في وجه صاحبنا يومئذ لسببين: أولهما ضائقة اقتصادية شملت العالم كله في بداية الثلاثينيات، وثانيهما هو أنه حتى لو لم تكن تلك الضائقة قائمة، فقصر البصر لم يكن ليأذن بنجاح في «الكشف الطبي» الذي كان في تلك الأعوام شرطا مفروضا على كل من تتولى الدولة إرساله في بعثة علمية؛ فلم يبق أمام صاحبنا إلا مخرج واحد ، وهو أن ينتسب إلى جامعة لندن؛ فلقد سمع عن جواز ذلك الانتساب وألم بشروطه، وجمع عزيمته وأخذ في إعداد نفسه، لكنه كان بهذه الإضافة إلى حياته العملية والثقافية أمام عبء دونه زحزحة الجبل، فكان كلما اصطدمت الأهداف بعضها ببعض، أرجأ نشاطه في التحصيل العلمي المطلوب في انتسابه لجامعة لندن.
كانت الثلاثينيات - وما بعدها بقليل - مرحلة لم يشهد الشاب مثلها في حياته، لا من قبل ولا من بعد، من حيث تضارب الميول والاتجاهات العقلية، فلم يكن طوال تلك الفترة على لون ثقافي واحد، وإن تكن «الفلسفة» أبرز من سواها وجودا وأوضح ظهورا، لكننا شهدناه إبان تلك الفترة - إلى جانب نشاطه الفلسفي - صوفيا على الطريقة الهندية مرة، متحمسا للعلم مرة، متشككا في حضارة عصرنا العلمية مرة، باحثا عن صورة جديدة للحياة الاجتماعية مرة ... وهكذا أخذت تقذف به الأمواج هنا وهناك كأنما هو مفقود الإرادة معدوم الهدف، حتى لنراه في آخر تلك المرحلة، وقبيل سفره مبعوثا إلى إنجلترا للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة، كما سنروي فيما بعد؛ حتى لنراه يثور على نفسه في مقالة كان عنوانها: «هجرة الروح»، وسنعرض مضمونها بعد حين.
كانت أولى لفتاته الفكرية في أول أعوام الثلاثينيات متجهة نحو صوفية ترى في الوجود كله وحدة لا تعدد فيها ولا تمايز بين أجزائها، اللهم إلا في المظهر الخارجي الخادع، وهو المظهر الذي تدركه الحواس بصرا وسمعا ولمسا، فلقد كان ذات يوم من ربيع عام 1931م يسير وحده بين الحقول في الريف، ووقف طويلا أمام ماشية ألقيت أمامها أعواد الذرة لتطعم، فدارت في ذهنه صور متلاحقة: نبات يتغذى من عناصر الأرض، وحيوان يتغذى من النبات، وإنسان يتغذى من لحم الحيوان تغذية تسري في دمائه وفي أعصابه، فإذا هو يخرج غذاءه ذاك علما وفلسفة وشعرا ... ملأته هذه الفكرة، فكر راجعا إلى داره ليكتب مقالا مستفيضا فيها بعنوان «وحدة الوجود»، ويرسلها فتنشر في مجلة كان يصدرها سلامة موسى، وربما كان اسمها «المجلة الجديدة» أو ما يقرب من هذا المعنى.
وسارت به الأيام بعد ذلك متقلبة به بين سبل الفكر، لكن فكرة وحدة الوجود كانت تعاوده، وقد يكون أجمل ما كتبه فيها مقالة بعنوان: «درس في التصوف»، نشرت في عدد خاص من مجلة الرسالة (في 3 مارس 1941م)؛ إذ كان صاحب الرسالة أحمد حسن الزيات يصدر أعدادا خاصة في أعياد الهجرة، عاما بعد عام.
المقالة حوار بين أستاذ متصوف مؤمن بوحدة الوجود، وتلميذه الشاب الذي كان في أول الدرس عابسا نافرا مما يقوله الأستاذ؛ إذ يقول ما معناه أن لا فرق في الأعماق بين إنسان ونبات وحيوان، لا بل لا فرق بينه وبين الجماد نفسه. فلما رأى الأستاذ عبوس تلميذه ونفوره، قال له: انظر يا بني إلى هذا الفضاء الطلق، وأرسل بصرك في أرجاء الكون الفسيح، أفينقص من عنفوان شبابك يا بني أن تكون هذا السيل الدافق، أو ذلك الطود السامق؟ هل يحد من شبابك يا بني أن تكون هذا البركان الفوار، أو ذلك الخضم العنيف الجبار؟ هل يضيرك يا بني أن تكون هذه الزهرة في رقتها وجمالها، أو أن تكون هذا الليث الكاسر في جده وصرامته؟
Página desconocida
فقال التلميذ الشاب: وما لي ولهؤلاء يا أبتاه؟ إنني إنسان، وهي جماد ونبات وحيوان.
فقال له الأستاذ: أنت يا بني كل هؤلاء، وكل هؤلاء هو أنت، أنت الكون العظيم بكل ما فيه من قوة وفتوة وجلال وجمال.
قال التلميذ: ولكن أراني - يا أبت - فردا واحدا محدودا، وها هي ذي حدودي، أراها بعيني وأحسها بأصابعي.
فقال له الأستاذ: ذلك يا بني عند النظر الضيق السقيم، أو إن شئت فقل: إنها لغة الأبصار والأيدي ... دعني أحدثك بلغة تفهمها، ائتني بثمرة من تلك الشجرة. - ها هي ذي. - ماذا ترى في جوفها؟ - أرى في جوفها بذورا صغيرة. - اقطع بذرة منها نصفين. - ها أنا ذا قد فعلت. - ماذا ترى فيها؟ - لا أرى شيئا. - إن الجوهر الدقيق الذي عجزت عينك أن تراه هو الذي تنبت منه تلك الشجرة الباسقة، ومن مثل ذلك الجوهر الذي لا تراه الأعين جاء الوجود، وهذا الجوهر الذي لا تراه هو الحق الموجود، هو الروح الشامل لأطراف الوجود، هو أنت.
تلك إذن كانت لمحة صوفية نزع إليها صاحبنا منذ فرغ من دراسته، وأخذت تعاوده حينا بعد حين، وامتدت معه أعواما جاوزت في عددها عشرة، ولكنه خلال تلك الأعوام نفسها كانت تغلب عليه النظرة العلمية الصارمة التي لم تكن تريد له ألا يأذن لشيء في الوجود كله أن يفلت من قبضة العلم، لا يستثني من ذلك القيم الخلقية نفسها وما نسميه بالمثل العليا؛ فالحرية مثلا، أو المغامرة أو ما شئت من معنى، يمكن رده إلى سبب من البيئة التي نشأ فيها هذا الإنسان أو ذاك، ففي أواسط الثلاثينيات كان قد لحظ أن الأوروبي أشد تمسكا بحريته وفرديته من الشرقي، فطرح صاحبنا سؤالا على نفسه يريد به العلة الحقيقية التي أنشأت مثل هذا الفارق بين الأوروبي والشرقي، أو إن شئت فقل بين أهل الشمال وأهل الجنوب.
وطفق يبحث عن العلة التي اشترط على نفسه أن تكون علمية بأضيق معاني هذه الكلمة، حتى هداه البحث إلى حقيقة في طبيعة التنفس في الهواء البارد والتنفس في الهواء الدافئ أو الحار؛ وبالتالي فهي حقيقة تمس نوع الطعام الضروري في كلتا الحالتين، وأخذ يسلسل الحلقات حتى انتهى إلى أن «الحرية» والتشبث بها بين سكان الجهات الباردة أكثر مما يتشبث بها أهل الجهات الحارة.
قال في ذلك البحث العلمي ما يأتي: «لما كان الإنسان في الجهات الباردة يتنفس من الأكسجين أكثر من زميله ساكن الجهات الدافئة؛ أولا: لأن الهواء أكثف في الجهات الباردة، فيكون مقدار الأكسجين في الشهقة الواحدة أكثر مما لو كان الهواء مخلخلا خفيفا، وثانيا: لأن الإنسان يتنفس في الجهات الباردة مرات أكثر عددا في الفترة الزمنية المعينة مما يحدث لساكن الجهات الدافئة، ومن شأن هذا التنفس السريع من هواء كثيف أن يضاعف كمية الأكسجين الداخل في الجسم؛ فينتج عن ذلك ضرورة أن يزود ساكن الجهات الباردة جسمه بمقدار من الكربون في طعامه أكثر جدا مما تطلبه ساكن الجهات الدافئة، ومعنى ذلك أن ساكن الجهات الباردة لا بد له في طعامه من لحوم بمقدار أكبر من زميله في الجنوب الدافئ أو الحار، بل إن هذا الأخير يستطيع أن يعيش على نبات صرف ... ثم يمضي المقال فيبين كيف أن الحصول على لحوم الحيوان أشق من الحصول على النبات؛ وبالتالي لا بد بحكم الضرورة أن تقل نسبة الزيادة في سكان الشمال عنها في سكان الجنوب، والنتيجة هي ندرة الأيدي العاملة في الشمال وكثرتها في الجنوب، فتعلو قيمة العامل في الحالة الأولى وترخص في الحالة الثانية؛ فينتهي الأمر في الحالة الثانية بفروق شاسعة بين الأغنياء من أصحاب الأعمال والفقراء من العمال المأجورين، على خلاف ما يحدث في الشمال، فيكون استعباد الغني القوي للفقير الضعيف أيسر في الجنوب منه في الشمال، فلا تكون أمام الإنسان في الجنوب فرصة يتمسك فيها بحريته وكرامته كالتي يجدها إنسان الشمال ...»
مثل هذا التصور للتفكير العلمي نراه قد استبد بصاحبنا في كثير جدا من محاولاته خلال الثلاثينيات، لولا أنه كان في لحظات ليست بالقليلة يتعرض للقلق، فيرد على نفسه بمقال يثبت فيه أن هذا النظر الضيق للتفكير العلمي - النظر الذي يحصر العلمية في الروابط المادية - لا تطمئن له نفس الإنسان آخر الأمر.
ومن أمثلة حوار الكاتب مع نفسه على هذا النحو ما كتبه ذات مرة خلال الثلاثينيات، تحت عنوان: «بين المعجزة والعلم»، وذلك أنه كان قد قرأ من فلسفة إسبينوزا ما أقنعه بأن قدرة الخالق - جل وعلا - إنما تتمثل في أن تطرد قوانين الكون اطرادا لا يقف في سبيله شيء، وليست قدرته في أن يوقف الشمس كما يقول رواة المعجزات إنها وقفت ليوشع، أو أن يشق البحر كما يقولون إنه انشق لموسى، ولا أن يبرئ الأكمه والأبرص بلمسة كما يقولون عن عيسى (عليهم جميعا السلام). وكان صاحبنا عندئذ يرى أنه لا بد من «تأويل» هذه «المعجزات» تأويلا يبقي على الإيمان بما ورد في الكتب المنزلة، ويتفق - في الوقت نفسه - مع ما يتفق ومنطق العقل. أقول: إن صاحبنا كان قد اقتنع بأن قدرة الله سبحانه وتعالى إنما تتجلى في اطراد قوانين الكون لا في إيقافها.
لكنه لم يلبث في إحدى لحظات فكره أن أقام حوارا مع نفسه، وأثبت ذلك الحوار في المقالة المذكورة، والتي خلاصتها هي أن المعجزة لا تبطل القانون العلمي، بل هي تحول دون سريانه بفعل إرادي يتدخل في الطريق، مثال ذلك: أن نرى تفاحة تسقط من فرعها فتهوي نحو الأرض بفعل قانون الجاذبية، لكنك تسرع فتمد يدك لتلقفها وهي في طريق سقوطها، فلا تقول عندئذ إنك أبطلت القانون، بل إن القانون الطبيعي لم يزل قائما كما كان، وكل ما حدث هو فعل إرادي منك تدخل ولم يدع التفاحة تكمل طريقها إلى الأرض. وهاك فقرة من ذلك الحوار الباطني بيني وبين نفسي: «... سأفرض معك أن قوانين الطبيعة يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييرا ولا تبديلا عما رسمه لها قانونها الأعلى، فمن ذا الذي زعم لك أن المعجزة كسر لقانون الطبيعة، وأنه لذلك يجب اطراحها ونبذها؟ نحن نسلم معك أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها سقطت من فورها على الأرض بفعل قانون الجاذبية هذا، ولكن هب يدا امتدت إلى التفاحة وهي في طريقها إلى الأرض فلقفتها، فحالت بذلك بينها وبين الأرض، أيكون ذلك كسرا للقانون؟ كلا؛ فالقانون لا يزال قائما قويا سليما، غير أن إرادة بشرية حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل ... أئذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرة على أرض غرفتك، ثم عدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر المكتب صفوفا منظمة؟ أفتقول: إن قانون الجاذبية قد انقلب رأسا على عقب؛ لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى، بدل أن تستقر على الأرض منجذبة بها؟ أم أنت جازم في مثل هذه الحالة بأن شخصا ما قد تدخل في الأمر بإرادته وحال بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حينا، فأمكن للأقلام والكتب بذلك أن تفلت من يده، لكن القانون ما يزال قائما لم يخدش ذلك من قوته وشموله؟ ... إنك متفق معي - ولا شك - أن الإرادة البشرية قد تستطيع أن تتوسط بين القانون وتطبيقه، فتعطله دون أن تبطله، حتى إذا ما حورت لك العبارة قليلا، سائرا بها نحو الأقوم والأصح، غضبت للعلم وكرامة العلم! لو زعمت لك أن لله إرادة حرة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حينا قد يقصر أو يطول، ولكن القانون يظل قائما ومعمولا به، كان هذا الزعم مني في رأيك جهلا وحماقة! يرعاك الله! هلا أنبأتني لماذا يكون للإنسان ما ليس لله؟»
Página desconocida
3
أصدر أحمد حسن الزيات مجلة الرسالة في أول سنة 1933م، فكأنما كان صاحبنا يترقب ظهور مجلة تناسبه؛ إذ لم تكد الرسالة تصدر حتى أخذ يرسل إليها مقالات متلاحقة عن الفلاسفة، والفلاسفة المحدثين على وجه الخصوص؛ فكتب عن ديكارت، واسبينوزا، ولينبتنر، وهيجل، وسبنسر، وبرجسون، ورسل وغيرهم، كل ذلك ولم يكن قد ذهب إلى مكتب المجلة ليقابل صاحبها ورئيس تحريرها، لكنه بعد أن نشرت له مقالات تبلغ العشرين أو نحوها، تغلب على خجله وانطوائه وقصد إلى صاحب الرسالة في مقره، وإذا ذلك المقر هو غرفة مستعارة من الشقة التي كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر تتخذها مكانا لها، وعندما وصل صاحبنا إلى مكتب المجلة وجد أحمد أمين هناك، ولم يكن قد رآه قط من قبل، وأحمد أمين هو رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ نشأت سنة 1914م وحتى وافاه الأجل سنة 1954م، فما إن عرف أن القادم عليهما هو فلان؛ رحب به ترحيبا لم يكن صاحبنا الشاب يتوقعه أو يتصوره، وكذلك فعل الزيات، وأثنى كلاهما ثناء طيبا على مجموعة المقالات التي نشرت لصاحبنا في الرسالة، ثم ما هو إلا أن اصطحبه الأستاذ أحمد أمين إلى ردهة المكان، وجلسا معا ليعرض الأستاذ على صاحبه أولا أن يقترح ضمه عضوا في لجنة التأليف، وثانيا أن يتعاونا معا على إخراج سلسلة من كتب تعرض الفلسفة في أسلوب سهل واضح يناسب أوساط المثقفين، فكادت استجابة الكاتب الشاب تسبق العرض، وفي أشهر قليلة - لا أظنها جاوزت أربعة أو خمسة - كان كتاب «قصة الفلسفة اليونانية» معدا للمطبعة 1935م، وبعده بما لا يزيد عن عام وبعض عام، كان الكتاب الثاني بجزأيه «قصة الفلسفة الحديثة» تدور به عجلات المطبعة.
كانت خطة العمل في هذين الكتابين - كما هو مذكور في مقدمتيهما - هي أن يختار لكل منهما مرجع إنجليزي جيد؛ ليتخذ أساسا، ثم يضاف إليه هنا وهناك ما يظن أنها جوانب لم يذكرها الكتاب المختار، مع ضرورة ذكرها في رأيهما؛ ولهذا وجد «المؤلفان» أن الكتب التي أخرجاها بهذه الطريقة ليست «تأليفا» بالمعنى الأكاديمي الصحيح، فأطلقا على العمل كلمة «تصنيف»، ووضعا هذه الصفة فوق الغلاف.
وها هنا أريد أن أنقل الحديث من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وبدل أن أتحدث عن صاحبنا، أجعل الحديث منسوبا إلى شخصي الراهن، فأقول: إنني كنت في كتاب «قصة الفلسفة الحديثة» صاحب فضل على المصطلح الفلسفي لم يذكره لي دارس واحد من دارسي الفلسفية، وأبى علي خيالي أن أذكره بنفسي عن نفسي، وإذا لم أغلب هذا الحياء الآن قبل أن تفلت هذه الفرصة الأخيرة، فربما ماتت الحقيقة مع موتي؛ وذلك أنه كانت الفلسفة اليونانية قد سبق إلى نقلها العرب الأقدمون إلى اللغة العربية، فصاغوا لها مصطلحها، فإن الفلسفة الحديثة لم تظهر متكاملة في كتاب عربي قبل كتابنا «قصة الفلسفة الحديثة»، فكان لا بد من خلق المصطلحات العربية لأول مرة، ولست أفتري على الحق إذا زعمت بأن عددا كبيرا مما شاع بعد ذلك واستقر في مصطلح الفلسفة الحديثة هو من صناعتي، ذلك هو الحق، ولعن الله الساكت عن الحق، فهو - كما يقال - شيطان أخرس.
كان توفيقنا في عرض الفلسفة بهذين الكتابين: «قصة الفلسفة اليونانية»، و«قصة الفلسفة الحديثة»، في بيان عربي واضح وجذاب، سببا في انتشارهما على نطاق واسع؛ فلقد مرت خمسون عاما تقريبا منذ ظهورهما إلى هذا اليوم الذي أكتب فيه الآن (1982م)، ومع ذلك ما زالت تتوالى فيهما الصعاب، وما زالا يؤديان الرسالة التي أريدت لهما حين كتبا أول مرة، وهي أن يعرضا تاريخ الفلسفة في صورة مشرقة ينجذب إليها القارئ العابر والطالب الدارس على حد سواء.
وأعود إلى الحديث عن صاحبنا الشاب خلال الثلاثينيات عندما كان متوهج الشعلة، لا يكل ولا يمل ولا يفتر، يواصل العمل كل ساعات النهار وشطرا كبيرا من ساعات الليل، لا يريد لنفسه راحة أو متعة كأنه كان مسخرا من إرادة خفية تحفزه إلى النشاط الدائب، ولا تدعه ليستريح ساعة إذا أمكن أن يملأ تلك الساعة بالعمل والدرس والتحصيل والكتابة.
ففي الفترة الزمنية القصيرة نفسها، التي كتب فيها قصتي الفلسفة - اليونانية والحديثة - ترجم عن الإنجليزية أربع محاورات لأفلاطون، وهي المحاورات الأربع التي توصف أحيانا بأنها المحاورات السقراطية؛ بمعنى أن ما يتحدث به سقراط فيها هو حقيقة تاريخية عن شخص سقراط، وليس هو فيها مجرد شخصية يستخدمها أفلاطون ليجري على لسانه ما يريد أفلاطون أن يقوله، شأن سقراط في ذلك كشأن سائر الشخصيات التي نراها في الأدب المسرحي. وأما تلك المحاورات السقراطية الأربع التي نقلها صاحبنا إلى العربية في تلك المرحلة من حياته العقلية فهي: الدفاع، وأقريطون، وأوطيفرون، وفيدون. والحمد لله؛ فقد كان نصيب تلك الترجمة من النجاح مماثلا لنصيب قصتي الفلسفة، فما تزال تطبع مرة بعد مرة كل عام، لم ينقص طلب الدارسين لها حتى بعد أن مرت على ظهورها نحو خمسين عاما.
4
منذ حمل صاحبنا القلم لأول مرة وإلى هذه الساعة التي أكتب عنه هذه الصفحات، وهو يؤمن إيمانا جازما بحرية الأفراد، لا يريد لتلك الحرية أن تنتهك لأي سبب من الأسباب، شريطة أن نحدد للفردية معناها بحرص شديد حتى لا يساء فهمها، وينقلب تعاون الأفراد داخل الأمة الواحدة - بل داخل الأسرة الواحدة - حربا يعلنها فرد على فرد كلما تعارضت بينهما الرغبات والأهداف؛ لأننا لو قبلنا مثل هذا الصراع لما بقي للفردية نفسها وجود، فهي تفنى بفناء الأفراد على طول المدى، وإن منطق العقل من جهة والفطرة السليمة من جهة أخرى ليقضيان بأن الفكرة المعينة إذا كانت بحكم مفهومها ذاته، تفنى بالوسائل نفسها التي تثبت بها وجودها، فإنما هي فكرة باطلة بموجب كيانها، وفكرة الفردية الحرة لا يدوم لها وجود إلا إذا تجدد معناها بما يصون لجميع الأفراد أن يصان وجودهم.
وكان صاحبنا إبان الثلاثينيات وما بعدها بقليل يحس خطرا داهما على حرية الأفراد، في نظم قامت واشتد عودها، وكان الخوف هو أن تنتشر عدواها لتشمل الدنيا بأسرها، وأعني بها - بصفة خاصة - النازية في ألمانية والفاشية في إيطاليا. وعلى الرغم من أن صاحبنا لم يمل بهواه نحو السياسة قط، إلا أنه من الناحية العقلية الصرف لم يجد في نفسه نازعا يستهويه تجاه الدكتاتورية كائنة ما كانت صورها وأهدافها؛ فالوسيلة هنا أهم من الهدف، وماذا تكون الوسيلة التي أرادوا التضحية بها في سبيل أهداف القوة والمجد، إلا حرية الأفراد، يجهزون عليها لتصبح الحرية مقصورة على فرد واحد هو الدكتاتور.
Página desconocida
والدكتاتور لا يسمي نفسه ولا يسميه أتباعه «دكتاتورا»، بل يسمي نفسه ويسمونه «زعيما»؛ ومن هنا تتوالى الكوارث. كتب صاحبنا (الثقافة، 8 أكتوبر 1940م) يقول في ذلك: وفي هذا الزعيم تجتمع السلطة التنفيذية والتمثيل النيابي معا، فهو الذي ينطق برغبات الشعب، وهو الذي ينفذ هذه الرغبات. وليته يقف عند هذا الظن بأنه هو الذي يمثل أمته في زمانه وحده، بل تراه يتوهم أنه إنما يمثلها على طول تاريخها؛ ففيه جوهرها لا فرق بين ماض وحاضر ومستقبل، فكأنه لم يعد شخصا واحدا ذا أجل محدود ببداية ونهاية، بل هو أقرب إلى الفكرة المجردة التي تجاوز حدود المكان والزمان! إذا نطق الزعيم فكلماته قانون، وإذا سلك الزعيم على صورة معينة فسلوكه ذاك سنة على الناس أن يحتذوها، وهل الزعيم من أمته إلا رأسها الذي يفكر ويدها التي تدبر؟ فأين هي أعضاء الجسد التي يجوز لها أن تعصي ما يفكر لها الرأس وما تدبر اليدان؟! الزعيم في أمته أب يرعى أسرته؛ لا لأن أفراد الأسرة انتخبوه أبا لهم، بل هو الأب بحكم طبائع الأمور التي لا اختلاف عليها ولا نزاع، والعجب هو أن الزعيم وأتباعه يطلقون على هذه الصورة اسم ديمقراطية! ولكنها ديمقراطية من نوع جديد.
ولم تكن مصادفة من صاحبنا أن يقرأ في تلك الأيام نماذج من المدن الفاضلة لما تصورها الفلاسفة على اختلاف عصورهم ليخلص لنفسه منها بصورة مثلى. لقد كان بالطبع على علم تام بتفصيلات «الجمهورية» لأفلاطون، فقرأ «أطلنطس الجديدة» لفرنسيس بيكون و«يوتوبيا» لتومس مور، و«إريوون» (أو الأرض التي لا وجود لها) لصموئيل بتلر، و«يوتوبيا حديثة» تأليف ه. ج. ولز، وغيرها، وجمعها في كتاب وقدم له بمقدمة تدل على موقفه إذ ذاك، جاء فيها: «عندما يضيق الإنسان ذرعا بالظروف المحيطة به ثم يعجز عن تغييرها على النحو الذي يرتضيه فإنه يسترسل في أحلامه ليظفر في دنيا الخيال بما استحال عليه أن يظفر به في عالم الواقع ...»
كان عقلا يبحث لنفسه عن طريق، وظل يبحث خلال أعوام الثلاثينيات، إنه لم يكف يوما عن القراءة، ولم يكف يوما عن الكتابة، لكنه كان حائرا لا يجد ما يستريح إليه، أو قل: إنه كان يستريح للفكرة المعينة مرة ولنقيضها مرة أخرى، لقد رأيناه متعلقا بالصوفية يوما، وبالعلم في صرامة منهجه يوما آخر، لكنه من خلال ذلك كله كان يحس في طوية نفسه إحساسا فيه قوة وفيه غموض في آن معا بأفكار واتجاهات أحب إلى نفسه من أفكار أخرى واتجاهات أخرى، وكأنما كان في صدره سؤال يتردد وينتظر الجواب: أليس من سبيل يجمع عدة أطراف في رقعة واحدة؟ يجمع العلم والدين والتصوف والحرية؟ أليس ثمة من سبيل يجمع مادة إلى روح ويجمع عقلا إلى غريزة؟ ...
وفي 17 من يناير سنة 1944م كتب - في عيد الهجرة - مقالا بعنوان: «هجرة الروح» (مجلة الرسالة)، فكان بمثابة الإعلان عن بداية عهد جديد؛ عهد لا يترك نفسه فيه نهبا لما يقوله الآخرون، بل يتابع الآخرين تحصيلا وفهما ونقدا ومناقشة، حتى يرسو لنفسه على رأي يكون رأيه هو، وإلى موقف يكون موقفه هو، وذلك ما حدث بالفعل، وسنرى في الفصول التالية من هذا الكتاب كيف أن صاحبنا قد بدأ طريقا عن اقتناع ودراية، والتزمه حتى هذه الساعة.
جاء في مقاله «هجرة الروح»: كم قرأت وقرأت، فكنت أتلون بما أقرأ، كأني دودة ضعيفة تتلون بلون الأرض التي تدب عليها وتسعى؛ فهي تصفر إن كانت تحبو فوق الرمال، وهي تخضر إذا كانت تزحف في المروج. كنت أقرأ للشكاك فأشك، ثم أقرأ للمؤمنين فأومن، هذا كتاب متشائم أطالعه، فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي؛ وذلك كتاب متفائل أطالعه، فإذا أن الهاش الباش المرح الطروب، ولكن أراد لي الله خيرا، أفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة يعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني.
نعم، كانت تلك الصرخة بداية عهد جديد، أكون فيه نفسي لا لنفس غيري، وحتى إذا أخذت عن الآخرين فكرا فلا يكون ذلك إلا عن اقتناع.
وكأنما أراد الله تثبيتا لعهدي فنقلني من حال إلى حال، ومن بلد إلى بلد؛ إذ سافرت بعدها فورا في بعثة دراسية إلى إنجلترا، وهناك عشت بعقلي مرحلة الانتقال.
فوداعا يا صاحبي الشاب، الذي كنت أروي عنه كأنه شخص آخر، وسأتحدث بعد الآن عن نفسي بضمير المتكلم؛ لأنني ولدت ولادة جديدة، وسلكت طريقا فكرية جديدة هي طريق إلى يومي هذا.
الفصل الثاني
مرحلة الانتقال
Página desconocida
1
في طليعة الأربعينيات كنا - الأستاذ أحمد أمين وأنا - قد اتفقنا على المشاركة في مشروع جديد وهو أن نخرج قصة للأدب في أهم أقطار العالم وعلى تعاقب العصور، على غرار ما صنعناه في قصة الفلسفة، وكنت قد فرغت من الجزء الأول من هذه القصة الجديدة «قصة الأدب في العالم» سنة 1942م، ثم فرغت من إعداد الجزء الثاني - مخطوطا - وتركته بين يدي الأستاذ أحمد أمين قبيل سفري إلى إنجلترا في سبتمبر من سنة 1944م. ولم يكن ما تركته قبيل سفري هو مخطوط الجزء الثاني من قصة الأدب فقط، بل تركت كذلك مخطوطا آخر لكتاب «فنون الأدب»؛ وهو تعريب لكتاب إنجليزي من تأليف ه. ب. تشارلتن. وأقصد بالتعريب هنا أن عملي في هذا الكتاب لم يكن «ترجمة» تساير الأصل كلمة كلمة، بل كان عرضا لمادته، حتى إنني لم أتقيد بالأمثلة التي أوردها المؤلف في سياق كتابه؛ لأن تلك الأمثلة لا تصلح شواهد على ما سبق لتوضيحه إلا إذا بقيت في لغتها الأصلية؛ ولذلك حاولت أن أستبدل بها شواهد من الأدب العربي لتكمل الفائدة.
لم يكن قد بقي على سفري إلا أسابيع لا أظنها تزيد على الثلاثة عندما أردت أن أضطلع بتعريف «فنون الأدب»، ولم تطمئن نفسي للتخلي عن أداء ذلك الواجب الأدبي؛ لأن الكتاب لم يكن وحدة مستقلة بذاتها، بل كان حلقة في سلسلة خططت لجنة التأليف والترجمة والنشر لإخراجها تحت عنوان «سلسلة الفكر الحديث»؛ فلو تخليت عن نصيبي في المشروع لبقيت الحلقة الخاصة به خالية، فواصلت نهاري بليلي في الأسابيع الثلاثة الباقية حتى فرغت من الكتاب في آخر لحظة متاحة، ولم أجد نصف الساعة الذي أكتب فيه مقدمة تشرح لقارئ الكتاب منهجي في العمل، فلما كنت في طريقي إلى إنجلترا أعلنت إدارة الباخرة التي كنت على متنها - وكانت الحرب العالمية الثانية ما زالت ناشبة - أنها على استعداد لأخذ الرسائل التي يريد المسافرون أن يبعثوا بها إلى ذويهم؛ لتطبع على أفلام صغيرة (ميكروفيلم) ثم ترسل ليعاد إخراجها على الورق ثم تسليمها لأصحابها، فكتبت رسالتين: إحداهما خطاب إلى أسرتي، وأما الأخرى فكانت مقدمة لكتاب «فنون الأدب» الذي تركته في لجنة التأليف بلا مقدمة.
و«فنون الأدب» كتاب صغير يشرح أصول النقد الأدبي للشعر والرواية والقصة القصيرة والمقالة، شرحا لم أصادف في كل ما قرأته في هذا الباب أوضح منه ولا أنفع منه؛ إذ يستحيل على قارئه أن يخرج من صفحاته إلا وقد عرف معرفة دقيقة ناصعة بطبيعة الأجناس الأدبية، ما يجوز لها وما لا يجوز، وبالتالي يتكون عنده ذوق نقدي لا أظنه إلا مقيما معه بعد ذلك ما بقي له اهتمام بالأدب والنقد.
2
وصلت إلى لندن والتحقت بجامعتها، ولكن جامعة لندن هي بمثابة عدة جامعات في جامعة؛ فإذا كانت تلك الفروع تسمى «كليات»: الكلية الجامعة، وكلية الملك، وكلية بيركبك، وكلية بدفورد، إلخ، فما هي بكليات بالمعنى المألوف عندنا لهذه الكلمة، فكل واحدة من تلك الكليات هي جامعة بأسرها، وكان التحاقي أول الأمر بالكلية الجامعية في قسم الفلسفة.
كنت خلال الأعوام السابقة على ذلك، وأنا في مصر قد انتسبت إلى جامعة لندن، وأضفت تلك الدراسة إلى سائر أوجه نشاطي، واستطعت الحصول على إجازتين: إحداهما هي ما يؤهل الدارس للمضي في الدراسة، والثانية إجازة وسطى يجتازها الدارس فيما بين الالتحاق والبكالوريوس. فلما أن شاء لي الله أن أسافر إلى هناك مبعوثا للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة سجلت من فوري لامتحان البكالوريوس، وشرحت لرئيس قسم الفلسفة موقفي - وكان هو الدكتور س. ف. كيلنج الذي عرف بكتابه المشهور عن ديكارت - فأجاب بأن عشرة أشهر (وهي المدة الباقية على موعد البكالوريوس) لا تكفيه هو استعدادا لذلك الامتحان لو كان ليتقدم إليه؛ فالكتب المقرر دراستها من أعمال الفلاسفة أربعة عشر كتابا، يدرسها الطالب دراسة تفصيلية ولا يترك فيها سطرا واحدا؛ لكنني أصررت على خطتي؛ فلم أكن يومئذ في سن الطلاب، بل كنت قد اقتربت من الأربعين، ولقد جاءتني هذه البعثة الدراسية وكأنما هي معجزة من السماء جاءت لتفتح أمامي طريقا يئست من أن يفتح، وها هي ذي فرصة سنحت، فهل أترك منها دقيقة واحدة لتمضي في حياة مسترخية؟!
وكان أن سجلت لأتقدم بعد عشرة أشهر إلى امتحان البكالوريوس الشرفية في الفلسفة؛ ومهما اتسع خيال القارئ ليتصور كم بذلت من جهد إبان تلك الشهور العشرة، كم ساعة كانت للعمل من ساعات اليوم وكم منها للنوم، فلن يستطيع أن يبلغ بخياله ما عشته إبان تلك المرحلة من عمل لا يعرف الراحة، فلكل دقيقة عندي قيمتها وحسابها، وقد تسأل: وفيم هذا كله؟ وأجيب: قد لا يكون لهذا كله داع عند الطالب الذي يسير في حياته سيرة طبيعية مألوفة، أما عندي أنا يومئذ - أنا المحروم من اقتطاف الثمرة بعد كل ما زرعت - فكان الأمر عندي أمر حياة وموت؛ فماذا لو مضت الأشهر العشرة ولم أحقق غايتي؟ ألا يجوز أن يئول أمري إلى عودة بغير ما جئت من أجله ، فأعود مرة أخرى إلى السير في طريق مسدود؟
والحمد لله حمدا لا ينقضي؛ فقد وفقني توفيقا استطعت به أن أظفر بالبكالوريوس الشرفية في الفلسفة من الدرجة الأولى، وهي عندهم درجة لا يظفر بها إلا أقل من القليلين؛ ولذلك تجعلها جامعة لندن بمثابة ماجستير، ويصبح من حق صاحبها أن يسجل لإجازة الدكتوراه مباشرة، وهذا ما كان: طلبت من الجامعة تحويلي إلى كلية الملك؛ لغياب أستاذ الفلسفة في الكلية الجامعة التي كنت ملتحقا بها، ومرة أخرى شرحت لأصحاب الأمر هناك كيف لا تسمح لي ظروفي بالإرجاء يوما واحدا، فوافقوا على التحويل، ووضعت تحت إشراف الدكتور ه. ف. هالبت في موضوع «الجبر الذاتي»؛ ومعناه أن الإنسان لا تسيره إلا ذاته. وهو قول من السهل أن يطلق على عواهنه، ولكنه ليس بهذه السهولة كلها إذا أخضعه الباحث للمنهج الفلسفي الدقيق.
3
Página desconocida
لم تكن ظروف الحياة في إنجلترا يومئذ هي ما يعهده الناس في السلم، بل كانت الحرب قد تسربت بآثارها حتى تغلغلت في كل شيء، حتى الدراسة في الجامعات لم تكن ميسرة كل التيسير؛ فعدد كبير من أساتذتها مجندون في القتال، وكان لا بد من إحالة الطلاب إلى الموجود من الأساتذة الذين نسق بينهم العمل تنسيقا يجعل الطالب الواحد ينتقل بين مختلف الكليات؛ فقد تكون إحدى مواده الدراسية في الكلية الجامعة، والمادة الدراسية الأخرى في كلية الملك أو في كلية بدفورد؛ لأن أستاذ تلك المادة هناك ولم يعد موجودا في الجامعة كلها سواه.
كانت الحياة اليومية نفسها عسيرة وشاقة، فكل ضروراتها من طعام وثياب مقنن ببطاقات تموينية، بحيث لا يستطيع الفرد أن ينال أكثر من نصيبه حتى لو كان في خزائنه مال قارون، وكان من الصعب أن تقضي حاجاتك التي تحتاج في قضائها إلى أيد عاملة؛ فمثلا: كانت ساعتي قد أصابها سوء في طريق السفر، ولما أردت إصلاحها لم يكن ميسورا أن أجد محلا واحدا فيه عامل يقوم بالإصلاح المطلوب؛ فقد أغلقت محال الساعات إلا قليلا جدا منها، وهذا القليل نفسه كاد يخلو من العمال ؛ فالجميع هناك في ساحات القتال. ولما عثرت على من يصلح لي ساعتي، قيل لي: عد إلينا بعد ستة أشهر. وحدث لي شيء كهذا عندما كسرت نظارتي، وهكذا قل في كثير جدا من ضرورات الحياة.
كنت قد سافرت إلى إنجلترا قبل ذلك في بعثة صيفية (سنة 1936م)، فكنت على دراية بكثير من أوضاع الحياة فيها، فحدث في أول يوم وصلت فيه إلى لندن هذه المرة أن خرجت من الفندق بعد العشاء، وجعلت غايتي مكانا معينا ألفته في بعثتي الأولى، وأردت إلقاء نظرة إليه لأجدد العهد به، فلما نزلت إلى محطة «المترو» (القطار الذي يشق طريقه تحت سطح الأرض) ذعرت لما رأيته على أرصفة المحطة؛ إذ رأيته أسرة مصفوفة على طول الرصيف ومن طابقين، والرجال والنساء والأطفال - ممن هدمت منازلهم بقنابل العدو - يأوون إلى مخادعهم أو يتناولون طعام العشاء على صورة ينخلع لها القلب؛ لأنها - على الأقل - صورة لم تألفها عين ولا توقعها خيال، فعدت إلى الفندق مسرعا في طرق تملأ السائر رعبا بظلامها.
لا، لم تكن الحياة أول الأمر ميسرة ولا هينة، كانت طائرات الألمان تفاجئ الناس بضرب من القنابل يسمونه ف2، لم يكن يجدي معه صفارات الإنذار والركون إلى المخابئ؛ ففي أية لحظة من لحظات النهار أو الليل تفاجأ بصوت القنبلة يدوي، فلا تدري أسقطت على المنزل المجاور لمنزلك أم سقطت على محطة القطار القريبة، وإذا سمع الدوي ونحن جلوس في قاعة المحاضرة، أو سمع وأنا في مطعم أو في دكان، رأيت كيف يكون رد الفعل لأمثال هذه الأهوال عند هؤلاء الناس الذين خلقهم الله ليتحدثوا همسا وليعملوا صامتين؛ فقد كان الوجوم الذي يرتسم على الوجوه عند صوت القنبلة لا يوقف حركة المتحرك أو حديث المتحدث إلا بضع ثوان، ثم يستأنف كل ما كان في سبيله دون التعليق عما حدث بلفظة واحدة من الشفاه أو لحظة واحدة من العين، كأن شيئا لم يحدث، وكأن جدران المبنى لم يرجها الدوي القوي الفظيع.
ولكنني حتى في تلك الحياة العسيرة الشاقة لم ألبث طويلا حتى أذهلتني فروق شاسعة بين ما رأيتهم عليه وما عهدته في قومي؛ فالفرق شاسع شاسع - كما رأيته يومئذ - بين فكرتهم عن المساواة وفكرتنا عنها ، فماذا أصنع سوى أن أكتب مقالات أسجل فيها انطباعاتي تلك، وأبعث بها لتنشر في مجلة الثقافة في مصر؟ ولكن أي مقالات؟ هي مقالات من نوع فريد؛ فيها رمز، وفيها سخرية، وفيها أدب المقالة على نحو لم يألفه كثيرون من كتابنا فضلا عن القارئين، ثم فيها - فوق الرمز الساخر والشكل الأدبي - شواظ من نار تتأجج في ألفاظها. وكنت صادقا في كل جملة مما كتبت به، وكانت مجموعة تلك المقالات هي التي أخرجتها فيما بعد (سنة 1947م) في كتاب «جنة العبيط».
وكان هذا العنوان «جنة العبيط» هو نفسه عنوان المقالة الأولى في ترتيب الكتابة، وقصدت به أن حياتنا في مصر عندئذ كثيرا ما توصف عندنا بين عامة المتكلمين وكأنها حياة في الجنة، مع أنها في حقيقتها - بالقياس إلى حياة الناس كما رأيتها عند الآخرين - لا تكون جنة إلا في رأي «العبيط». ولم أكن أريد بتلك المقارنة درجات الفقر والغنى، أو حتى درجات المعرفة والجهل، بقدر ما أردت «القيم» الخلقية وحقوق الإنسان في التعامل مع سائر مواطنيه.
بدأت المقالة قائلا: «أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال، أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية، عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أن الصقر الهرم، تغفو عيناه فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو؛ لينعم في غفوته بحلاوة غفلته.»
وأخذت أرسم صورا من حياتنا، هي في حقيقتها من أبشع الصور طمسا لحقوق الإنسان، دون أن نرى فيها شيئا يعاب، وكانت صورة الختام ما يأتي، مما كان يحدث في مجتمعنا بين مخدومة وخادمة: «... أرادت زوجتي - في جنتي - أن تستخدم خادمة فسألتها: اسمك ماذا؟ - بثينة يا سيدتي.
لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء؛ حتى لا يختلط خادم ومخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين من اليوم زينب ، أتفهمين؟ - حاضر، سيدتي.
بثينة - بالطبع - لماذا تكون منذ اليوم زينب ... كان يأخذني الذهول عندما كنت أرى الخادمة في المنزل الذي سكنت فيه، تجلس على المقاعد نفسها التي يجلس عليها أفراد الأسرة، وقل ما شئت في دهشتي حين رأيت تلك الخادمة جالسة على المنضدة المجاورة للمنضدة التي جلست إليها ذات مساء لأتناول العشاء، فكذلك هي قد جلست هناك لعشائها ... صور مستحيلة الحدوث في مصر كما تركتها في تلكم الأعوام، حيث مقعد الخادمة هو الأرض، وحيث الخادمة لا تعرف لنفسها مكانا مما يرتاده «السادة».»
Página desconocida
أعود فأكرر القول بأن ما أثار ثورتي يومئذ على قومي وأهلي ليس هو أن يكون أو لا يكون فارق بين الناس في ضروب العمل وفي مقادير المال المكسوب، كلا؛ فذلك شيء لا مفر منه في أي بلد من بلاد الدنيا، بل الذي أثار ثورتي هو طريقة التعامل بين الإنسان والإنسان، حتى لقد خيل إلي يومها أننا وإن أطلقنا باللسان كلمات المساواة والحرية وما إليها، فنحن إنما ندس في طوايا نفوسنا أخلاق النظم التي تقسم الناس سادة وعبيدا، فأعط من شئت منا شيئا من السلطان، ثم انظر يومئذ كيف تكون صلاته مع من هم دونه سلطانا، إنه إذا ما تحدث إلى أحدهم جعل لذلك نبرة خاصة، ونظرة خاصة بعينيه، ووضعا خاصا يتوتر فيه جسده كله، حتى يجيء كل شيء فيه صارخا بأنه من طينة أخرى غير طينة الذي يتحدث إليه ... وقارنت ذلك كله بما رأيته هناك؛ حين رأيت بعيني مدير الجامعة وهو يتحدث إلى أحد العاملين في رعاية غرفته، وحين رأيت صفا من الرجال ساعة العصر قد اصطف ليأخذ كل دوره في قدح الشاي، فرأيت وزيرا (هو نويل بيكر) قد وقف وأمامه أحد السعاة، فلا هو أخذه ضجر من ذلك، ولا الساعي فزع إذ وجد نفسه أمام الوزير.
كان بين المقالات الملتهبة التي كتبتها انعكاسا للثورة الداخلية التي تأجج أوارها في نفسي كلما رأيت وقارنت سلوكا بسلوك وأخلاقا بأخلاق، مقالة عنوانها «تجويع النمر» أدرتها على تصور تخيلت به أننا إذا حللنا أي فرد منا وجدنا في جوفه نمرا رابضا ينتظر فرصة الظهور، فإذا ما صعد صاعد إلى مقاعد الرئاسة، لم يلبث ذلك النمر أن يظهر بكل أنيابه ومخالبه، وما طعامه الذي يتغذى به إلا ذلة الآخرين. ورأيت أن قوانين الدنيا بأسرها لا تفلح في تعديل العوج؛ وإنما العلاج السريع يكفله لنا شيء واحد؛ هو تجويع ذلك النمر، بأن يبعد الآخرون عن نطاق سلطانه، فينعدم الغذاء، فيذوى ويموت.
لكن ما حيلتنا والأمر في بلدنا كان أعجب من العجب! وهو أن من تنشب فيه مخالب النمر وأنيابه ترتسم على وجهه ابتسامة الرضا. وفي هذه الابتسامة البلهاء كتبت مقالة عنوانها «الكبش الجريح» أصور فيها المعنى نفسه في صورة أخرى، هي صورة الكبش تحز رقبته سكين الجزار فترتسم على شفتيه ما يشبه ابتسامة القبول.
هكذا وعلى هذا النحو أخذت خلال الأعوام التي أقمتها في إنجلترا في الأربعينيات أنظر إلى الأفراد كيف يتعاملون، وكيف تصان لكل فرد كرامته، دون أن يكون لاختلاف أنواع العمل أدنى الأثر في أن يتعالى أحد على أحد، ثم أقارن ذلك بما أعهده في مجتمعنا نحن، حيث المأساة الحقيقية ليست في أن «يتنمر» صاحب السلطان لمن لا سلطان له، بل المأساة هي في طمأنينة الرضا التي يتقبل بها القتيل أنياب القاتل ومخالبه، فماذا يصنع الكاتب إزاء ذلك إلا أن يستميت بقلمه حتى يتغير سلم القيم، ولو بعض التغير، فلا يظل أعلى تلك القيم في واقع حياتنا هو أعلاها (وأعلاها عندنا هو السلطة)، وأحسب أنني لو أنصفت نفسي ولو أنصفني النقد الأدبي لقلت، ويقال ذلك النقد المنصف: إن من أبرز السمات في كتابتي - اتخذت تلك الكتابة صورة أدبية أم اتخذت صورة التحليل الفلسفي - إنما هو محاولة تعديل القيم في حياتنا؛ لأنها في وضعها الراهن يستحيل ألا تؤدي إلى ما يشبه القسمة إلى سادة وعبيد.
4
ولم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمة في حياتنا، بحيث تسمح للمستبد أن يستبد، وتجيز لذليل النفس أن يذل، مما يذكرني ببيت من الشعر للعقاد يقول فيه:
أنصفت مظلوما فأنصف ظالما
في ذلة المظلوم عذر الظالم
أقول: إنه لم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمة في بلادنا، إلا ثورتي على حياتنا العلمية السائدة مضمونا ومنهجا؛ فقد كانت تلك الحياة العلمية حتى ذلك الحين - أعني أعوام الأربعينيات - منقسمة قسمين: أحدهما يحاول أن يتشبه بالحياة العلمية الحديثة، لكنه يكتفي من ذلك بالشكل الخارجي دون الجوهر الذي هو منهج النظر والفكر؛ لأنه إذا لم تتغير طريقة النظر، فقد يحدث - وهو بالفعل كثيرا جدا ما يحدث - أن يكون العالم عالما بما «يحفظه» من مادة تخصصه، وأما فيما هو خارج حدود التخصص من مواقف الحياة وشئونها، فيظل على النظرة نفسها التي ينظر بها من لم يتعلم أحرف الهجاء، والقسم الثاني من حياتنا العلمية عندئذ وقف وقفة رافضة للتحديث مضمونا ومنهجا، إنه لم يحاول حتى أن يتظاهر بالشكل العلمي الحديث في مواد البحث ومنهج البحث، بل تمسك بالقديم مظهرا ومخبرا.
وليأذن لي القارئ أن أعيد هنا مقالة كتبتها في تلك المرحلة، ساخرا مر السخرية من إصرارنا على ضروب من العبث الذي يتخذ عند أصحابه اسم «العلم» وهو من العلم الصحيح بعيد بعد الأرض عن السماء، كان ذلك العبث اللفظي ما زال قائما عندنا حين كان الغرب قد وصل إلى الذرة وتحطيمها واستخراج قواها الجبارة في قنابل وغير قنابل.
Página desconocida
وهاك المقالة الساخرة، الضاحكة الباكية، التي أرسلتها من لندن لتنشر في مجلة الثقافة، ونشرتها المجلة، فلم أسمع لها صدى، فهل بلغت يومئذ أفهام قراءها؟ كان عنوانها «بيضة الفيل» وهذا نصها: «قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة لتبيض، فماذا يكون لون بيضتها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء، يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء، واستدل على صحة قوله بدليل القياس ودليل من اللغة ؛ أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بيضها أبيض، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بيضته لونا آخر غير البياض، فإذا اختلف الفيل عن غيره من الحيوان فذلك في حجمه وقوته ونابه، وهذه صفات كلها لا تستلزم في البيضة لونا آخر غير البياض؛ فقد يكون الحيوان صغيرا كالذبابة أو كبيرا كالنعامة، قويا كالعقاب أو ضعيفا كالحمامة، بناب كالتمساح أو بغيره كالدجاجة، والبيضة هي هي في لونها، بيضاء لا تتغير؛ ومما يزيد في هذه الحجة وزنا ورجحانا أن الخلائق تجري على اطراد وتشابه؛ فالكواكب متشابهة، والبحار متشابهة، والطير متشابه، والحيوان متشابه، فلو قيل - مثلا: إن حيوانا جديدا سيولد بعد ألف عام، جاز لنا أن نحكم في ترجيح يقرب من اليقين بأنه سيكون ذا أذنين وأنف واحد وعينين، وعلى هذا القياس نفسه نحكم بالبياض على بيضة الفيل لو باض.
أما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقة من البياض، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرع عنه، ولا يعقل أن يتفرع عن البياض خضرة أو زرقة؛ لأن الفرع شبيه دائما بأصله؛ ولذلك قيل: هذا الشبل من ذاك الأسد.
ثم استطرد «عمارة» فتساءل عن حجم بيضة الفيل، وأجاب بأنها تكون قدر بيضة النعامة عشرين مرة، لا لأن الفيل يكبر النعامة حجما بهذا القدر كله، بل لأنه في قوته يوازي عشرين نعامة، والأساس في حجم البيضة هو قوة الحيوان البائض لا حجمه، فتكبر بيضة الحيوان أو تصغر بمقدار ما هو قوي أو ضعيف، لا بمقدار ما هو صغير أو كبير، على خلاف الرأي الشائع بين الناس، وقد أيد «عمارة» رأيه هذا بأمثلة ساقها تدل على أن الحيوان ربما كان كبيرا وباض بيضا صغيرا، أو كان صغيرا وباض بيضا كبيرا.
ثم تساءل «عمارة» أيضا: هل كانت طبيعة الفيل لتتغير لو باض؟ فيكون ذا جناحين ليتخذ طبيعة الطير؟ وأجاب بأنه ليس في نواميس الكون ما يستلزم هذا الانقلاب في طبيعته؛ فالسمك يخرج من البيض وليس له أجنحة، بل له زعانف تساعده على السبح ولا تساعده على الطيران، وبيض الفراش وبيض الذباب وما إلى ذلك يخرج منه الدود ولا يخرج منه ذوات الجناح، وإذن فقد يخرج من بيضة الفيل فيل ذو أربع قوائم وليس له جناح.
وأخيرا تساءل «عمارة»: ما حكم الشرع في بيضة الفيل؟ أيحل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا كذلك أجاب بدقته المعهودة: إن بيضة الفيل حلال أكلها بشرط حرام بشرط؛ فهي حلال إذا كانت لا تكسب الإنسان الآكل صفة الافتراس، وهي حرام إذا خيف أن تكسبه هذه الصفة، وإنما يكون الآكل بمنجى من عدوى الافتراس لو كان الفيل البائض هو الجيل العاشر من سلسلة أجيال استأنسها الإنسان.
بمثل هذه الدقة العقلية والبراعة الذهنية أثار عمارة بن الحارث هذه المسائل عن بيضة الفيل وأجاب عنها، ولا عجب؛ فهو الفقيه العالم الذي سارت بفتاواه الركبان فيما تعذر حله على غيره من العلماء.
وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة بأن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض؛ ولذلك فبيضة الفيل لا بد أن تكون بيضاء اطرادا مع القاعدة، إنه دليل لا يقوم على سند من الواقع؛ فليس صحيحا أن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض؛ فبيض البط فيه خضرة خفيفة، وبيض الدجاج في بعضه حمرة خفيفة، ومن الطير ما بيضه أرقط، ومنه ما بيضه أزرق، وأما دليل اللغة الذي ينبني على أن البيضة مشتقة من البياض؛ ولذلك وجب أن تكون بيضاء، فهو استنتاج معكوس ومغلوط في آن معا؛ معكوس لأننا حتى لو فرضنا أن البيضة مشتقة من البياض، فليس هذا دليلا على أن البيضة بيضاء لأنها بيضة، بل هو دليل على أنها بيضة لأنها بيضاء. ولتوضيح المعنى المراد، ضرب معسرة مثال الدقيق والخبز؛ فالدقيق أصل والخبز فرع، فإن جاز لنا أن نقول: إنه خبز لأنه من دقيق، فلا يجوز أن نقول: إنه من دقيق لأنه خبز. والدليل مغلوط؛ لأننا حتى إن رتبنا مراحل الاستنتاج ترتيبا صحيحا، وقلنا: إن البيضة بيضة لأنها بيضاء كانت النتيجة خطأ؛ لأنه لا يكفي أن يكون الشيء أبيض لنحكم عليه بأنه بيضة، وإلا لجاز لنا أن نقول : إن هذا الجدار بيضة لأنه أبيض، وهذا الدقيق بيضة لأنه أبيض، وهلم جرا.
وبعد أن فند معسرة أقوال عمارة بسط رأيه في لون بيضة الفيل، فقال: إن الفيل حيوان فيه شذوذ عن مستوى الحيوان، والشذوذ في البيض أن يكون أسود؛ ولذلك فإن كان الفيل ليبيض وجب أن تكون بيضته سوداء؛ إذ لو باض بيضة بيضاء كنا بمثابة من يقول: إن الحيوان الشاذ تتفرع عنه نتيجة لا شذوذ فيها، وهو قول فيه تناقض بين الصدر والعجز.
وكان بين تلاميذ ابن الحارث تلميذ نجيب؛ فتصدى للرد على نقد معسرة، فقال: إن معسرة - وهو شيخ المناطقة في زمانه - قد زل زلة ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجل مثله؛ فبينا هو ينكر أن يكون للبيض لون خاص، ويزعم أن من البيض ما هو أزرق أو أرقط، تراه في الوقت نفسه يقول: إنه ما دام الفيل حيوانا شاذا؛ واجب أن يكون بيضه شاذا في لونه كذلك، والشذوذ في البيض أن يكون أسود، فكيف يكون الشذوذ سوادا إذا لم تكن القاعدة بياضا؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن نسأل هذا العالم المنطقي: أصحيح أن الشاذ لا ينتج إلا شاذا؟ أيظن معسرة أنه ما دامت الحية لا تلد إلا الحية فالأعرج لا يلد إلا الأعرج، والأعمى لا يلد إلا الأعمى؟ فإن كان الأعرج ينسل من يمشي على قدميه، ولما نسل الأعمى من يبصر بعينيه، فلماذا لا يبيض الحيوان الشاذ بيضة تجري مع الإلف والعادة؟
قال الشيخ: هكذا جرى النقاش بين العلماء ...
Página desconocida
وهنا زلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: إنها يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية. قيل: فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه.»
فإذا أمعن القارئ فيما ترمز إليه مقالة «بيضة الفيل» - وقد أثبتناها هنا كاملة لنقدم بها نموذجا لسلسلة المقالات التي كتبتها أثناء دراستي في إنجلترا أواسط الأربعينيات - وجدها تنديدا سافرا بجزء كبير من حياتنا العلمية في مصر إذا ما قيست إلى الحياة العلمية كما رأيتها هناك؛ فأولا: لم تكن حياتنا العلمية، أو قل حياتنا الثقافية بصفة عامة، تتصدى لمشكلات الحياة الحية الجادة، بل يشد اهتمامها مسائل افتراضية تؤخذ من بطون الكتب، وثانيا: (وهذه هي النقطة الهامة والخطيرة) كان المنهج الفكري الغالب على المفكرين والباحثين هو المنهج الاستنباطي لا المنهج الاستقرائي، ونقصد بالأول منهجا يقيم الاستدلال على قضايا يفرض فيها الصواب، وكثيرا ما تستقى تلك القضايا مما قاله الأقدمون، وواضح أن النتائج التي تبنى على مقدمات ظنية تكون بدورها نتائج ظنية، ونقصد بالمنهج الاستقرائي منهجا يستقرئ وقائع التجربة كما تشاهدها الحواس مشاهدة علمية، فبالرغم من كونها نتائج احتمالية الصدق لا تبلغ حد اليقين الرياضي (وهذا شأن قوانين العلوم الطبيعية كلها) إلا أنها تجيء نتائج مستقاة من الواقع ومنصبة على الواقع، وليست كنتائج الحالة الأولى تجيء من «كلام» وتنصب على «كلام»، ويحسن بالقارئ أن يعيد قراءة مقالتنا «بيضة الفيل» - وهي الصورة الخيالية الساخرة التي رسمناها لحياتنا في تلك المرحلة من سيرة العقل - ليرى كيف أن حلقة البحث إنما دارت حول افتراض أن الفيلة تبيض، وإذا كانت لتبيض فماذا يكون لون بيضتها؟ وسيرى ثانيا أن العلماء الذين استشهد بهم (وهم علماء وهميون من صنع خيال الكاتب) استخدموا «القياس» منهاجا لاستخراج النتائج. وسيرى ثالثا أنه لانقطاع الصلة بين البحث العلمي المزعوم والواقع الفعلي، أصبح في الإمكان أن يعرض الرأي ونقيضه دون أن يكون هناك ما يحسم بين النقيضين لاختيار أحدهما على أنه الصدق العلمي ورفض الآخر على أنه مؤكد البطلان، وسيرى رابعا - في آخر المقالة - أن شيخ الحلقة الدراسية كان غارقا في أوهام، بينما الدنيا من حوله تعج بعلم جديد.
لقد أدركت في تلك الحقبة من السنين سر النهضة العلمية التي نشأت في أوروبا إبان القرن السادس عشر، فتولد عنها العلم الحديث والحضارة الحديثة بأسرها، وهو نفسه السر الذي لم ينكشف لنا حتى اليوم انكشافا كاملا، فتلكأت بنا النهضة ولبثنا نواصل شيئا من عصورنا الوسطى في عصرنا الحديث، وما ذلك السر العظيم إلا منهج جديد يحل محل منهج قديم، فبدل أن نقيم حلول مشكلاتنا على أقوال نستخرجها من الكتب القديمة، نقيمها على تحليلات دقيقة لعناصر المشكلات المرد حلها؛ لكي نصل إلى الطريقة الفعالة التي تحلها. بعبارة أخرى: بدل الاكتفاء بقراءة الكتب القديمة على أنها مشتملة على الحق كله، يجب أن نضيف إليها قراءة «الطبيعة»؛ أي قراءة الموقف الواقعي الذي يتصدى لدراسته، فمحور النهضة العلمية في أوروبا هو استبدالها بالمنهج القياسي الذي وضع أرسطو تفصيلاته منهجا استقرائيا جديدا كان فرنسيس بيكون أول من وضع له المبادئ والقواعد.
5
كانت أواسط الأربعينيات التي قضيتها في إنجلترا دارسا مرحلة استيقظ فيها الوعي عندي حادا قويا في عدة اتجاهات. لا أقول: إنها نشأت لي من عدم، وإلا فهي اتجاهات أحسست بها قبل ذلك بأعوام، ولكنها كانت على شيء من الفتور والتردد، وأما الآن - وأنا دارس في إنجلترا - فقد وجدت ما استبدل بفتورها قوة وبترددها عزيمة ماضية. وكان أول تلك الاتجاهات - كما أسلفت القول في الفقرة السابقة - قيمة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى. فلكل فرد من الناس كرامته، بل كدت أقول: «قداسته». بغض النظر عن أي شيء آخر مما يحيط به سوى أنه إنسان، لا شأن لهذه الكرامة - أو قل القداسة - بدرجة الفقر والغنى، أو بنوع العمل الذي يؤديه، أو بجنسه ذكرا هو أم أنثى، أو بظروفه الأسرية من أي أصل جاء، لا، لا شأن لهذه الأمور كلها بأن يكون لكل فرد من الناس إنسانيته الكاملة.
مثل هذا القول يسهل جريانه على الألسنة، وأما أن ينتقل من دنيا الكلام إلى دنيا التنفيذ فذلك من أصعب الصعاب على من لم يتشرب روح الحضارة التي تعلي من قيمة الإنسان، فلما أن رأيت تلك القيمة مجسدة في كل موقف بشري صادفته في تعامل الناس بعضهم مع بعض أثناء دراستي بإنجلترا؛ فقد تنبهت بقوة إلى ركن ناقص في بنائنا الاجتماعي في مصر، حيث كان من المسلمات التي لم يكن يجادل فيها إلا مكابر يعرض نفسه للخطر، وأن يستعلي بعضنا على بعض بناء على أوضاع معينة من منصب أو مال أو تعليم، إلخ.
وكذلك كان من الاتجاهات التي التفت إليها بقوة ووعي إدراكي أن سر تخلفنا العلمي كامن في «المنهج»، فبينما يتميز العالم المتقدم باصطناعه للمنهج التجريبي في كشفه للجديد أولا، وفي معالجته لما يعترض حياته من مشكلات ثانيا، كنا نحن في مصر - وما نزال حتى اليوم إلى حد كبير - نصطنع منهج القرون الوسطى الذي هو الارتكاز على ما ورد في الكتب القديمة في استخراج أحكامنا على الأشخاص والأشياء والمواقف، وفي طريقة معالجتنا لمشكلاتنا أو في معالجة كثير منها، وهو - كما نرى - فرق كبير في المنهج، يؤدي إلى تقدم من تقدم وتخلف من تخلف، وحسبنا أن نعلم بأنه إذا اختلف الرأي في موضوع معين كان الاحتكام - في حالة المنهج التجريبي - إلى دنيا الواقع والتطبيق الفعلي وهناك يتبين الصواب والخطأ، وأما إذا اختلف الرأي - في حالة المنهج العباسي - كان الاحتكام إلى أقوال وردت في كتبه منسوبة إلى قدماء، وفي مثل هذه الحالة لا يتعذر على كل صاحب رأي أن يجد في بطون الكتب قولا يؤيده تجاه خصومه.
وكان مما تضمنته الاتجاهات الجديدة في وجهات النظر اعتقادي اعتقادا لا مكان فيه لذرة من التردد أو الشك في حرية الإنسان، لكنها الحرية المحكومة بالروابط السببية التي لا تنقلها إلى حالة من الفوضى، وأعني بذلك أن يكون الإنسان حرا حرية «إيجابية» تظهر في أفعال منتجة وفي أقوال يقام البرهان العقلي على صوابها؛ إذ لاحظت - منذ ذلك الحين وما أزال ألاحظ حتى اليوم - أن معظم من يرددون بيننا كلمة «الحرية» لا يقصدون بها أكثر من جوانبها «السلبية»، بمعنى أن تكون تحررا من قيود، سواء أكانت قيودا مفروضة على الإنسان من خارج نفسه أم كانت قيودا منبثقة من داخل نفسه.
ولقد بلغ اهتمامي يومئذ بفكرة «الحرية» الإيجابية أن جعلتها موضوعا لرسالتي في الدكتوراه، فموضوع رسالتي هو «الجبر الذاتي » (هذه هي الترجمة العربية للعنوان في الأصل الإنجليزي، ولقد نقلها إلى العربية الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام)، والمقصود بعبارة «الجبر الذاتي» هو أن الإنسان في «حرية» إرادته مقيد بماضيه هو نفسه على الأقل، كما هو مقيد بعوامل أخرى تشكل له الإطار العام الذي يتحرك «حرا» بين حدوده، ولكنه داخل تلك الحدود نفسها - إذا ما فعل فعلا أو قال قولا - في مستطاعه دائما أن يبدع ما هو جديد غير مسبوق إليه؛ أي إن علوم الدنيا بأسرها لا تستطيع أن تتنبأ على وجه اليقين بما أنا فاعله أو قائله في اللحظة الزمنية القادمة، فهو فعل جديد، أو هو قول جديد، لكنها في كلتا الحالتين جدة تضيف إلى حصيلة البشرية من أفعال أو أقوال، وليست هي مجرد الجدة كالتي نراها - مثلا - في تخليط المجانين أو في «شخبطة» الأطفال إذا ما وجدوا ورقا وأقلاما.
بعبارة أخرى موجزة، أقول: إن حرية الإنسان كما تصورتها هي حرية من خلال الظروف الخارجية بما فيها العوامل التي شكلت حياته الماضية؛ فهذه الظروف والعوامل كلها هي بمثابة علة ضرورية للفعل الذي يؤديه الإنسان الحر أو القول الذي يصدر عنه معبرا به عن نفسه، لكنها علة وإن كانت «ضرورية» لحدوث ما يحدث، إلا أنها علة «غير كافية»؛ لأنها وحدها لا تضمن أن يفعل الإنسان الحر ما يفعله أو أن يقول ما يقوله؛ إذ لا بد أن يضاف إليها جانب آخر من طبيعة الإنسان نفسه، وهو إرادته الحرة.
Página desconocida
كان الدكتور هاليت الذي أشرف على رسالتي لإجازة الدكتوراه مختصا في فلسفة اسبنيوزا، وإذا علمنا عنه ذلك عرفنا أنه في مسألة الإرادة الإنسانية على نقيض ما ذهبت أنا إليه في رسالتي؛ إذ إن الإنسان في رأي اسبنيوزا جزء من الكون، لا يفعل إلا ما رسم له أن يفعله في الخطة الشاملة للكون كله، فإذا ظن الإنسان أنه إنما فعل كذا وكذا بمحض إرادته الحرة كان ذلك شبيها بالحجر الملقى بقوة دفع معينة، ويمكن حساب سرعته وموضع سقوطه على الأرض، غير أنه لو كان لينطق فربما قال: إنه إنما سقط حيث سقط على الأرض بمحض إرادته، وأنه كان هو الذي اختار طريق مساره ومقدار سرعته.
فهذا الاختلاف البعيد بين نظرة أستاذي التي استقاها من مجال تخصصه، وبين النظرة التي أخذت أتجه إليها خلال البحث العلمي الذي اضطلعت به، ولقد كان هذا الخلاف بين النظريتين مصدر خير لي لا تحد حدوده؛ لأن الأستاذ كلما اجتمعنا لمناقشة فصل من فصول الرسالة كان يجمع قوته الناقدة كلها؛ لينظر بها إلى كل كلمة مما قدمته إليه، وكان علي أن أكون على أقصى درجات الاستعداد من حيث دقة الصياغة ووضوح المعنى وقوة الحجة؛ مما أخرجني بعد إتمام الرسالة وكأني إنسان آخر.
من كل ما أسلفته عن المؤثرات والدراسات التي مارستها وتأثرت بها أثناء إقامتي في إنجلترا، يمكن القول بأنني خرجت بنظرة ذات شعبتين هي التي عدت بها إلى مصر في أواخر 1947م، معتزما أن أتجه بنشاطي كله نحو العمل بما تمليه علي تلك النظرة بشعبيتها، فمن جهة خرجت يملؤني الإيمان بضرورة الأخذ بأهم أركان الثقافة الأوروبية التي كان من نتائجها في حياة الأوروبيين ما رأيته من قيم تعلي من شأن الإنسان الفرد إعلاء يجعل منه كائنا ذا قداسة، ومن جهة أخرى خرجت على إدراك واضح بأن نهوضنا مما نحن فيه من تخلف في ركب الحضارة العصرية مرهون بتغيير المنهج؛ لتكون الكلمة الأولى والأخيرة للتجربة العلمية في كل ما هو متصل بحقائق العالم الذي نعيش فيه، على أن هذا العالم المحيط بنا ليس هو كل شيء، بل يوازيه عالم باطني في ذواتنا قوامه إيمان ووجدان؛ ففي هذا العالم الخاص معياره الخاص كذلك، وعلى ذلك يكون لعلمنا بالعالم المادي ميزان، وللتعبير الصادق عن عالمنا الوجداني ميزان آخر، ولا يجوز الخلط بينهما كما نخلط عادة، كما لا يجوز اعتداء أحدهما على الآخر كما يحدث عند كثيرين.
6
كانت المكتبة العامة لجامعة لندن هي مكاني المختار أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه، فكنت في معظم الحالات أول زائر لها في الصباح وآخر من يغادرها في المساء، ولم أكن أترك مكاني طيلة يومي إلا ساعة للغداء وسويعة للشاي، وكلاهما في مطعم في البناء نفسه، لكن ساعات العمل لم تكن كلها مخصصة للرسالة، بل تتخللها ساعتان أكسر بهما ملل الرتابة بشيء خارج مادة الرسالة، وفي هذه الفترة اليومية قرأت كثيرا وأنجزت كثيرا.
فكان من أهم ما أنجزته: الجزءان الثالث والرابع من «قصة الأدب في العالم»، الذي اتفقت مع الأستاذ أحمد أمين منذ سنة 1940م على القيام به، وكما أسلفت القول في الفصل الأول من هذا الكتاب كان الجزءان الأول والثاني قد صدر أولهما وأنا في القاهرة، وتركت مخطوط الثاني قبل سفري، وها أنا ذا قد بلغت بالثالث والرابع تاريخ الأدب حتى نهاية القرن التاسع عشر.
كان نصيب الأستاذ أحمد أمين من العمل - فوق المراجعة الشاملة - كتابة الفصل الخاص بالأدب العربي من كل جزء، وكان الدكتور عبد الوهاب عزام هو الذي تولى كتابة الفصل الخاص بالأدب الفارسي في الأجزاء الثلاثة الأولى، وتولى الدكتور يحيى الخشاب كتابة هذا الفصل من الجزء الرابع، وأما بقية الفصول فهي بقلمي.
وكانت خطة العمل - كما ذكرت في موضع سابق - هي اختيار كتاب جيد لكل مرحلة من تاريخ الأدب في أقطاره الهامة؛ ليتخذ عمودا يستند إليه، مع إضافة هنا وحذف هناك كلما اقتضت الحاجة مثل تلك الإضافة وهذا الحذف، وإلى هنا قد يقال - وكثيرا ما قيل - ما أهونه من عمل! فحسبك أن تجيد الإنجليزية قراءة وفهما، لتمثل ما تقرؤه في الكتاب المختار، ثم تعيد المادة المقروءة في لغة عربية، وكان الله يحب المحسنين ... لكن قائل هذا يفوته جانب هام، وهو الأمثلة التي اختيرت للترجمة شعرا ونثرا، فما كل قصيدة وما كل أسطر من النثر الفني في لغته الأصلية يصلح أن يترجم إلى العربية مع الحفاظ على الرونق الخاص الذي يجعل الكتابة أدبا، نعم إن أي كتاب مختار للاعتماد عليه كان معدا بالأمثلة شعرا ونثرا، لكن نسبة لم تكن بالقليلة من تلك الأمثلة كان صالحا للترجمة، وعندئذ كان علي أن أنقب في دواوين الشعراء وفي نصوص الأدباء؛ لأقع على نماذج لا تفسدها الترجمة إلا بالحد الأدنى؛ وذلك لأن كل ترجمة للأدب من لغته الأصلية إلى لغة أخرى تفقده شيئا من جماله. ولك بعد هذا التوضيح لطبيعة العمل الذي أنجزته في «قصة الأدب في العالم» أن تقدر بنفسك كم عانيت في جمع عشرات من النماذج الأدبية وترجمتها على طول أربعة أجزاء.
وكنت قبل مغادرتي لإنجلترا عائدا إلى مصر، قد أعددت شطرا كبيرا من أدب القرن العشرين؛ ليكون الجزء الخامس، لكنني لأمر ما ضاقت نفسي على مدى سبعة أعوام من عمل لم أكن فيه إلا تابعا لتابع، كنت أشعر أنني بمثابة ظل للظل إذا أمكن أن يكون للظل نفسه ظل، لكنني رجل من هؤلاء الناس الذين يرتبطون بالعهود، ولقد تعهدت أن أؤدي هذا العمل فأديته، أتممت منه الأجزاء الأربعة التي بدأت منذ بدايات الأدب هنا وهناك من مراكز الحضارات، وبلغت بها آخر القرن التاسع عشر، ثم أعددت - كما ذكرت - معظم مادة القرن العشرين لتكون جزءا خامسا، لكنني عند ذلك الحد لم أستطع مغالبة نفسي الساخطة، فأبيت للجزء الخامس أن يشهد النور، ولا بد أن يكون مخطوطة «مدشوتا» إلى الآن في أكداس المخلفات الورقية عندي، والتي لم أعد أعرف لها أولا من آخر.
7
Página desconocida
انتهت الحرب العالمية الثانية في صيف 1945م، ولم تمض إلا بضعة أشهر بعد انتهائها حتى أقيمت الدورة الأولى لهيئة الأمم المتحدة في لندن (أصبح مقرها منذ الدورة الثانية مدينة نيويورك)، واضطر بلد عربي إلى الاستعانة بالسفارة المصرية في لندن؛ لتعيره ثلاثة من المصريين المقيمين هناك حينئذ، يصلحون أن يكونوا أعضاء في وفده الرسمي إلى تلك الدورة الأولى لهيئة الأمم المتحدة، وكنت أحد الثلاثة الذين اختارتهم السفارة، فأتيح لي - للمرة الأولى وربما للمرة الأخيرة أيضا - أن أمضي نحو ستة أسابيع على مقربة قريبة من كبار الساسة في العالم إبان تلك الفترة الهامة التي أعقبت الحرب مباشرة، والتي ظن هؤلاء الساسة الكبار أنهم إنما جاءوا ليضعوا فيها أسسا للسلام الذي لا تستطيع بعدئذ أن تهزه نازية أو فاشية أو ما شاكلها من نظم.
كانت فرصة نادرة لأرى ليوث السياسة في عرينهم، فأرى كيف يعتركون بالحيلة الناعمة والخدعة المغلفة بالحلوى، فخرجت آخر الأمر، من كل ما رأت عيناي وسمعت أذناي، كافرا بتلك اللعبة الصبيانية التي يسمونها «سياسة»، وكم من مرة همست لنفسي ما نسب قوله إلى الإمام محمد عبده: لعن الله السياسة، وساس، ويسوس، وسائسا، ومسوسا. لماذا؟ لأنني ما وجدت في ألاعيب الساسة بعضهم على بعض إلا مهارة تشبه مهارة الحواة، تخرج الأرانب من قبعات خالية، فهم - مثلا - يضعون صيغة معينة يحلون بها مشكلة معينة ويوافقون عليها بالإجماع، ثم ما هي إلا أن يحتدم الخلاف على تأويلها، وينهض من هنا خطيب ومن هناك خطيب، ومن هذا البلد فقيه ومن ذلك البلد فقيه، يبذلون كل ما في مواهبهم من ذكاء؛ لتأويل الصيغة المتفق عليها تأويلا يخدم وجهة نظره الوطنية.
قلت لنفسي إزاء هذه الألاعيب: لو كانت «السياسة» علما كسائر العلوم الدقيقة المضبوطة؛ لما كان هنالك مجال لهؤلاء الحواة، ولانكشف الغطاء عن مهاراتهم المزعومة؛ لأنها لو كانت في دقة العلم لما تعددت التفسيرات والتأويلات، وإذا كانت الصيغة التي وافقوا عليها محلا لاختلاف التفسير والتأويل، فلماذا لا يضعون لأنفسهم صيغة أدق وأوضح وأشد حسما؟ وهكذا خرجت من تلك الخبرة بدرس تعلمته عن السياسة ما يزال إلى هذه الساعة هو الدرس الذي يشكل وجهة نظري؛ وهو أن العمل السياسي - بهذه الصورة الشائعة - لا يصلح له إلا عقول تنقصها الرغبة في دقة التفكير العلمي.
ثم سنحت لي بانتهاء الحرب فرصة أخرى من نوع آخر، وهي فرصة أتاحت لي ترجمة ما يقرب من ثلاثمائة بيت من شعر العقاد إلى الإنجليزية شعرا ... كيف؟ أرادت جامعة لندن أن تقيم لقاء ثقافيا على مدى أسبوع (أو أكثر من أسبوع، لا أذكر) للإنجليز الذين هم في سبيلهم إلى مزاولة أعمالهم في ربوع الشرق العربي، فوضعت خطة لبرنامج ثقافي وإعلامي، يزود الحاضرين بزاد فكري عن العرب.
وأرسلت جامعة لندن إلى السفارات العربية؛ لتوزع الموضوعات المقترحة على علماء العرب وأدبائهم ممن تصادف وجودهم في إنجلترا، وكان أن تلقينا - أنا وصديقي المرحوم الدكتور محمد النويهي - ما يشبه التكليف من سفارتنا المصرية بأن نتقاسم الحديث عن حياتنا الأدبية، فأما الدكتور النويهي فيتولى الأدب العربي القديم، وأما أنا فأتولى الأدب العربي المعاصر، وكانت جامعة لندن قد اقترحت في خطابها أن يدار حديث المتحدث على رجل واحد، يتخذ منه المتحدث نموذجا للتعبير عن المناخ الوجداني والفكري السائد في الفترة التي يدار عليها الحديث، فوقع اختياري على «العقاد الشاعر».
لقد كنت أرى في العقاد الشاعر - وما زلت أرى - تعبيرا قويا وصادقا عن أهم ملامح مناخنا الفكري والشعوري فيما بين الحربين العالميتين؛ لأنه رفع لواء الحرية بكل معانيها. ولا خلاف على أن مطلب الحرية في حياتنا الثقافية كلها - منذ الاحتلال البريطاني - إنما كانت تدور عجلتها حول محور رئيسي هو فكرة «الحرية»، لكن للحرية وجوها كثيرة: أحدها الحرية السياسية، وحين أقول عن شعر العقاد: إنه جاء تعبيرا قويا وصادقا عن تطلعنا للحرية، فإنما قصدت شيئا أكثر جدا من مجرد التحرر من مستعمر خارجي أو من مستبد داخلي؛ إذ قصدت إلى حرية الإنسان من حيث هو فرد مستقل يصنع لنفسه قرار حياته، ليكون مسئولا بعد ذلك عن قراره ذاك أمام الله وأمام الناس وأمام نفسه؛ فتلك الحرية الفردية - كما أراها - هي الأساس لكي تتحقق كل حرية أخرى. وأحسب أن العقاد في حياته الفردية - منعكسة في شعره - نموذج حي ناطق لما أردت عرضه على الحاضرين.
وعندما بدأت إعداد المحاضرة لم أكن أحلم بأن الأمر سينتهي بي إلى جهد من نوع نادر؛ وذلك أني رأيت - بعد أن سرت في إعداد المحاضرة شوطا - أن الصورة التي سوف أقدمها للناس ستظل كالدخان العالق بالهواء ما لم أقدم نماذج من شعر العقاد، وهل تكون ترجمة الشعر إلى لغة أخرى - إذا أريد لها أن تترك في السامع أقوى أثر ممكن - إلا شعرا؟ إذن فلأجرب قدرتي في هذا السبيل، وإذا عجزت فلأقنع عندئذ بترجمة نثرية لمعاني الأبيات المترجمة. ووفقني الله - بعد جهد ذهني مركز لعدة أيام - توفيقا يشهد عليه أن مجلات الشعر هناك (وفي أمريكا) نشرت ما أرسلته إليها من تلك النماذج.
8
كنت لم أزل ماضيا في إعداد رسالتي للدكتوراه، وموضوعها - كما ذكرت - هو «الجبر الذاتي» وهو موضوع - كما ترى - يمس حرية الإرادة بصفة أساسية وجوهرية، ودون أن أتعمد في البداية أن أتجه في بحثي مع هذا المذهب أو ذاك من مذاهب الفلسفة؛ فقد جاءت الأفكار منساقة نحو شيء يشبه مذهب برجسون في فكرته عن التطور الخلاق، وعن طبيعة الحياة كيف تبدع ما هو جديد، كما انساقت الأفكار كذلك نحو شيء يشبه حرية الإنسان عند بعض فلاسفة الوجودية.
وبينما أنا ماض في طريقي ذاك، أعلن عن تعيين الدكتور ألفرد آير (وكان إلى ذلك الحين أستاذا في جامعة أكسفورد) رئيسا لقسم الفلسفة في الكلية الجامعة بجامعة لندن، وجريا على العرف المألوف كان على الأستاذ الجديد أن يفتتح عمله بمحاضرة عامة، وأعلن بالفعل عن موعد تلك المحاضرة، لم أكن قرأت شيئا للدكتور آير، فرأيت ضرورة أن أعرف عن الرجل شيئا قبل استماعي لمحاضرته العامة، فكان أول ما قرأته من كتبه، كتابه الذي يلخص به اتجاها فلسفيا ظهر أولا في فينا خلال العشرينيات من هذا القرن، ثم أخذت دائرته تتسع، وهو اتجاه أطلق عليه أصحابه اسم «الوضعية المنطقية»، ثم شاع له بعد ذلك اسم آخر لعله أنسب وهو «التجريبية العلمية»، فما إن تلقيت الفكرة الأساسية في هذا الاتجاه؛ حتى أحسست بقوة أنني خلقت لهذه الوجهة من النظر.
Página desconocida
ليس هنا المكان المناسب لذكر شيء من تفصيلات الفكرة، مما دعاني إلى تبينها والدفاع عنها ومحاولة نشرها في العالم العربي - فذلك كله سيرد مكانه في فصل تال من هذا الكتاب - لكن حسبي هنا أن أقول عن هذا الاتجاه شيئا واحدا؛ وهو أنه يقصر الفكر الفلسفي على تحليل ما تقدمه لنا العلوم من قضايا أساسية تحليلا يكشف عن الجذور الأولية التي منها تنبت هذه الفكرة العلمية أو تلك، مما هو متضمن في مجالات العلوم المختلفة، وبهذا نعفي الفلسفة من أن يكون لها هي نفسها قضاياها الخاصة بها عن أي شيء خاص بالكون أو بالإنسان، لماذا؟ لأننا في عصر العلم هذا نسلم زمام الكشف عن حقائق الأشياء إلى رجال العلم ولهم مناهجهم وأجهزتهم التي تمكنهم من الوصول إلى نتائج صحيحة، لكن العلم إنما يبدأ بحوثه في أي مجال من نقطة بعينها، ثم لا يسأل ماذا يسبق تلك النقطة مما يشبه جذور الشجرة الدفينة تحت التراب؟ فيكون هذا «التأصيل» مهمة الفلسفة.
وسأترك الحديث في هذا إلى حينه، مكتفيا بالقول بأنني حين عدت إلى مصر (في خريف سنة 1947م) كان قد تبلور فكري في شعبتين: إحداهما وجوب الأخذ بروح الثقافة الأوروبية المعاصرة، لعلها تنتهي بنا إلى مثل ما انتهت بأصحابها إليه من وضع الإنسان الفرد في مكانة تشبه التقديس، والثاني هي وجوب الدعوة إلى التجريبية العلمية؛ لأنها إذا كانت مجرد اتجاه فلسفي هناك، فهي بالنسبة للأمة العربية ضرورة؛ إذ من شأنها أن تضبط اللفظ في مجال التفكير العلمي ضبطا صارما، وهو ما أظننا في أشد الحاجة إليه، وسوف أورد ذلك فيما بعد بشيء من التوضيح.
9
وعدت إلى مصر، ونقلت إلى جامعة القاهرة (وكان اسمها يومئذ جامعة فؤاد الأول) مدرسا بقسم الفلسفة في كلية الآداب، وما كدت أشمر عن ساعد العمل الجاد في سبيل الهدفين المذكورين حتى عوقتني معوقات سرعان ما تغلبت عليها بوقفة إرادية حازمة وحاسمة.
فلم تكن قد مضت بعد عودتي أشهر قليلة حتى دعاني وزير التعليم، ودعا معي المرحوم محمد بدران، وقال لنا: إن «أمرا» صدر إليه من القصر الملكي بأن يترجم إلى العربية كتاب «آثرت الحرية» لكرافتشنكو، الروسي الذي أفلت من استبداد الحكم في بلاده، وأخرج للناس هذا الكتاب ليوضح لهم حقيقة الحياة في الروسيا. وأضاف الوزير لنا بأن القصر يريد للترجمة أن تنجز في ثلاثة أشهر، ولما كان يعلم عنا قدرة حاجته في هذا المجال، فهو بدوره يكلفنا بأداء هذا الواجب خلال الأشهر الثلاثة، ومن ناحيتي حاولت التخلص، فلم يدع لي الوزير مجالا للحديث، ولقد أخجلني بما كان يعرفه عني من تقدير له.
اتفق معي الأستاذ بدران على أن يتولى هو الربع الأول والربع الأخير من الكتاب، وأن أتولى أنا الربعين الثاني والثالث في سياقهما المتصل، ولم يفتني بالطبع ما كان يخفيه في نفسه من غرض في هذا التقسيم، وهو أن يوضح اسمه على الغلاف قبل اسمي، لكنني مع ذلك وافقت مبتسما في إشفاق؛ لأن العمل كله صخرة ألقيت على كاهلنا بصورة لا تجوز إلا في بلد يسوده الطغيان، ولا يخفف من وقع السخرة أن يجيء الاسم أولا أو أن يجيء ثانيا.
ومع ذلك فلا بد لي أن أذكر هنا كيف كنت أرتعد فزعا أثناء عملية الترجمة كلما ورد وصف من تلك الأوصاف المخيفة للطريقة التي كان يحكم بها الشعب الروسي كما رآها كرافتشنكو، ولقد أنجزت نصيبي في أقل من شهرين، وظننت أنني بعد ذلك سأفرغ إلى عملي، وأذكر أني لكي أخرج ترجمة ذلك الكتاب من حياتي خصصت له ساعتين بعد أذان الفجر من كل صباح، ثم أبدأ يومي وكأن شيئا لم يكن.
لكنني إذ فرغت من «آثرت الحرية» وقعت في حفرة أخرى، برغم أن الأمر هذه المرة لم يصدر من «جهات عليا» - على حد العبارة المألوفة - بل صدر من أستاذ أكن له الحب والتقدير، هو الأستاذ أحمد أمين؛ وذلك أن الجامعة العربية (وكان الأستاذ أحمد أمين عندئذ مديرا للإدارة الثقافية بها) قررت ترجمة «قصة الحضارة» تأليف ولديورانت، ومرة أخرى طلب إلى الأستاذ محمد بدران وإلي أن نضطلع بهذا العمل، فبدأنا معا بالمجلد الأول، وهو يحتوي على خمسة أقسام (صدر كل قسم منها كتاب مستقل في ترجمته العربية) فكان نصيب الأستاذ بدران «مصر» و«الصين»، وكان نصيبي «نشأة الحضارة» و«الهند وجيرانها» و«اليابان»، لكنني بعد هذا المجلد الأول نفضت يدي من هذا المشروع الضخم، ويكفي أن يعلم القارئ أن الترجمة ما زالت مستمرة في أجزائه، برغم أن ما صدر منه حتى الآن بلغ الجزء الثلاثين أو ما يقرب من ذلك، فهو موسوعة ضخمة، تعرض أطوار الحضارة عرضا خلابا، ولو كنت طاوعت النصح بأن أمضي في ذلك المشروع؛ لما كتبت ورقة واحدة في تخصصي العلمي، ولا في بسط وجهة نظري الثقافية.
ومع ذلك فما نفضت يدي من «قصة الحضارة» إلا لأتورط مرة ثالثة، لكن العمل هذه المرة كان متصلا بالدراسة الفلسفية على وجه من الوجوه، إلا أنني مع ذلك لم أكن أريد التورط فيه في ذلك الحين لأنصرف إلى عملي، سواء ما اتصل منه بالتدريس في الجامعة، أو ما اتصل منه بالحياة الثقافية العامة التي ما تركت المشاركة فيها يوما واحدا منذ بدأت حياتي العملية. أما العمل الذي اعترضني هذه المرة فهو ترجمة كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» لبرتراند رسل، والكتاب ضخم، ويقع في ثلاثة أقسام: الفلسفة اليونانية والفلسفة الوسيطة والفلسفة الحديثة، وكان هذا الكتاب قد صدر أثناء وجودي بإنجلترا، وقرأته هناك أول صدوره، ووجدت فيه عرضا جديدا مبتكرا لتاريخ الفلسفة؛ لأنه يربط علاقات وثيقة بين الفكر الفلسفي من جهة، والظروف الاجتماعية السائدة في العصر المعين من جهة أخرى، مما يبين بيانا جليا أن ذلك الفكر الفلسفي هو انعكاس مباشر للحياة كما يجري في دنيا الواقع.
ترجمت الجزأين الأول والثاني، ولأمر ما رفضت رفضا جازما أن أكمل الجزء الثالث ليكتمل العمل، والخير في أن أمسك عن ذكر الظروف التي حملتني على ذلك الرفض. وعلى أية حال فقد أسدلت بهذا ستارا على ما أسميته بمرحلة الانتقال من سيرتي العقلية، لأبدأ مرحلتي الجديدة التي دعوت خلالها إلى هدفين: الأخذ بروح ثقافة العصر، وأن تكون التجريبية العلمية ضابطا للفكر في مجالاته العلمية.
Página desconocida
وكأنما أراد لي الله أن تكون بين يدي الأداة التي أستطيع بها أن أعبر ما بقي أمامي من مرحلة التحول إلى المرحلة التي تليها، والتي استقر عليها الفكر عشرين عاما (1950-1970م) وهي التي أشرت إليها فيما أسلفته، قائلا: إنني سرت خلالها على خطين متوازيين: أحدهما الدعوة إلى ثقافة العصر، والآخر الدعوة إلى منهج التجريبية العلمية في صياغة الأفكار. أقول: بإذن مشيئة الله كأنما أرادت أن تضع بين يدي الأداة التي أستعين بها على الانتقال من مرحلة إلى مرحلة؛ وذلك أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أوكلت إلي - باعتباري عضوا فيها - الإشراف على مجلة الثقافة التي كانت تصدرها، فكانت لي فرصة الكتابة الأسبوعية؛ لأفتتح كل عدد منها بمقالة، فماذا كنت أكتب أسبوعا بعد أسبوع؟ كنت أكتب ما يصح أن أطلق عليه اسم القنابل المتفجرة، لعلها تنسف جزءا من ألف جزء في الإطار الثقافي العتيق الذي كنا ما نزال نعيش فيه، برغم فترة من الاتصال بحضارة الغرب امتدت بنا - حتى ذلك الحين - مائة وخمسين عاما، وبرغم زيادة أعداد المتعلمين إلى أعلى مستويات التعليم، فذلك كله لم يزحزح إلا قليلا مجموعة من القيم ذهب زمانها، وأبشعها قيمة السلطة لمن يتولاها. ولقد جمعت مجموعة المقالات التي كتبتها على مدى ثلاثة أعوام أو ما يقرب منها في كتابين: أولهما كتاب «شروق من الغرب» واسمه هذا دال على روح محتواه، والثاني كتاب أسميته (في طبعته الأولى) «والثورة على الأبواب»، وقصدت بذلك أن تلك الأفكار الغاضبة الساخرة الثائرة إنما نشرت كلها قبيل قيام الثورة في يوليو 1952م، لكنني لحظت فيما بعد أن حرف الواو الذي يبدأ به العنوان، كثيرا ما يسقط عند المتكلم أو الكاتب، فيصبح العنوان دالا على شيء آخر غير مقصود، فجعلت عنوان الكتاب في الطبعة الثانية «الكوميديا الأرضية»، وربما جاء هذا العنوان أكثر دلالة على روح مضمونه الفكري.
الفصل الثالث
دعوة إلى ثقافة العصر
1
أبدأ حديثي عن هذه المرحلة في مسيرة العقل الذي أروي قصة تطوره باعتراف أعترف به عن نفسي في ذلك الحين - أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات - بأنني حين دعوت إلى الأخذ بثقافة الغرب - والغرب هو «العصر» لأنه هو صانع حضارة عصرنا - كنت في تلك الدعوة على كثير من التطرف؛ لأنني عندئذ نظرت إلى الأمر من جانب واحد، هو جانب «العصرية» التي لا بد منها في إنسان اليوم، لكنني أهملت الجانب الآخر الذي لا بد منه كذلك حفاظا من أي إنسان معاصر على هويته الخاصة التي صنعها تاريخه، فجاءت نظرتي إلى «الثقافة» المنشودة نظرة مبتورة تثبت جانبا وتهمل جانبا آخر، ولم أصحح هذا الخطأ إلا في أول السبعينيات، كما سأروي في المكان المناسب من هذا الكتاب.
لكنني الآن مقيد بتصور المرحلة الفكرية التي اجتزتها في الفترة المشار إليها ، وهي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، أو قل: إلى آخر الخمسينيات، فعندئذ تصورت أمامي صورتين: إحداهما الصورة الحضارية التي رأيتها في أوروبا، وأوروبا - كما قلت - هي في عيني إذ ذاك هي «العصر»، وأما الصورة الأخرى فهي ما عرفته عن بني وطني، فكما يتمنى الوالد لولده الكمال، ويؤذيه غاية الإيذاء أن يلمح فيه شيئا من النقص حتى ولو كان تافها يسيرا، وربما ضربه وأغلظ له في التأنيب بسبب حبه له، فكذلك أقول عن نفسي فيما تصورته وصورته عن مصر في ذلك الحين، والحق أني في تصوير النقص الذي تخيلت وجوده في حياتنا ورأيت ضرورة التخلص منه لم أعمد في ذلك إلى تحليل علمي، بل كنت في أكثر الحالات ألجأ إلى التصوير الأدبي، ولا بد لي هنا من لفت الأنظار إلى الفارق الكبير بين الطريقتين في الكتابة عن موضوع بذاته: الطريقة التي يجوز لنا تسميتها بالطريقة العلمية، والتي تتناول الموضوع تناولا مباشرا بالتحليل والمعالجة، وأما الأخرى فهي طريقة التصوير الأدبي، والشرط الذي لا بد من توافره هنا هو أن تعرض الفكرة المقصودة عرضا غير مباشر، وذلك بأن يقيم الكاتب شكلا ما يجسد به فكرته تجسيدا من شأنه أن يجعلها أرسخ أثرا في نفس القارئ.
لجأت فيما كتبته عن الحالة كما تصورتها في مصر إلى الضرب الثاني؛ أعني إلى التصوير الأدبي، فليس أمامي الآن إلا أن أعرض على القارئ نماذج من ذلك التصوير.
لقد رأيت في حياتنا كثيرا من الظلم والقهر والاستبداد والتسلط والتنافر والكراهية، مما أدى في نهاية الأمر إلى فقدان الفرد لكرامته وحريته واستقلاله، فصورت ذلك بقلم المؤمن بأنه لا أمل في خلق مجتمع جديد إلا إذا سلمت وحداته البشرية أولا وقوي بنيانها، ففي مقالة عنوانها «الكوميديا الأرضية» قلت:
يحكى أن شاعرا كان اسمه «دانتي»، عاش في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، قد كتب قصيدة طويلة عظيمة، أسماها له الناس من بعده «الكوميديا الإلهية»، طاف فيها بصحبة أستاذ له قديم من الشعراء الأولين هو «فيرجيل»، طاف بالجحيم فوصف من شهده فيها من الآثمين، وما شهده منصبا عليهم هناك من عذاب أليم.
ثم شاء الله - ولا راد لمشيئة الله إذا شاء - أن يبعث «دانتي» حيا شاعرا كما كان، وأن يبعث معه «فيرجيل» دليلا هاديا كما كان أيضا، وعادت لدانتي شهرته القديمة في وصف الأهوال، فكان أن زار بلدا يقال عنه إنه بلد العجائب، حتى إذا ما رجع إلى بلاده عمد توا إلى ما كان قد كتبه في حياته الأولى، وأدخل عليه تغييرا وتحويرا يناسب العصر الحديث، مستفيدا مما علمته التجربة في بلد العجائب، وإدراكا منه بأن الشاعر الحق لا مندوحة له عن مسايرة الزمن، لكنه هذه المرة أطلق العنوان بنفسه على قصيدته، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة كما قد فعل أول مرة، فاختار عبارة «الكوميديا الأرضية» عنوانا لقصيدته الجديدة.
Página desconocida
وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم في «الكوميديا الأرضية» كما كتبها الشاعر القديم الحديث.
يقص علينا «دانتي» كيف سار في صحبة دليله «فيرجيل» حتى بلغا باب الجحيم الأرضي، فقرآ على قمة الباب هذه الأسطر الآتية مكتوبة بماء الذهب: «ادخلوا إلى مدينة الأحزان، ادخلوا إلى أرض العذاب، ادخلوا بين من ضلت بهم السبيل، فيا أيها الداخلون، انفضوا عن أنفسكم عند مدخلي كل رجاء.»
ويدخل الرجلان، فإذا بالجحيم هوة سحيقة، في هيئة واد طويل مديد، رأسه عند مركز الأرض، وقدمه عند حافة البحر، وجوانبه متدرجة درجات عراضا، وعلى هذا الدرج حشر الآثمون ...
وتأخذ المقالة بعد ذلك في وصف رحلة الشاعرين في حلقات الجحيم ليشهدا في كل حلقة من حلقاتها العشر فريقا من الآثمين يلقى من العذاب ما يتناسب مع إثمه في الدنيا، على منوال ما صنع دانتي في الكوميديا الإلهية، لكن مقالتي استخدمت السخرية إلى أقصى مرارتها؛ إذ جعلت الآثمين المعذبين أناسا فعلوا الخير وقالوا الصدق وبذلوا الجهد وأرادوا الإصلاح، فكان هذا كله محسوبا عليهم لا محسوبا لهم، ومن أجله حشروا في الجحيم لينالوا العقاب جزاء ما اقترفوا من حسنات حسبت عند قومهم سيئات.
ففي الحلقة الأولى من حلقات الجحيم شهد الشاعران أولئك الذين تمسكوا بمبادئهم في حياتهم الدنيا، فكان جزاؤهم هنا أن تلدغهم الزنابير في وجوههم وأعناقهم. وفي الحلقة الثانية شهد الشاعران أولئك الذين بلغت بهم الغفلة في دنياهم أن يهتدوا بعقولهم، وألا يلتفتوا إلى أجسادهم ليشبعوا شهواتها، فكان جزاؤهم هنا أن عصفت بهم ريح قوية، حتى أخذتهم راجفة كأنهم الكراكي في العاصفة.
وكان في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم، أولئك الذين أخذتهم في حياتهم العفة، فلم يضرعوا لأصحاب السلطان كي ينعموا عليهم بحقوقهم، فكان عقابهم هنا أن يتمرغوا في حمأة من طين تحت وابل من المطر، وأما في الحلقة الرابعة فقد شهد الشاعران أولئك الذين ضجوا في دنياهم طلبا للإصلاح، فأفسدوا على النيام نعاسهم وأحلامهم، فكان جزاؤهم هنا أن يتشعبوا فريقين، كل فريق منهما يدحرج جلاميد الصخر في اتجاه مضاد للفريق الآخرين، حتى يصطدم الفريقان في الطريق، فتعود جلاميد الصخر إلى حيث كانت أول الأمر، وهكذا دواليك.
وحشر في الحلقة الخامسة أولئك الذين أخذتهم في حياتهم دقة الحساب، فلم يتهاونوا في شيء، ولم يؤخروا موعدا عن زمنه المحدد، ولا أرجئوا عمل يومهم إلى غد، فهؤلاء أغرقوا إلى قاع بحيرة من الطين السائل، وكانت أنفاسهم المعذبة تظهر على سطح البحيرة فقاقيع تنتفخ لتنفجر، وحدث لأحدهم أن طفا على السطح لحظة، وكان الشاعران على مسمع منه، فقال لهما: إن جريمتنا هي أننا في حياتنا كنا نحارب الفوضى التي ضربت بجذورها في أرجاء البلاد.
فلما بلغ الشاعران حدود الحلقة السادسة، أبصرا خلال الضباب الكثيف أبراجا وقبابا متوهجة بألسنة اللهب، وقيل لهما: إن ذلك مدخل إلى مدينة الشيطان، ودخل الشاعران فرأيا سهلا فسيحا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء، وفي كل منها ألسنة النار تموج لتحيله إلى رماد، ثم يعود جسدا من جديد لتعود إليه ألسنة النار؛ وذلك لأن هؤلاء الآثمين قد خولت لهم أنفسهم الشريرة أن يشجعوا في الرأي ليكونوا أحرار العقول، فحقت عليهم هذه الفضيحة المنكرة.
وفي الحلقة السابعة رأى الشاعران جماعة غرقى في نهر من دماء، وقيل لهما: إنها جماعة نأت بنفسها عن معارك السياسة لتحيا حياة التفكير الهادئ، على أن هذه الحلقة السابعة كانت ذات شعبتين، وكانت الشعبة الثانية مخصصة لمن كانت أخذتهم في حياتهم غيرة على الضعفاء والمرضى والمعوذين، فهؤلاء انقلبوا هنا أشجارا جافة قصيرة، وإذا انكسر من تلك الأشجار اليابسة فرع؛ سالت منه دماء كدرة، وحتى إذا ما أثمرت الأشجار جاءت ثمارها مسمومة.
وخصصت الحلقة الثامنة لمن كانوا في حياتهم لا يراءون ولا ينافقون، فغمسوا هنا في حفرة مليئة بقار يغلي، وقد يحدث الفينة بعد الفينة أن يعلو الآثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم، ثم يختفي في سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف! فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها لا يبدو فوق الماء منها إلا خياشيمها، كذلك وقف هؤلاء الآثمون في لجة القار، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت لجة الموج.
Página desconocida
وفي الحلقة التاسعة حشر أولئك المجانين البلهاء الذين استنصحوا في حياتهم فنصحوا بالحق، فألبسوا كل واحد منهم في الجحيم قلنسوة ثقيلة من الرصاص، وكلما ثقلت القلنسوة على رأس المذنب حتى مال عنقه إلى صدره؛ ألهبه الحارس بسوطه على ظهره، قائلا له: اعتدل كما اعتدلت في دنياك صدقا في القول وإخلاصا في العمل.
وفي الحلقة العاشرة والأخيرة كان أولئك الذين لم يتشفعوا في حياتهم بشفيع ولا توسطوا بوسيط وأخذوا يعملون في صمت، مع أن الله قد أراد لهم أن يملئوا الدنيا صخبا وضجيجا كلما أدوا عملا أو نطقوا بكلمة، فكان جزاء هؤلاء في جهنم أن ينزلوا في قاع الجحيم، وهو بحر من ثلوج يبدو فيه أشباح المعذبين، كأنما هي ذباب يضطرب في وعاء من البلور، وكتب عليهم هناك أن يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع، كما تفعل الكلاب الجائعة ...
تلك هي إحدى الصور الأدبية التي صورت بها - في أوائل الخمسينيات - ما انطبعت به نفسي حينئذ من فوضى القيم في حياتنا، بحيث انقلبت، أعلاها على أسفلها، فيعاقب المحسن ويكافأ المسيء، وربما أكون قد أسرفت في القسوة، لكنها قسوة المواطن يحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكب عن جادة الطريق.
وسأورد هنا صورة أخرى مما كتبته في ذلك الحين، وكان ما كتبته منها يعد بالعشرات، كلها يدور حول المعايير المجحفة التي سادت حياتنا، مما يستحيل معه أن تتحمل نصيبها من تبعات العصر الذي نعيش فيه. والصورة الأدبية الأخرى التي سوف أوردها الآن هي انعكاس لما أحسسته بالظلم الذي اسودت له سماؤنا، ولست أقصد الظلم والعدل بمعناهما في ساحات القضاء، بل أقصد بهما المعنى الذي أراده أفلاطون حين تناول معنى «العدل» في الأقسام الأربعة الأولى من محاورة «الجمهورية»، وانتهى به إلى أن العدل الاجتماعي إن هو إلا وضع الأفراد في مواقع تتناسب مع قدراتهم.
فتحت عنوان «الظلم» كتبت ما يأتي:
كان الفتى في عامه الثاني عشر، أو الثالث عشر، طويلا نحيلا، في عينه اليمنى حول ظاهر، ولا يفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه، وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التي لا يخطئها النظر.
سأل أباه ذات يوم إذ هما على مائدة الغداء، فقال: كلمة «ظلم» ما معناها؟ - وأين سمعتها؟ - سمعت رجلا يصيح بها في الطريق، يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام، كان الشرطي من ورائه يصفعه ويركله. - الظلم هو أن يوضع الإنسان في غير موضعه اللائق به؛ فإذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم، وإذا أسندت الرياسة إلى من لا يستحقها فذلك ظلم، وإذا أخذ العامل أجرا على غير عمل فذلك ظلم، وإذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم، كذلك من الظلم أن يفلت من العقاب من هو حقيق به، وهكذا، كل هذه أمثلة لناس وضعوا في غير أماكنهم الصحيحة.
سمع الفتى هذه الإجابة من أبيه في إنصات ظاهر، وكأنما أعجبه رنين الكلمة، فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء، وبلغ إعجابه بالكلمة أن كان ينطق بها في نغمات مختلفة، ثم يضحك ضحكاته البلهاء.
ولما أصبح صباح اليوم التالي؛ ارتاعت أم الفتى لما رأته في كل ركن من أركان الدار؛ إذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة «ظلم»، كتبها على المقاعد والموائد والجدران، يكتبها أينما وجد مكانا يصلح للطباشير أن يخط عليه، فهي على أواني المطبخ، وهي على البلاط، وهي على جوانب الأثاث، وهي على السجاد القاتم ...
ونودي الغلام وسئل عما فعل، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء. وماذا يصنع الأبوان في ابن لهما يعلمان فيه البلاهة؟ انتهرته أمه ونهره أبوه، وتهدده بالعقاب الصارم إذا عاد إلى مثل هذا العبث، ثم طفقت الأم من فورها تمسح «الظلم» من أجزاء بيتها بخرقة بالية!
Página desconocida