إما أن يكون مجنونا، وإما أن تكون مجنونا أنت! حزه ألم كهذا من قبل يوم اطلع على كلمة جارحة تهجم بها كاتبها على نظام الزواج في الإسلام، ألا لعنة الله على الكافرين جميعا. تساءل بهدوء يغطي به على لوعته: لم إذن كثر المعجبون من حولها؟
أبرز إسماعيل فكه الأسفل فارتفع ذقنه في حركة استهانة، ثم قال: لعلك تعنيني فيمن تقصد! لا أنكر أنها خفيفة الروح، وطراز وحدها في الأناقة، إلى أن أسلوبها الغربي في اللباقة الاجتماعية يريق عليها فتنة وإغراء، لكنها بعد ذلك سمراء نحيلة لا شيء فيها يشتهى، تعال معي إلى غمرة تر ألوانا من الجمال تزري بجمالها جملة وتفصيلا، هنالك ترى الملاحة الحقة في البشرة الوضيئة، والنهد الكاعب، والردف المليء، هذا هو الجمال إن أردته ... لا شيء فيها يشتهى.
كأنها شيء يشتهى كقمر ومريم، نهد كاعب وردف مليء! كمن يصف الروح بصفات الجسد، يا لشدة الألم! كتب عليه اليوم أن يتجرع كأس الألم حتى ثمالتها، إذا توالت الضربات القاتلة فمن الخير أن ترحب بالموت.
وعند الحسينية افترقا، فسار كل في سبيله.
25
تنقضي السنون ولا يفتر حبه لهذا الطريق، قال لنفسه، وهو يلقي على ما حوله نظرة ضيقة: «لو شابه حبي للمرأة التي يختارها قلبي حبي لهذا الطريق لأراحني من متاعب جمة.» أعجب به من طريق كالتيه، لا يكاد يمتد بضعة أمتار طولا حتى ينعطف يمنة أو يسرة، وفي أي موضع منه يطالعك منحنى يطوي وراءه مجهولا، وضيق ما بين جانبيه يريق عليه تواضعا وألفة فهو كالحيوان الأليف، والجالس في دكان على يمينه يستطيع أن يصافح الجالس في دكان على يساره، سقوف بمظلات الخيش تمتد بين أعالي الحوانيت فتحجب أشعة الشمس المحرقة، وتنفث في الجو الرطب سمرة حالمة، وعلى الأرائك والرفوف جوالق مرصوصة مترعة بالحناء الخضراء، والشطة الحمراء، والفلفل الأسود، وقوارير الورد والعطر، والقراطيس الملونة، والموازين الصغيرة، وتتدلى من عل الشموع في أحجام وألوان شتى كأنها التهاويل، في جو مفعم بشذا العطارة والعطر، كأنها أنفاس حلم قديم تائه لا يذكر متى رآه، أما الملاءات اللف، والبراقع السود، والعرائس الذهبية، والأعين الكحيلة، والأرداف الثقيلة فمنها جميعا أستعيذ بواهب النعم، سير الحالم في تهاويل حلم جميل رياضة محبوبة بيد أني أشكو ضنى القلب والعين، إن تعد النسوان هنا لا تحصيهن. مبارك المكان الذي يضمهن، ولا منجى لك إلا أن تهتف من أعماق الفؤاد: يا خراب بيتك يا ياسين، هنالك يجيبك صوت أن افتح دكانا في التربيعة واستقر، أبوك تاجر، سيد نفسه ... ينفق في مسراته أضعاف أضعاف مرتبك، افتحها وتوكل، ولو بعت لذلك ربع الغورية ودكان الحمزاوي، تجيء مع الصبح كالسلطان لا ميعاد يربطك ولا رئيس يرعبك، تجلس وراء الميزان فيجيئك النسوان من كل فج: صباح الخير يا سي ياسين، واقعد بالعافية يا سي ياسين، علي وعلي إن تركت مصونة دون تحية، أو متهتكة دون ميعاد. ما ألذ الخيال وأقساه! على من سيبقى إلى آخر العمر ضابطا بمدرسة النحاسين! والعشق داء أعراضه جوع دائم، وقلب قلب فوا رحمتاه لمن خلق بشهوة خليفة وسلطان ضابط مدرسة، تهدم الرجاء فلا جدوى من الكذب، ويوم حملتها إلى قصر الشوق كان الأمل يعدك بحياة هادئة مطمئنة، قاتل الله الملل كيف يمازج النفس كما تمازج مرارة المرض اللعاب! عدوت وراءها عاما ثم مللتها في أسابيع، فما التعاسة إن لم تكن هذا؟ بيتك أول بيت يضج بالشكوى في شهر العسل، سل قلبك أين مريم؟ ... أين الملاحة التي لوعتك؟ ... يجبك بضحكة كالتأوه ويقول أكلنا وشبعنا وصرنا نتقزز من رائحة الطعام، وهي ماكرة يستعذب اللعب بها ولا تفوتها شاردة، مرة بنت مرة، اذكروا حسنات موتاكم، هل كانت أمك خيرا من أمها؟ المهم أنها ليست كزينب يسهل خداعها، وما أثقل غضبها إذا غضبت! لا هي بالتي تغضي، ولا أنت بالذي يقنع، هيهات أن تشبع جوعك المستعر امرأة، أو يعرف الاستقرار قلبك، ومع ذلك توهمت أنك ستظفر بحياة زوجية سعيدة! ما أعظم أباك وما أحقرك! لم تستطع أن تكون مثله، ودواؤك أن تكون مثله؟ رباه ما هذا الذي أرى؟ أهذه امرأة حقا؟ كم قنطارا يا ترى تزن؟ اللهم إني لم أر من قبل طولا كهذا الطول، ولا عرضا كهذا العرض، كيف تملك هذه الضيعة؟ إني أنذر إذا وقعت بين يدي امرأة في قدرها أن أنيمها في وسط الحجرة عارية، وأن أدور حولها سبعا وأنا أفقر. - أنت!
جاء الصوت من وراء فاهتز له قلبه، وسرعان ما تحولت عيناه عن المرأة الضخمة إليه، فرأى شابة في معطف أبيض، فما تمالك أن هتف: زنوبة!
وتصافحا في حرارة وهي تضحك، غير أنه حثها على السير حتى لا يلفتا إليهما الأنظار، فسارا جنبا إلى جنب يشقان الزحام. هكذا التقيا بعد طول الفراق، ولم تكن ترد على خاطره إلا في القليل النادر بعد أن شغلته عنها الشواغل، ولكنه وجدها جميلة كيوم هجرها، أو لعلها ازدادت جمالا، ثم ما هذا الزي الحديث الذي استبدلته بالملاءة اللف؟ وانبعثت فيه موجة من النشاط والسرور، وإذا بها تتساءل: كيف حالك؟ - عال، وأنت؟ - كما ترى. - عال جدا والحمد لله، أنت غيرت زيك! لم أكن أعرفك عند أول نظرة، لا أزال أذكر مشيتك في الملاءة اللف. - وأنت لم تتغير، لم تكبر، ازددت سمانة، هذا كل ما في الأمر. - أنت الآن شيء آخر، بنت إفرنجية! ... (وهو يبتسم في حذر) ... إلا أن ردفها من الغورية. - لسانك! - أرعبتني! كأنك تبت أو تزوجت ...! - لا شيء على الله بكثير. - أما التوبة فهذا المعطف الأبيض يكذبها، وأما الزواج فلا يبعد أن تسوقك قلة العقل يوما إليه. - حاسب، إني متزوجة تقريبا.
ضحك - وكانا يميلان إلى الموسكي - قائلا: مثلي تماما. - لكنك متزوج بالفعل، أليس كذلك؟ - كيف عرفت هذا؟ ... (ثم مستدركا) أوه ... كيف نسيت أن أسرارنا عندكم أول بأول!
وضحك مرة أخرى ضحكة ذات معنى، فابتسمت ابتسامة غامضة، وقالت: تقصد بيت السلطانة؟ - أو بيت أبي، أليس الود متصلا؟ - تقريبا. - كل شيء عندك الآن بالتقريب! أنا كذلك متزوج تقريبا، أعني أني متزوج وأبحث عن رفيقة.
Página desconocida