عدت إلى مصر مزودا بكثير من الأفكار التي تقام على محاورها صناعة الموسوعات، فوجدت ويا لهول ما وجدت! وجدت مجموعة مقالات كتبت عن مشروع الموسوعة العربية خلال الثلاثة الأسابيع التي قضيتها في أمريكا تبلغ نحو عشرين مقالة، نشرت في صحفنا الكبرى جميعا، ولحظت أن نشرها قد جاء على نسق لا أظنه وليد المصادفة، بل لا بد أن يكون مرسوما ومدبرا، وهو أن تتوالى المقالات يوما بعد يوم، بحيث تتولى كل صحيفة دورها في النشر كلما جاء موعده.
وكانت نقطة البدء مقابلة أجراها أحد الكتاب مع الدكتور طه حسين، وفيها يسأله: أليس في مشروع الموسوعة العربية هذا خيانة للثقافة العربية؟ فأجاب الدكتور طه بما معناه: بل إن فيه ما هو شر من الخيانة. وبعد هذه المقابلة انطلق الكتاب ينشرون مقالاتهم التي أشرت إليها، والتي مدارها هو سؤال كهذا: كيف نسمح للأمريكيين أن يتولوا إخراج موسوعة عربية تجيء «ترجمة» لموسوعة كولمبيا؟ وراح بعضهم يبحث في كولمبيا التي زعموا أننا سنترجمها ثم تسمى الترجمة «موسوعة عربية»، راح بعضهم يبحث في كولمبيا عن أشخاص وأحداث عربية هي غاية في الأهمية بالنسبة للثقافة العربية، فلا يجد عنها إلا قليلا، وقد لا يجد عنها شيئا، فيقول لقرائه: انظروا إلى هذا الاستعمار الثقافي البشع الذي هو على وشك أن تقع جريمته في بلادنا، وكان اسمي بالطبع بين أسماء ذكروها هنا وهناك، على أن أصحابها هم صنائع ذلك الاستعمار الثقافي المخيف.
هالني ما قرأته في تلك المقالات، فأولا: أنا أعرف عن نفسي نزاهة وصدقا ووطنية ذهبت فيها إلى حد التطرف إذا كان في مثل هذا الأمر تطرف، وثانيا: كانت الفكرة عندي هي أن الجامعة العربية - والدكتور طه حسين هو القائم بأمانتها في الثقافة - هي التي أعدت لنا طريقة التمثيل العربي، فكيف حدث إذن أن أصبح الدكتور طه نفسه أول من أعطى إشارة الهجوم؟ وثالثا - وهو أهمها جميعا - لم يكن فيما قرأته شيء من الصدق، فلا أساس المشروع هو أن «نترجم» موسوعة كولمبيا، ولا لأي امرئ سلطة على ما تختار كتابته في مواد الموسوعة إلا من سيتولى الكتابة منا، مع إشراف مجلس الإدارة الذي اختير أعضاؤه من معظم البلاد العربية، وللقارئ أن يرجع إلى هذه الأسماء، وسيراها مثبتة في أول «الموسوعة العربية الميسرة» - فهكذا جعلنا اسمها - وأنا على يقين من أنه سيدهش كيف أمكنه حشد هذه النخبة العربية كلها في عمل واحد؟
أحسست - إزاء الهجوم الذي قرأت عنه في مجموعة المقالات - بأنني أضعف من أن أحتمل تهمة «العجالة» لاستعمار ثقافي، برغم علمي عن يقين ليس بعده يقين كم هي تهمة كاذبة؛ ولذلك كتبت خطابا إلى الدكتور طه حسين أعبر فيه عن دهشتي مما قرأت ، ومؤكدا له أنني ما تحركت على الطريق إلا بعد أن علمت أن الجامعة العربية (وهو أمينها للثقافة) قد وضعت المشروع كله في رعايتها، ثم تنحيت عن رئاسة تحرير الموسوعة، بل وأبديت للمسئول عنها استعدادي التام لإعادة نفقات رحلتي إلى أمريكا لتصفو كل الضمائر من الشوائب. وانتهى الحوار الجاد الملح إلى أن قبلت عضوية مجلس الإدارة وذهبت رئاسة التحرير إلى المرحوم إسماعيل مظهر.
وتمت الموسوعة على نحو ما تمت، ولكن لماذا ذكرت هذه القصة الطويلة عنها؟ فعلت ذلك لأبين كيف وإلى أي حد تؤخذ حياتنا الثقافية - وفي أعلى درجاتها ومستوياتها - مأخذ العراك الذي تحركه الأهواء، فلأن نفرا من الناس وجد أن فرصة قد ضاعت من يديه، فلماذا لا يلطخ الساحة كلها بالوحل: وحل الاستعمار الثقافي والعمالة والخيانة وأخواتها، وكان البناء كله كذبا في كذب. وإذا كانت أدنى درجات الضوابط العقلية هي أن يتريث الإنسان فلا يصدر أحكامه على شيء إلا بعد إلمامه بحقيقة ذلك الشيء الذي يريد الحكم عليه، فكما قال القدماء: «الحكم على شيء فرع عن تصوره» أي إن التصور الصحيح للشيء المراد الحكم عليه شرط أساسي لذلك الحكم، فماذا نقول في جماعة من صفوة رجالنا يندفعون اندفاعا إلى الهجوم قبل أن تتبين لهم حقيقة ما يهجمون عليه؟
5 «أزمة العقل في حياتنا» موضوع ما فتئ يشغلني، فلقد رأيته ركنا أساسيا لمن أراد أن يغير من حياتنا الثقافية تغييرا يجعلها أقرب ملاءمة مع عصرنا، وتحت هذا العنوان نفسه كتبت (راجع كتابي «ثقافتنا في مواجهة العصر») لأبين كم هي منفرجة تلك الزاوية التي تفصل ما بين رؤيتنا للعالم ورؤية العصر له، فقلت فيما قلته عن أزمة العقل في حياتنا:
لننظر إلى أوساط الناس من حولنا، فماذا نرى؟ نراهم على عداوة حادة مع العقل وبالتالي فهم على عداوة لكل ما يترتب على العقل من علوم ومن منهجية النظر ودقة التخطيط والتدبير، فإذا انطلقت الصواريخ تغزو الفضاء ويرود أصحابها أرض القمر؛ تمنوا من أعماق نفوسهم أن تجيء الأنباء بفشل التجربة، وإذا سمعوا عن قلوب أو غير قلوب تؤخذ من آدمي لتزرع في آدمي آخر؛ أحزنهم أن يتحقق النجاح، وأفرحهم أن تخفق المحاولة، وهاك هذين المثلين من خبرتي الخاصة لم أقرأ عنهما في صحيفة أو كتاب، بل شهدتهما بعيني وسمعتهما بأذني:
أقيمت ندوة ثقافية كنت أحد أعضائها، وكان من المسهمين فيها كذلك عميد لإحدى كليات العلوم عندئذ، وكان السؤال المطروح هو: ماذا ترى في هذه الوثبة العلمية الجريئة التي هي صعود الإنسان إلى أرض القمر؟ فكان مما قاله عميد كلية العلوم بإحدى الجامعات العربية: إنه يعوذ بالله من هذا الشطط الذي قد يؤدي بالكون إلى الدمار، ثم تساءل قائلا: أليس يجوز أن يهبط الصاروخ على القمر بدفعة قوية فإذا القمر ينحرف عن مداره فتكون الطامة على البشر.
أما المثل الثاني فهو أنه سئل قطب من أقطاب الطب في الأمة العربية: ما رأيك فيما سمعناه عن زرع القلوب في أبدان غير أبدانها؟ فاستعاذ بالله هو الآخر من شر ما يسمع، مؤكدا أنها محاولات مجنونة، لن تؤدي إلى شيء ...
نعم، ملأتني الفكرة بضرورة أن يكون «العقل» بمنطقه الصارم صاحب الكلمة الأخيرة في كل مسألة لا تقع بطبيعتها في مجال الحياة الشعورية الخاصة بالأفراد، ويتبع ذلك - عندي - ضرورة الارتفاع بمنزلة «العلوم» في حياتنا العامة كلما أشكل علينا أمر، وماذا يكون «العقل» - ومعه «العلم» - إلا أن يكون طريقة خاصة في السير من مشكلة يراد حلها إلى الإجراء الخاص الذي يحلها؟ صغار الأطفال إذا ما اعترضتهم مشكلة انفعلوا لها بالصراخ والخبط بأيديهم وأرجلهم، فلا يؤدي ذلك كله إلى زوال مشكلتهم، وأما الإنسان إذا رشد ونضج فلا انفعال أمام العقبات ولا صراخ ولا خبط بالأيدي ولا دبدبة بالأقدام، بل يجلس هادئا يحلل المشكلة المعترضة إلى عناصرها، ثم يتصور لنفسه طريقا عمليا أو نظريا من شأنه أن يزيل العقبة من الطريق، ثم يأخذ في تجربة ذلك التصور على الواقع ليرى إن كان فيه الحل المطلوب أو يضطر إلى رسم تصور آخر.
Página desconocida