كان العربي من الأولين «حيا»؛ لأنه ما انفك بانيا في كل مجال: بانيا في مجال الفكر وفي مجال الحرب وفي مجال السياسة؛ ولأنه كان تام الإدراك لدنياه، وشديد الفاعلية فيما حوله، والإدراك والفعل كما أسلفنا هما عصب الحياة بالمعنى المقصود، فإذا رأيت العربي من المتأخرين - وأعني العرب في حالتهم الراهنة - إذا رأيته سطحيا تحت وطأة المستعمرين، ينقاد لإمامتهم ولا يقود، ويأخذ من حضارتهم ولا يعطي، فاعلم أنه قد فقد من نفسه قيمة عليا من قيمه، ولو استردها لاسترد عروبته بها. إن العربي لا يكون عربيا لمجرد تكراره لهذه اللفظة ملايين المرات، إنما يكون العربي عربيا حين يتشرب القيم العربية الأصيلة، وأولها صفة «الحياة» بالمعنى الذي قدمناه (راجع فصل «الواقع وما وراء الواقع» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).
والآن فلننتقل إلى فكرة «التقدم» التي تعد من أهم المعاني المعاصرة تحريكا لعجلات السير، ففي فصل بعنوان «لمسات من روح العصر» (في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر») عرضت لأربعة مفاهيم لها تأثير عميق في حياة المعاصرين في الغرب هي «التقدم» و«المبادئ» و«التغير» و«الفردية»، وقد اخترت هذه الأفكار الأربعة لأوضح أبعادها في الفكر المعاصر، زاعما أن معظم القراء عندنا يمرون على هذه الأسماء وكأنهم يمرون على مفردات لغوية وقفت بمعانيها عند ما تحدده القواميس لها، مع أنها قد اكتسبت بالاستعمال - على أقلام أعلام المفكرين في عصرنا - أعماقا لها دلالات قوية على روح العصر، فأردت أن أطلع القارئ العربي على تلك الأبعاد ليرى روح عصره خلالها. وسأكتفي هنا بذكر ما أوردته عن فكرة «التقدم» لما بينها وبين صفة «الحياة» التي ألقيت عليها بعض الضوء منذ قليل؛ وذلك لورود اسم «الحي» اسما لله تعالى، وما ينبني على ذلك من وجوب أن يصبح المعنى إحدى القيم الأخلاقية عند المسلم، فمن يتشرب معنى «الحياة» كما أريد بها في ذلك السياق، ثم وجد نفسه يواجه العصر في أحد مفاهيمه الرئيسية - وهو مفهوم «التقدم» - وجد نفسه وكأنه يعيش في داره وبين ذويه. وهاك ما أوردته في الفصل المذكور: «... أحسب ألا خلاف على أن فكرة «التقدم» هي من أبرز ما يميز العصر الحديث كله لثلاثة قرون مضين إلى يومنا، فلا أظنك مصادفا في جموع الناس أحدا يرضى لنفسه أن يكون عدوا «للتقدم» في شتى جوانب الحياة العقلية والمادية، فمهما يكن مذهبه الذي يدعو إليه فهو يزعم لنفسه وللناس أنه مذهب يعمل على تقدم الحضارة بكل فروعها، وإلا لما دعا إليه.»
إلى هنا والناس على إجماع، فلنأخذ في تحليل الفكرة لنرى كم منهم يظل صامدا في دعوته إلى «التقدم»: إنك لكي تتقدم من حالة إلى حالة لا بد أن تعد الحالة الأولى متخلفة بالنسبة للحالة الثانية؛ فالنقلة لا تكون تقدما إلا إذا كان وراء ذلك فرض هو أنها نقلة مما هو أسوأ إلى ما هو أفضل، لا مما هو حسن إلى ما هو حسن آخر، فضلا عن أن تكون نقلة من الأفضل إلى الأسوأ، ومعنى ذلك في عبارة صريحة هو أن «الماضي» دائما وفي كل الظروف أقل صلاحية من «الحاضر»، ذلك إن زعمنا أن الحضارة «تقدم» وإلا فقدت هذه الكلمة معناها.
وها هنا نضع أصابعنا على ركيزة أولى لا محيص لنا عن قبولها إذا أردنا أن نشرب بروح عصرنا، وهي أن نزيل عن الماضي كل ما نتوهمه له من عصمة وكمال، فمهما تكن وسائل الماضي الثقافية والحضارية ملائمة لظروف عصرنا، فإذا وجدت مكابرا يدعي بأنه عصري الوقفة والنظر، ثم وجدته في الوقت نفسه يتمنى لو كرت الأيام راجعة، بحيث يعود إلى الناس ما كان للأسلاف من رؤية وسلوك، فاعلم أن سطحه الفكري مناقض لأعماقه، وأنه بعيد عن عصره بعد ما بين السطح والأعماق، وليس يعني هذا بترا للماضي، كلا، فبغير الماضي لا تكون للحاضر هويته، وإنما يعني تطويرا له؛ فالشاب لا ينسخ الطفولة نسخا، لكنه يطورها بحيث تظل هوية الشخص الواحد قائمة، والرجولة لا تنسخ الشباب، لكنها تطوره ليكون حاضر الإنسان امتدادا لماضيه، امتدادا لا يكرر ذلك الماضي، بل ينبثق منه كائنا جديدا، يحمل من ماضيه بعض ملامحه، ويضيف إليها حاضره ملامح أخرى.
إذا آمنا «بالتقدم» إيمانا يجاوز نطقنا باللفظة صوتا تفوه به الشفتان، كانت النقلة الفكرية بعيدة بعدا فسيحا؛ لأننا عندئذ سنقلب الميزان فنجعل معيارنا هو المستقبل المرجو بعد أن كان الماضي الذي خلفناه وراء ظهورنا؛ أي إن معيارنا بعدئذ لا يكون هو «المبدأ» بل «المنتهى»، لا ما قد كان، بل ما سوف يكون، فلو سئلنا عندئذ: ماذا ترى في هذا السلوك المعين يسلكه الأفراد، أو في هذا التشريع المعين تسنه الدولة أو في هذا الوضع أو ذاك من أوضاع الحضارة السائدة؟ لم يكن جوابنا: انتظر حتى أقيسه إلى سلوك الآباء وتشريعهم وأوضاعهم الحضارية، بل يكون الجواب: انتظر حتى أحسب النتائج المترتبة على هذه الأشياء، فإذا وجدت النتائج مزيدا من علم ومن صحة ومن حرية ... إلخ قبلت السلوك ورضيت بالتشريع، وأقبلت على الأوضاع الحضارية الجديدة. إن المعول عندئذ لا يكون: «ماذا كان بالأمس؟ بل يكون: ماذا سيكون غدا؟»
7
وقد يحسن أن أختم هذا الفصل بشيء مما ختمت به كتاب «تجديد الفكر العربي»، وهو تصوير للإنسان في درجة كماله؛ ليرى القارئ أنني إذ ألح على أن يكون «العقل وأحكامه» - لا الهوى ونزواته - هو أساس البناء، فإنني بتلك الدعوة لا أستهدف تيسير الالتقاء مع عصرنا الذي يسوده العلم فحسب، بل كذلك - وفي الوقت نفسه - أعمل على إحياء تقليد عربي قديم.
المدار في نموذج الإنسان الكامل عندهم (أعني أسلافنا من العرب) هو أن يكون «عاقلا» بالتعريف الفلسفي الدقيق لكلمة «عقل»، فهي كلمة ما أيسر أن نقولها في سياق الحديث، ولكن ما أعسر أن نجد لها التحديد المحكم ... وقد كان من الأفكار المألوفة عند المفكرين العرب فكرة جاءتهم من اليونان الأقدمين مع الترجمة التي نقلوا بها تراث أولئك اليونان، وهي أن يقاس كمال الشيء بأدائه للفعل الذي خلق من أجله، فشجرة البرتقال كمالها ليس هو نفسه الكمال بالنسبة إلى شجرة الورد، وكمال النمر أن يكون نمرا، وكمال القط أن يكون قطا، ولا يجوز أن يحاسب نوع بكمال نوع آخر؛ وعلى هذا الأساس نفسه يكون كمال الإنسان مرهونا بجوهره، وجوهره هو العقل، فأفضل الناس هو أقدرهم على التزام أحكام العقل فيما يفعل وما يجتنب ...
وإن الناس ليتفاوتون في الطرق التي يسوسون بها حياتهم - وفق حكمة العقل - تفاوتا ليس له نظير في أي نوع آخر؛ لأن سائر ضروب الكائنات الحية تسير على قوانين طبائعها، ليس لها في ذلك اختيار، فلا فرق يذكر بين نمر ونمر ولا بين قط وقط إذا ترك وطبيعته، أما الإنسان ففي فطرته أن يختار؛ ولذلك فمن واجبه أن يكون مسئولا عن اختياره، ومن هنا جاء التفاوت الفسيح بين إنسان وإنسان في مقدار احتكامه إلى العقل حين يختار. ويذكر لنا ابن مسكويه (في كتابه «تهذيب الأخلاق») في هذا السياق حديثا شريفا: «ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان»، كما يذكر كذلك هذا البيت من الشعر:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا
Página desconocida