كان الوقت أصيلا، حين بلغ البوابة شاب في مقتبل العمر، قد يروعك منه أول ما تراه قوام مليء وطول فارع، ولكنك إن أنعمت النظر في وجهه وملابسه لم يرعك في وجهه شيء من القسامة، ولا راعك في ملبسه شيء من الانسجام. - سلام عليكم يا عم إدريس.
وقام البواب واقفا في أدب: وعليك السلام يا بك ورحمة الله. - الباشا نزل؟ - والله يا بك لا أدري، ولكن لا أظن. - طيب أنتظره حتى ينزل. - تفضل يا سعادة البك.
ويدخل سليمان بك شكري سراي عمه أحمد باشا، كما تعود أن يدخل، فالدار مكان مباح لأقارب الباشا، يجلسون في أبهائها، ويطلبون ما يشاءون من قهوة أو غيرها، سواء كان الباشا موجودا أم غير موجود. فالباشا أب لهم جميعا وهم في داره أصحاب دار. ولم تكن هذه الأبوة من الباشا مقصورة على أقاربه الأدنين أو غير الأدنين، وإنما كانت تتسع فتشمل كل شاب يعرف الباشا، ويتصل به في معترك السياسة، فالباشا من روادها.
جلس سليمان في حجرة المكتب ينتظر نزول عمه الباشا، ولم يطل به الانفراد؛ إذ سرعان ما دخل عليه ابن عمه وصفي، وهو شاب حاصل على إجازة الحقوق، جميل الصورة، حسن السمت، له شهرة واسعة في الأدب السياسي، وقد استطاع أن ينجح في الانتخابات، فتحددت مكانته السياسية، وأصبح من النواب الظاهرين في مجلس النواب. - أهلا وصفي. - أهلا سليمان، ألم ينزل عمي؟ - لا والله لم ينزل بعد، أراك باسما، هل وراء ابتسامتك خبر جديد؟ - لا، ولكني لاحظت أنك تأتي هنا في كل يوم منذ عدت من أوروبا. - وأي عجيبة في ذلك؟ ألا تأتي أنت كل يوم؟ - نعم، ولكن عشرة أيام متتالية لا تنقطع يوما، ألا ترى أنها غريبة بعض الشيء؟ - يا أخي عشرة أو عشرين، ما شأنك أنت؟ - لا شأن لي، ولكني ألاحظ وأبتسم. ألا تعطيني حق الابتسام؟ - الله! أتظنني سعد باشا وتريد أن تتعب قلبي أنا أيضا؟ لا يا حبيبي، أنا لا أحب المناقشة، ولا أحب السياسة، ولا أحب هذا الكلام المزوق الذي يخفي وراءه معاني أخرى، أنا رجل مهندس، أضع قالب الطوب على الآخر فيتم البيت. - واضح، واضح، فلو لم تكن مهندسا لما حشرت سعد باشا والسياسة وقالب الطوب في ضحكة، مجرد ضحكة! - وبعد! أما فرغت؟ - يا أخي، أنا لم أفتح الحديث، وإنما أنت الذي فتحته. - فهل تسمح لي أن أقفله؟ - على كيفك، ولكن أريد أن أفتح معك موضوعا آخر. - افتح، ولكن ترفق بي وحياة والدك. - لم أجلس معك وحدنا منذ عدت من أوروبا، ماذا فعلت هناك؟ - حصلت على دبلوم الهندسة. - هذا أعرفه جيدا، أقصد في حياتك الخاصة! - أكاد أفهم، وإن كنت غير متأكد من موضوع سؤالك، أتقصد ...؟ - الحريم. - الحريم؟ - نعم. - ليس هناك شيء اسمه الحريم، ولكن ما الذي جعلك تدخل من موضوع مجيئي هنا إلى موضوع الحريم؟ - أتريد أن أقول السبب، وأذكر الصلة بين الموضوعين، أم تفضل أن تتكلم أنت في السؤال من غير شرح مني لهذه الأسباب والصلات؟ - لا، أفضل أن أتكلم في الموضوع، فأنا أعلم أنك طويل اللسان. - عظيم! قل، ما حال الحريم هناك؟ - ليس هناك حريم، بل إن هناك نساء. - لا أجد فرقا بين الاسمين! - بل الفرق بعيد، الحريم عندك وعند الرجعيين أمثالك نساء محجبات، يضعن على وجوههن الستار الأسود، وإن كان قد أصبح شفافا، وهن عندي لا بد أن يلبسن المعاطف، ويضعن على رءوسهن القلانس، بل لعلك تريدهن محجبات باليشمك والحبرة، أما النساء في أوروبا فأداة نافعة. - ومن قال لك إن النساء في مصر أداة غير نافعة؟ - تقصد نافعات في الطبخ وإخراج الأولاد وتربيتهم. - وهل هذا قليل؟ ومن الأطفال؟ أليسوا هم رجال الغد؟! - لا، إن المرأة في أوروبا أقوى من ذلك وأنفع، فصاحبات المواهب يزاحمن الرجال في أعمالهم، وهن مع السياسيين أمثالك يخرجن في الانتخابات مع أزواجهن. - إننا هنا نحترم المرأة أكثر مما يحترمها الغربيون، نحن نراها جوهرة يجب أن تظل بعيدة عن أيدي الطامعين، وعن أنظارهم. - فتحبسها؟! - ألم تكن لك صديقة في أوروبا؟ - بل كان لي. - أترضى لابنتك، أو لزوجتك أن تكون صديقة لرجل؟ - ماذا تعني بالصداقة؟ - أعني الصداقة التي كانت بينك وبين فتاتك في أوروبا. - يا أخي أعوذ بالله! أعوذ بالله! - أرأيت؟ أترضى أن تخطب واحدة تعرف أنها كانت تلتقي بآخر، لقاء بريئا؟ - طبعا، لا. - فما هذا الدفاع الحار؟ - عن الحرية. - حرية المرأة هي الطريق إلى هذا الذي تأنف أنت منه، لن ترى المرأة إذ ذاك في الرجل ذلك الشيء المقدس الذي لا يمكن أن تلتقي به إلا إذا كان زوجا لها، والرجل أيضا سيفقد لذته بالمرأة في زوجته، ما دام يلتقي بالنساء في الطريق وفي العمل، سيجد كل منهما أنه من الطبيعي أن يلتقيا، وإذا التقيا ... - وما البأس إذا التقيا وتعارفا ثم تزوجا؟ - الخشية أن يتزوجا قبل الزواج. - فإذا كانا عاقلين واقتصر الأمر بينهما على اللقاء البريء؟ - ما رأيك أنت، إذا التقيت بفتاة وبادلتها حبا، حبا شريفا، أتتزوجها بعد ذلك؟ - لا، لا، لا أظن. - أرأيت، إننا نحب أن نثق بزوجاتنا، نحبهن لنا بجميعهن، بذكرياتهن وأحلامهن وآمالهن، ولا نحب هذه الذكريات أن تبدأ إلا بعد الزواج، فكل ما قبل الزواج لا نعترف به نحن الشرقيين، حتى وإن كنا نحن الطرف الآخر فيه. - ولكن يا أخي ...
وقطع عم دهب خادم الباشا الخاص النقاش، وهو يفتح الباب قائلا في جد حازم: سعادة الباشا.
ووقف الشابان ينتظران قدومه، وما هي إلا لحظات قلائل، حتى أقبل الباشا مبتسما كعادته، كان الباشا رجلا في الحلقة السابعة من عمره، طويل القامة، عريض المنكبين، سمح الوجه، ترى في وجهه طيبة، فإذا أنعمت النظر في عينيه من وراء نظارته، رأيت فيهما عمقا وذكاء ولماحية، مارس الباشا السياسة ومارسته، وشهد أحداثها وشارك فيها، ولكنه أبى أن ينضم إلى حزب من الأحزاب، بل كان دائما يقف من هذه الأحزاب موقف الناقد الحر، يؤيد هذا حينا، ويهاجمه حينا، دون أن يبعثه إلى التأييد أو المهاجمة باعث شخصي، إلا ما يرى فيه صالحا للبلد، وقد اكتسب بهذا لنفسه احترام جميع السياسيين، كما اكتسب بهذا ذاته لنفسه كره جميع السياسيين ومن تبعهم، فلم يكن له بين الشعب مؤيدون ، وهكذا كان دائما، بعيدا عن الحكم، إلا إذا جاءت وزارة محايدة، أو وزارة مؤقتة، فهو إذن عضو من أقوى أعضائها شخصية، ومن أوسعهم نفوذا.
دخل الباشا الغرفة، وحيا ولدي أخويه، وجلس دون أن يلحظ أنظار وصفي التي كانت مشدودة إلى النافذة المطلة على الحديقة، ولم يلحظ وصفي أن عمه قد جلس وأنه قد آن له أن يجلس هو الآخر، وإنما ظل شاخصا إلى تلك المرأة التي دلفت إلى الحديقة تحمل فوق رأسها بقجة مصرورة، تهدلت جنباتها فوق رأسها، إنها أم وديدة، تحمل الأقمشة التي تعرضها على حريم الدار، وتحمل أيضا موافقته على موعد الليلة، وأفاق وصفي من سرحته على صوت عمه ينبهه! - خير يا سي وصفي، أراك سارحا، أتراك تفكر في خطبتك الجديدة؟
وأرتج وصفي لكلمة الخطبة، وصحا إلى عمه يسأله في جزع وحيرة: أي خطبة؟ أي خطبة يا عمي؟ - يا أخي، أنا قلت خطبة، أقصد خطبتك في مجلس النواب، ألا تنوي مهاجمة أحد غدا؟ - والله يا عمي، سعد باشا أصبح رجلا عسيرا على المهاجمة، فهو منذ تولى رياسة مجلس النواب، وهو يعمل على ضم الكلمة، لو كان سار على هذا النحو منذ أول عمله بالسياسة لأراحنا.
وقال الباشا باسما: الواقع أن العيب الأساسي في سعد أنه استغل الدكتاتورية الشعبية، وهي دكتاتورية تعطي لصاحبها سلطات واسعة، وتجعله يعمل وكأنما هو وحده صاحب البلد. - ولكنه في هذه الأيام الأخيرة أصبح يستعمل الدكتاتورية الشعبية استعمالا معقولا. - ما أحب إلينا أن يظل سائرا على هذا النحو. ما لك ساكتا يا سليمان؟ - يا عمي أنا لا أفهم في السياسة. - آه صحيح، نسيت هذا، ونحن أيضا لا نفهم في الهندسة، فما رأيك؟ ابحث لنا عن موضوع نتكلم فيه!
فقال وصفي وقد هفت نفسه إلى مداعبة ابن عمه: كنا نتكلم قبل قدوم سعادتك عن المرأة في الغرب، والحريم في الشرق، ويظهر أن أخانا سليمان يخالفنا نحن الشرقيين في أفكارنا عن المرأة. قل رأيك لعمي.
Página desconocida