وفي الحلقة التاسعة حشر أولئك المجانين البلهاء الذين استنصحوا في حياتهم فنصحوا بالحق، فألبسوا كل واحد منهم في الجحيم قلنسوة ثقيلة من الرصاص، وكلما ثقلت القلنسوة على رأس المذنب حتى مال عنقه إلى صدره؛ ألهبه الحارس بسوطه على ظهره، قائلا له: اعتدل كما اعتدلت في دنياك صدقا في القول وإخلاصا في العمل.
وفي الحلقة العاشرة والأخيرة كان أولئك الذين لم يتشفعوا في حياتهم بشفيع ولا توسطوا بوسيط وأخذوا يعملون في صمت، مع أن الله قد أراد لهم أن يملئوا الدنيا صخبا وضجيجا كلما أدوا عملا أو نطقوا بكلمة، فكان جزاء هؤلاء في جهنم أن ينزلوا في قاع الجحيم، وهو بحر من ثلوج يبدو فيه أشباح المعذبين، كأنما هي ذباب يضطرب في وعاء من البلور، وكتب عليهم هناك أن يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع، كما تفعل الكلاب الجائعة ...
تلك هي إحدى الصور الأدبية التي صورت بها - في أوائل الخمسينيات - ما انطبعت به نفسي حينئذ من فوضى القيم في حياتنا، بحيث انقلبت، أعلاها على أسفلها، فيعاقب المحسن ويكافأ المسيء، وربما أكون قد أسرفت في القسوة، لكنها قسوة المواطن يحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكب عن جادة الطريق.
وسأورد هنا صورة أخرى مما كتبته في ذلك الحين، وكان ما كتبته منها يعد بالعشرات، كلها يدور حول المعايير المجحفة التي سادت حياتنا، مما يستحيل معه أن تتحمل نصيبها من تبعات العصر الذي نعيش فيه. والصورة الأدبية الأخرى التي سوف أوردها الآن هي انعكاس لما أحسسته بالظلم الذي اسودت له سماؤنا، ولست أقصد الظلم والعدل بمعناهما في ساحات القضاء، بل أقصد بهما المعنى الذي أراده أفلاطون حين تناول معنى «العدل» في الأقسام الأربعة الأولى من محاورة «الجمهورية»، وانتهى به إلى أن العدل الاجتماعي إن هو إلا وضع الأفراد في مواقع تتناسب مع قدراتهم.
فتحت عنوان «الظلم» كتبت ما يأتي:
كان الفتى في عامه الثاني عشر، أو الثالث عشر، طويلا نحيلا، في عينه اليمنى حول ظاهر، ولا يفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه، وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التي لا يخطئها النظر.
سأل أباه ذات يوم إذ هما على مائدة الغداء، فقال: كلمة «ظلم» ما معناها؟ - وأين سمعتها؟ - سمعت رجلا يصيح بها في الطريق، يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام، كان الشرطي من ورائه يصفعه ويركله. - الظلم هو أن يوضع الإنسان في غير موضعه اللائق به؛ فإذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم، وإذا أسندت الرياسة إلى من لا يستحقها فذلك ظلم، وإذا أخذ العامل أجرا على غير عمل فذلك ظلم، وإذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم، كذلك من الظلم أن يفلت من العقاب من هو حقيق به، وهكذا، كل هذه أمثلة لناس وضعوا في غير أماكنهم الصحيحة.
سمع الفتى هذه الإجابة من أبيه في إنصات ظاهر، وكأنما أعجبه رنين الكلمة، فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء، وبلغ إعجابه بالكلمة أن كان ينطق بها في نغمات مختلفة، ثم يضحك ضحكاته البلهاء.
ولما أصبح صباح اليوم التالي؛ ارتاعت أم الفتى لما رأته في كل ركن من أركان الدار؛ إذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة «ظلم»، كتبها على المقاعد والموائد والجدران، يكتبها أينما وجد مكانا يصلح للطباشير أن يخط عليه، فهي على أواني المطبخ، وهي على البلاط، وهي على جوانب الأثاث، وهي على السجاد القاتم ...
ونودي الغلام وسئل عما فعل، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء. وماذا يصنع الأبوان في ابن لهما يعلمان فيه البلاهة؟ انتهرته أمه ونهره أبوه، وتهدده بالعقاب الصارم إذا عاد إلى مثل هذا العبث، ثم طفقت الأم من فورها تمسح «الظلم» من أجزاء بيتها بخرقة بالية!
Página desconocida