في مقالة كتبتها تحت عنوان «بحثا عن الإنسان الجديد» (في كتابي «هذا العصر وثقافته») بدأت حديثي كما يلي: «للثقافة القومية أصول ثابتة لا تتبدل مع الأيام إلا بالحد الأدنى الذي لا يعيق التقدم، كما أن لها فروعا لا تنفك متغيرة كلما تغيرت الظروف من حولها، الأصول الراسخة تدوم، وهي التي تحدد معالم الشخصية القومية تمييزا لها من سواها، وأما الفروع فهي التي تساير حركة التاريخ دون أن تفقد صلتها الوثيقة بأصولها الرواسخ؛ فالأمر في هذا كقطعة من الذهب يشكلها الصائغ على هيئة الطائر أو على صورة التمساح، يصنع منها سوارا حول المعصم، أو حلية على الصدر، لكنها تظل هي هي بنفسها قطعة الذهب التي كانت، فقطعة الذهب هنا بمثابة ما قلنا عنه: إنه الأصول الثابتة في ثقافة القوم، وأما الصور التي تشكلت بها فهي الفروع التي تتنوع دون أن تضيع منها الصلة الحميمة المباشرة بأصولها.
وهكذا نريد لحياتنا الثقافية أن تكون، فتجيء منسوبة إلى جذورها التاريخية من جهة، ومتطورة مع ظروف عصرها من جهة أخرى.»
الفصل الرابع
التجريبية العلمية
1
كانت لحظة نادرة من ربيع سنة 1946م تلك التي كنت فيها جالسا - كعادتي كل يوم - أطالع وأكتب وأدون المذكرات، في المكتبة العامة بالمبنى الرئيسي لجامعة لندن، عندما أحسست بما يشبه اللمعة الذهنية تتوقد لتضيء لي طريقي منذ ذلك الحين وإلى الساعة التي أكتب فيها هذه الصفحات (1982م)، وكان الموضوع الذي أطالعه عندئذ هو عرض لموقف فلسفي لم يكن قد مضى على ولادته في صورته المعروضة أكثر من ربع قرن، وأسماه أصحابه يومئذ بالوضعية المنطقية، وهو نفسه الذي أطلق عليه فيما بعد اسم «التجريبية العلمية»، وأما اللمعة الذهنية التي أحسست بها في تلك اللحظة، فهي شعوري بأنني أقع هنا دون سائر التيارات والمذاهب، ولم يبد لي الأمر مقصورا على مزاج شخصي يتفق وذلك الموقف الفلسفي الجديد، كأنما هو ثوب فصل على طبيعة تفكيري تفصيلا جعل الرداء على قد المرتدي، بل إني شعرت في اللحظة نفسها بأنه إذا كانت الثقافة العربية بحاجة إلى ضوابط تصلح لها طريق السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا.
ولا أظنني مسرفا في القول إذا زعمت بأنني منذ تلك اللحظة من ربيع سنة 1946م وحتى هذه الساعة ظللت داعيا إلى تلك الوقفة الفلسفية العلمية في كل ما كتبته بطريق مباشر مرة وبطريق غير مباشر مرات، فكانت الدعوة بالطريق المباشر كلما أخذت أتناول الموضوع بالشرح والتوضيح، وكانت بالطريق غير المباشر كلما كان موضوع الكتابة شيئا آخر غير الفلسفة، كالنقد الأدبي مثلا، لكنني نظرت إليه بمنظار الوضعية المنطقية، وحاسبت نفسي حسابا عسيرا في دقة الصياغة اللفظية كما تريد لنا تلك الوقفة الفلسفية أن نفعل تجاه اللغة كتابة وقراءة.
فماذا يقصد بعبارة «الوضعية المنطقية» التي أطلقت بادئ الأمر على تلك النظرة الفلسفية، والتي أرادت لي الأقدار أن أتخذها لنفسي هاديا ونبراسا؟ فأما أولى اللفظتين - وهي كلمة «الوضعية» - فقد كانت قبل ذلك وحدها اسما على مذهب فلسفي بلغ قمة ازدهاره في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر على يدي فيلسوفهم «أوجست كونت»، وخلاصة دعوته هي أن النظرة العلمية الحديثة تقتضي أن تنحصر رؤية الباحث العلمي في حدود ما هو واقع، أي في حدود ما هو ظاهر لأعضاء الحس وأدوات التجربة ، وبذلك تكون «ظواهر» الطبيعة (الحظ جيدا كلمة «ظواهر» وما تعنيه) هي وحدها محل النظر العلمي، بحيث لا تكون العوامل التي تعلل بها حدوث تلك «الظواهر» إلا مأخوذة من دنيا التجربة البشرية داخل حدود ما هو واقع، وكان أوجست كونت قد ذكر ثلاث مراحل للفكر البشري في تطوره، جعل الرؤية الوضعية العلمية ثالثتها، أما أولاها فهي ما أسماه بالمرحلة اللاهوتية، وأما الثانية فهي ما أسماه بالمرحلة الميتافيزيقية، فافرض مثلا أن موضوع التساؤل من الإنسان المتطلع للمعرفة، هو: ما الذي يكسب النبات نماءه؟ ففي المرحلة الأولى كان الجواب هو: إله النبات، وفي المرحلة الثانية كان الجواب مبدأ من المبادئ الميتافيزيقية عند الفلاسفة، فهو عند أرسطو - مثلا - أن «المادة» قد داخلها «صورة» قوامها اغتذاء ونماء، وأما الجواب في المرحلة الوضعية العلمية الثالثة فهو تعليل بيولوجي لما يحدث من امتصاص النبات لعناصر معينة من التربة والماء والضوء، إلخ.
ذلك عن معنى «الوضعية»، فماذا يراد بكلمة «المنطقية» المضافة إليها في عنوان الحركة الفلسفية المشار إليها؟ يقصد بها أن النظرة الغامضة يكفيها قبل مراجعة الظواهر الطبيعية نفسها لمعرفة الصواب أو الخطأ فيما يقال عن تلك الظواهر، يكفيها تحليل البناء اللفظي نفسه للعبارة المقولة عن إحدى ظواهر الطبيعة؛ لأن في ذلك البناء اللفظي - واحتكاما إلى منطق اللغة ودلالاتها - يمكن الحكم على العبارة المعينة إن كانت - أساسا - مقبولة لكونها ذات معنى يستحق البحث، أو مرفوضة لكونها غير ذات معنى، وبالتالي فهي ليست جديرة بمراجعتها على الطبيعة، ومن هذا يتبين أن الوضعية المنطقية ليست «مذهبا» بقدر ما هي «منهج» للنظر العلمي، يرسم للباحث خطواته التي تضمن له السير على أرض صلبة لا تميد تحت قدميه، وكيف يكون له ذلك إذا لم يستوثق أولا من الأداة اللغوية التي يستخدمها في حمل أفكاره، فيعرف متى تتوافر لها منطقية البناء ومتى لا تتوافر، وهو في ذلك شبيه بالصراف في دنيا المال، لا بد له من التمييز بين العملة الصحيحة والعملة الزائفة، فتلك خطوة أولى قبل دخول المتعاملين في الأخذ والعطاء.
2
Página desconocida