الثالث:
الإيمان بقدرة الإنسان - لا كل إنسان؛ المقربون منهم - على تعطيل قوانين الطبيعة عن العمل كلما شاءوا على غرار ما يستطيعه القادرون النافذون - على صعيد الدولة - أن يعطلوا قوانين الدولة في أي وقت أرادت لهم أهواؤهم أن يعطلوها (راجع الفصل الثاني من كتاب «تجديد الفكر العربي»).
إنني حين انصرفت بمعظم جهدي إلى دراسة التراث العربي في أمهاته - وكان ذلك في أواخر الستينيات وما بعدها - لم أفعل ذلك وفي نيتي أن أكون عبدا لما أقرؤه، ولا أن أكون سيدا متعاليا عليه، كلا، ولا كان في نيتي أن أقف مما أقرأ موقف المؤرخ الذي يقصر نفسه على الفترة التي يدرسها دون أن يأذن لنفسه بالحكم عليها وتقويمها بموازين عصره هو، بل يجعل موازين أحكامه وتقديراته ما كان يحيط بالفترة التي يدرسها من ظروف، لا، لم يكن شيء من ذلك هدفي، بل قرأت ما قرأته ليكون حكمي عليه قائما على معايير عصرنا نحن، من حيث انتفاع الناس به وعدم انتفاعهم. إنني قرأت ما قرأته من التراث العربي قراءة مثقف يعيش في القرن العشرين، ويتنفس في مناخ حضاري له خصائصه ومقوماته، ويريد أن يرى الحبل موصولا بينه وبين أسلافه، لكنه في الوقت نفسه يشعر بأنه ما كل ما عاشه أولئك الأسلاف صالح له هو ولزمانه، ولكنه لا بد - بحكم طبائع الأمور ذاتها - أن يكون في حياة الأسلاف كذلك ما يجوز - بل ما يجب - أن يبقى ليبقى الرباط؛ فاللغة - مثلا - التي أتحدث بها وأكتبها «عربية»، وهي نفسها ما كان يتحدث به الأسلاف وما كانوا يكتبون به - من حيث الروح والأسس إن لم يكن من حيث التفصيلات؛ وإذن فهذا رباط يجب الحفاظ عليه، ومع ذلك فحتى هذا الرباط نفسه هو كأية أداة أخرى من أدوات العيش، ينبغي أن تستخدم فيما يخدم عصرنا نحن، فأملأ أوعيتها علما من علم العصر، ووجدا من وجدان العصر. ... لننظر في حياتنا اليوم وما تواجهنا به من مشكلات أساسية لم يعد يصلح لها ما ورثناه من قيم مبثوثة في تراثنا؛ لسبب بسيط، وهو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفت أسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول، وعلى رأس هذه المشكلات مشكلة الحرية بمعناها السياسي ومعناها الاجتماعي، وهما المعنيان اللذان تدور حولهما أرجاء الحياة المعاصرة، معظمها إن لم يكن جميعها، وهما كذلك المعنيان اللذان لم يكونا موضع النظر عند الأقدمين.
فقد كانت فكرة «الحرية» تنصرف عندهم إلى المعنى الذي يقابل «الرق»؛ فالفرد من الناس إما أن يكون حرا ذا حقوق وواجبات، وإما أن يكون عبدا مملوكا لغيره، فلا حقوق له إلا ما يأذن له به هؤلاء، وكل ما يأمره به مولاه هو واجب محتوم، فأولا قد زالت هذه التفرقة ولم يعد أمامنا إلا مجموعة من المواطنين هم أنفسهم مجموعة الأحرار، ثم اتسع المعنى - ثانيا - ليشمل جوانب جديدة لم تعرفها الحياة القديمة، وهي الجوانب السياسية التي من شأنها أن تقام الحكومة بانتخاب المواطنين، إما بطريق مباشر وإما بطريق غير مباشر ، على الصورة التي نألفها - على اختلاف أشكالها - في الدول الحديثة. لقد كان يسيرا علينا، أعني أبناء الأمة العربية في مختلف أقطارها، أن نقفو أثر أوروبا وأمريكا فيما اصطنعوه من أنظمة للحكم تكفل للمواطنين أن ينتخبوا من يمثلونهم أمام من تسند إليهم مناصب الحكم، بحيث تكون السلطة كلها في نهاية الأمر للشعب، فإذا رضي عن الحكومة أبقى عليها، وإذا سخط عمل على إزالتها في غير حاجة إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد، لا من قبل الحاكم ولا من قبل المحكوم. أقول: إن نقل هذه الأنظمة كان يسيرا علينا من الوجهة النظرية الشفوية، وهل يتعذر أن ننتقي عددا من المواد نجمعها في بعض صفحات، لنقول هذا هو دستورنا الذي يكفل لنا الحرية في حكم أنفسنا بأنفسنا عن طريق الذين نختارهم لينوبوا عنا في كل ما نهتم له من شئون التشريع؟
لكن الفجوة فسيحة وعميقة بين أنظمة كهذه تصون للناس حرياتهم السياسية، وبين صورة ورثناها فيما ورثناه من السلف، فعلى طول التاريخ العربي ندر - وكدت أقول «استحال» لولا أني تعمدت الحيطة في الصياغة - ندر أن زالت حكومة لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها، فهنالك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير أخذ الحكم وراثة أو أخذه عنوة، وفي كلتا الحالتين لا يزعزعه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن أو ما رأيت من سبل تكون في وسع المتآمر عليه، فلا الشعب اختار، ولا الشعب يملك حق العزل، ولا القلة التي لهم الصدارة في المجتمع يستطيعون بإزاء الأمر الواقع شيئا إلا الطاعة أو العصيان أو المؤامرة (راجع الفصل الثالث، بعنوان «ثقافة في تراثنا لا نعيشها» في كتاب «تجديد الفكر العربي»).
6
إنه كلما أثيرت قضية التراث وما ينبغي أن يكون موقفنا منه أخذا ونبذا أثارت معها الصعاب، كأنها سؤال بغير جواب أو مشكلة بلا حل، فهذا هو ما تركه أسلافنا من فكر وشعر، من علم وأدب، من فقه وتاريخ ورحلات، من فلسفة ونقد، فماذا نحن صانعون به؟ قد يكون فيه ما تظل له حيويته وضرورته إلى عصرنا هذا وما بعد عصرنا، كاللغة من حيث هي أداة لا بد منها للتعبير والتفاهم، وما فيه من شعر ونثر فني لا تبلى جدته لأنه فن، والفن لا يفنى ما دام صادقا، وجوانب أخرى كثيرة لا ضير علينا من سريانها في شرايين حياتنا، بل لا مناص لنا ولها من ذلك السريان؛ لأنه حتم تاريخي ما دامت الأمة الواحدة موصولة الحلقات حاضرها بماضيها، لكن تلك الجوانب من التراث تعرض نفسها علينا مختلطة بغيرها مما لم يعد لنا به شأن؛ ومن هنا ينشأ السؤال الذي كثيرا جدا ما يتردد اليوم على ألسنتنا وأقلامنا: ماذا نصنع أمام تراث لم يعد صالحا لنبض الحياة؟
وفي مقالة عنوانها: «نحن نصنع الماضي» (راجعها في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة») رسمت صورة تخيلتها لشابين كانا يتحدثان معا في حضوري، أحدهما يرفض أن نشغل أنفسنا بذلك التراث ما دام زمانه قد ذهب، وما دمنا نعيش في زماننا نحن متميزا بظروفه، وأما الآخر فلا يجد الحياة ممكنة في زماننا هذا دون أن نستمد بعض غذائها من تراث الأسلاف، ثم أكملت الصورة المتخيلة للحوار بين الشابين بأن جعلتهما يحتكمان إلي باعتباري أستاذهم فيما مضى من سنين، فقلت مجيبا بما هو رأيي في قضية الماضي: «... إنكما تتكلمان عن الماضي وكأنه قطعة من الحجر الصوان، إما قبلتها كما هي، وإما رفضتها كما هي، أو كأن ذلك الماضي كتاب اكتملت صفحاته، لم تعد تزيد صفحة ولا تنقص صفحة، وعلى القارئ أن يتلوه من فاتحته إلى ختامه، أو أن يكف عنه من غلافه إلى غلافه .»
ولكن أمر الماضي ليس كذلك، فأولا ليس باختيارنا أن نأخذ ماضينا أو نتركه؛ لأن هذا الماضي إنما هو ماض لحاضر، ولو بترنا العلاقة بينهما لما جاز لنا بعد ذلك أن نسمي الماضي ماضيا، بل يصبح مجموعة من أحداث عائمة على تيار الزمن، دون أن تربطها الروابط بهذه الأمة أو بتلك، لكن ماضينا هو ماضينا نحن، موصول الحلقات بالحاضر الذي نعيشه نحن، ولكل شعب آخر ماضيه وحاضره، وذلك يشبه أن تكون طفولتي هي طفولتي أنا دون أي إنسان آخر، موصولة الروابط بشبابي وكهولتي، وليست هي مجرد طفولة سابحة في الهواء. إنه إذا كانت حياتنا كتابا من عدة أجزاء؛ فالحاضر هو الجزء الأخير من تلك السلسلة، يتلوه بعد ذلك أجزاء جديدة تظهر على التوالي، على أن آخر الأجزاء لا يفهم إلا على ضوء سوابقه.
وثانيا: إن ماضينا كالسجادة المزخرفة بالصور المتشابكة، ويدخل في نسيجها عدد ضخم من خيوط اللحمة وخيوط السدى، تتقاطع بعضها مع بعض؛ وإذن فلا بد للرائي أن يختار لنفسه من هذا الكل المركب خطا واحدا لتعقبه، كأن يختار خط النباتات المصورة على الرقعة أو خط الحيوان أو خط الأشكال الهندسية وما شابه ذلك.
Página desconocida