الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

الفصل الثامن عشر‏

الفصل التاسع عشر‏

الفصل العشرون‏

الفصل الحادي والعشرون‏

الفصل الثاني والعشرون‏

الفصل الثالث والعشرون‏

الفصل الرابع والعشرون‏

الفصل الخامس والعشرون‏

الفصل السادس والعشرون‏

الفصل السابع والعشرون‏

الفصل الثامن والعشرون‏

الفصل التاسع والعشرون‏

الفصل الثلاثون‏

الفصل الحادي والثلاثون‏

الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

الفصل الثامن عشر‏

الفصل التاسع عشر‏

الفصل العشرون‏

الفصل الحادي والعشرون‏

الفصل الثاني والعشرون‏

الفصل الثالث والعشرون‏

الفصل الرابع والعشرون‏

الفصل الخامس والعشرون‏

الفصل السادس والعشرون‏

الفصل السابع والعشرون‏

الفصل الثامن والعشرون‏

الفصل التاسع والعشرون‏

الفصل الثلاثون‏

الفصل الحادي والثلاثون‏

قصر على النيل

قصر على النيل

تأليف

ثروت أباظة

الفصل الأول

في استعلاء وكبر، يقف قصر أحمد باشا شكري، يشرف على النيل الذي يجري من تحته في تطامن وهدوء، فإن رأيته حسبت أن النيل لم يجر إلا ليجعل هذا القصر على هذه الروعة وعلى ذلك البهاء، فهو فارع إلى السماء، عريض ضخم، كل ما فيه يوحي إليك أن هنا مجدا قديما لا يزال جديدا، وأن هنا عزا عزيزا، وخيرا وفيرا، وكرما عتيدا، ورفدا وهناء.

يفصل القصر عن النيل حديقة منسقة، ويصل القصر بالنيل سلم من الحجر يفضي إلى النيل ذاته، إذا شاء سكان القصر أن يستعملوا قاربهم البخاري الراسي هناك خلصوا إليه بسلمهم هذا.

كان القصر إذن يفضي إلى النيل بهذا السلم، أما باب القصر ذاته، فقد كان من الناحية المقابلة للنيل ضخما فخما رائعا، مفتوحا على مصراعيه طول اليوم، لا يلتقي مصراعاه إلا في الهزيع الأخير من الليل.

كان الوقت أصيلا، حين بلغ البوابة شاب في مقتبل العمر، قد يروعك منه أول ما تراه قوام مليء وطول فارع، ولكنك إن أنعمت النظر في وجهه وملابسه لم يرعك في وجهه شيء من القسامة، ولا راعك في ملبسه شيء من الانسجام. - سلام عليكم يا عم إدريس.

وقام البواب واقفا في أدب: وعليك السلام يا بك ورحمة الله. - الباشا نزل؟ - والله يا بك لا أدري، ولكن لا أظن. - طيب أنتظره حتى ينزل. - تفضل يا سعادة البك.

ويدخل سليمان بك شكري سراي عمه أحمد باشا، كما تعود أن يدخل، فالدار مكان مباح لأقارب الباشا، يجلسون في أبهائها، ويطلبون ما يشاءون من قهوة أو غيرها، سواء كان الباشا موجودا أم غير موجود. فالباشا أب لهم جميعا وهم في داره أصحاب دار. ولم تكن هذه الأبوة من الباشا مقصورة على أقاربه الأدنين أو غير الأدنين، وإنما كانت تتسع فتشمل كل شاب يعرف الباشا، ويتصل به في معترك السياسة، فالباشا من روادها.

جلس سليمان في حجرة المكتب ينتظر نزول عمه الباشا، ولم يطل به الانفراد؛ إذ سرعان ما دخل عليه ابن عمه وصفي، وهو شاب حاصل على إجازة الحقوق، جميل الصورة، حسن السمت، له شهرة واسعة في الأدب السياسي، وقد استطاع أن ينجح في الانتخابات، فتحددت مكانته السياسية، وأصبح من النواب الظاهرين في مجلس النواب. - أهلا وصفي. - أهلا سليمان، ألم ينزل عمي؟ - لا والله لم ينزل بعد، أراك باسما، هل وراء ابتسامتك خبر جديد؟ - لا، ولكني لاحظت أنك تأتي هنا في كل يوم منذ عدت من أوروبا. - وأي عجيبة في ذلك؟ ألا تأتي أنت كل يوم؟ - نعم، ولكن عشرة أيام متتالية لا تنقطع يوما، ألا ترى أنها غريبة بعض الشيء؟ - يا أخي عشرة أو عشرين، ما شأنك أنت؟ - لا شأن لي، ولكني ألاحظ وأبتسم. ألا تعطيني حق الابتسام؟ - الله! أتظنني سعد باشا وتريد أن تتعب قلبي أنا أيضا؟ لا يا حبيبي، أنا لا أحب المناقشة، ولا أحب السياسة، ولا أحب هذا الكلام المزوق الذي يخفي وراءه معاني أخرى، أنا رجل مهندس، أضع قالب الطوب على الآخر فيتم البيت. - واضح، واضح، فلو لم تكن مهندسا لما حشرت سعد باشا والسياسة وقالب الطوب في ضحكة، مجرد ضحكة! - وبعد! أما فرغت؟ - يا أخي، أنا لم أفتح الحديث، وإنما أنت الذي فتحته. - فهل تسمح لي أن أقفله؟ - على كيفك، ولكن أريد أن أفتح معك موضوعا آخر. - افتح، ولكن ترفق بي وحياة والدك. - لم أجلس معك وحدنا منذ عدت من أوروبا، ماذا فعلت هناك؟ - حصلت على دبلوم الهندسة. - هذا أعرفه جيدا، أقصد في حياتك الخاصة! - أكاد أفهم، وإن كنت غير متأكد من موضوع سؤالك، أتقصد ...؟ - الحريم. - الحريم؟ - نعم. - ليس هناك شيء اسمه الحريم، ولكن ما الذي جعلك تدخل من موضوع مجيئي هنا إلى موضوع الحريم؟ - أتريد أن أقول السبب، وأذكر الصلة بين الموضوعين، أم تفضل أن تتكلم أنت في السؤال من غير شرح مني لهذه الأسباب والصلات؟ - لا، أفضل أن أتكلم في الموضوع، فأنا أعلم أنك طويل اللسان. - عظيم! قل، ما حال الحريم هناك؟ - ليس هناك حريم، بل إن هناك نساء. - لا أجد فرقا بين الاسمين! - بل الفرق بعيد، الحريم عندك وعند الرجعيين أمثالك نساء محجبات، يضعن على وجوههن الستار الأسود، وإن كان قد أصبح شفافا، وهن عندي لا بد أن يلبسن المعاطف، ويضعن على رءوسهن القلانس، بل لعلك تريدهن محجبات باليشمك والحبرة، أما النساء في أوروبا فأداة نافعة. - ومن قال لك إن النساء في مصر أداة غير نافعة؟ - تقصد نافعات في الطبخ وإخراج الأولاد وتربيتهم. - وهل هذا قليل؟ ومن الأطفال؟ أليسوا هم رجال الغد؟! - لا، إن المرأة في أوروبا أقوى من ذلك وأنفع، فصاحبات المواهب يزاحمن الرجال في أعمالهم، وهن مع السياسيين أمثالك يخرجن في الانتخابات مع أزواجهن. - إننا هنا نحترم المرأة أكثر مما يحترمها الغربيون، نحن نراها جوهرة يجب أن تظل بعيدة عن أيدي الطامعين، وعن أنظارهم. - فتحبسها؟! - ألم تكن لك صديقة في أوروبا؟ - بل كان لي. - أترضى لابنتك، أو لزوجتك أن تكون صديقة لرجل؟ - ماذا تعني بالصداقة؟ - أعني الصداقة التي كانت بينك وبين فتاتك في أوروبا. - يا أخي أعوذ بالله! أعوذ بالله! - أرأيت؟ أترضى أن تخطب واحدة تعرف أنها كانت تلتقي بآخر، لقاء بريئا؟ - طبعا، لا. - فما هذا الدفاع الحار؟ - عن الحرية. - حرية المرأة هي الطريق إلى هذا الذي تأنف أنت منه، لن ترى المرأة إذ ذاك في الرجل ذلك الشيء المقدس الذي لا يمكن أن تلتقي به إلا إذا كان زوجا لها، والرجل أيضا سيفقد لذته بالمرأة في زوجته، ما دام يلتقي بالنساء في الطريق وفي العمل، سيجد كل منهما أنه من الطبيعي أن يلتقيا، وإذا التقيا ... - وما البأس إذا التقيا وتعارفا ثم تزوجا؟ - الخشية أن يتزوجا قبل الزواج. - فإذا كانا عاقلين واقتصر الأمر بينهما على اللقاء البريء؟ - ما رأيك أنت، إذا التقيت بفتاة وبادلتها حبا، حبا شريفا، أتتزوجها بعد ذلك؟ - لا، لا، لا أظن. - أرأيت، إننا نحب أن نثق بزوجاتنا، نحبهن لنا بجميعهن، بذكرياتهن وأحلامهن وآمالهن، ولا نحب هذه الذكريات أن تبدأ إلا بعد الزواج، فكل ما قبل الزواج لا نعترف به نحن الشرقيين، حتى وإن كنا نحن الطرف الآخر فيه. - ولكن يا أخي ...

وقطع عم دهب خادم الباشا الخاص النقاش، وهو يفتح الباب قائلا في جد حازم: سعادة الباشا.

ووقف الشابان ينتظران قدومه، وما هي إلا لحظات قلائل، حتى أقبل الباشا مبتسما كعادته، كان الباشا رجلا في الحلقة السابعة من عمره، طويل القامة، عريض المنكبين، سمح الوجه، ترى في وجهه طيبة، فإذا أنعمت النظر في عينيه من وراء نظارته، رأيت فيهما عمقا وذكاء ولماحية، مارس الباشا السياسة ومارسته، وشهد أحداثها وشارك فيها، ولكنه أبى أن ينضم إلى حزب من الأحزاب، بل كان دائما يقف من هذه الأحزاب موقف الناقد الحر، يؤيد هذا حينا، ويهاجمه حينا، دون أن يبعثه إلى التأييد أو المهاجمة باعث شخصي، إلا ما يرى فيه صالحا للبلد، وقد اكتسب بهذا لنفسه احترام جميع السياسيين، كما اكتسب بهذا ذاته لنفسه كره جميع السياسيين ومن تبعهم، فلم يكن له بين الشعب مؤيدون ، وهكذا كان دائما، بعيدا عن الحكم، إلا إذا جاءت وزارة محايدة، أو وزارة مؤقتة، فهو إذن عضو من أقوى أعضائها شخصية، ومن أوسعهم نفوذا.

دخل الباشا الغرفة، وحيا ولدي أخويه، وجلس دون أن يلحظ أنظار وصفي التي كانت مشدودة إلى النافذة المطلة على الحديقة، ولم يلحظ وصفي أن عمه قد جلس وأنه قد آن له أن يجلس هو الآخر، وإنما ظل شاخصا إلى تلك المرأة التي دلفت إلى الحديقة تحمل فوق رأسها بقجة مصرورة، تهدلت جنباتها فوق رأسها، إنها أم وديدة، تحمل الأقمشة التي تعرضها على حريم الدار، وتحمل أيضا موافقته على موعد الليلة، وأفاق وصفي من سرحته على صوت عمه ينبهه! - خير يا سي وصفي، أراك سارحا، أتراك تفكر في خطبتك الجديدة؟

وأرتج وصفي لكلمة الخطبة، وصحا إلى عمه يسأله في جزع وحيرة: أي خطبة؟ أي خطبة يا عمي؟ - يا أخي، أنا قلت خطبة، أقصد خطبتك في مجلس النواب، ألا تنوي مهاجمة أحد غدا؟ - والله يا عمي، سعد باشا أصبح رجلا عسيرا على المهاجمة، فهو منذ تولى رياسة مجلس النواب، وهو يعمل على ضم الكلمة، لو كان سار على هذا النحو منذ أول عمله بالسياسة لأراحنا.

وقال الباشا باسما: الواقع أن العيب الأساسي في سعد أنه استغل الدكتاتورية الشعبية، وهي دكتاتورية تعطي لصاحبها سلطات واسعة، وتجعله يعمل وكأنما هو وحده صاحب البلد. - ولكنه في هذه الأيام الأخيرة أصبح يستعمل الدكتاتورية الشعبية استعمالا معقولا. - ما أحب إلينا أن يظل سائرا على هذا النحو. ما لك ساكتا يا سليمان؟ - يا عمي أنا لا أفهم في السياسة. - آه صحيح، نسيت هذا، ونحن أيضا لا نفهم في الهندسة، فما رأيك؟ ابحث لنا عن موضوع نتكلم فيه!

فقال وصفي وقد هفت نفسه إلى مداعبة ابن عمه: كنا نتكلم قبل قدوم سعادتك عن المرأة في الغرب، والحريم في الشرق، ويظهر أن أخانا سليمان يخالفنا نحن الشرقيين في أفكارنا عن المرأة. قل رأيك لعمي.

وتقلص وجه سليمان واحتقن وتلجلج لسانه، وأصبح لا يدري ما يفعل، وضحك وصفي ضحكة مستورة، فهو يعلم أن سليمان لن يستطيع أن يقول رأيه أمام عمه المعروف بالمحافظة، وأحس العم أن وصفي قد ألقى بابن عمه في مأزق دقيق، فغير مجرى الحديث. - هيه يا سي سليمان، ماذا عملت في المصلحة؟

وقبل أن يجيب سليمان أدرك وصفي أن في عيني ابن عمه حديثا آخر يريد أن يفضي به إلى عمه في خلوة، فخرج من الغرفة في هدوء دون استئذان، وأقفل الباب من خلفه، وشكر سليمان لابن عمه هذا الإدراك الدقيق، وراح يجمع صوته ليسأل عمه في حشرجة: ماذا عملت لي يا عمي؟

كان الباشا يدرك تماما ما يقصد إليه السؤال، ولكنه لم يشأ أن يجيب في وضوح، خشية أن يكون ما أدركه غير ما يقصد إليه ابن أخيه، فهو يسأل: ماذا فعلت لك فيم؟ - ألم تقل لي إنك ستسأل سهير ثانية إن كانت تقبلني؟ - سألتها. - وبماذا أجابت؟ - ... - لا شك أن في رضا سعادتك كل الكفاية. - يا أخي، أنت تعرف أنني رجل محافظ، وابنتي لا ترد لي أمرا، ولكن الزواج شأنها وحدها، ولا أستطيع أن أرغمها، أنا سأتركها بعد حين، فبماذا تراها ستذكرني إن أنا زوجتها بمن لا تريد؟ - يا عمي نحن في مصر لا نسأل بناتنا عمن يتزوجن. - ولكني أنا أسأل. - ...

وأحس الباشا أنه أغلظ على ابن أخيه، وأدركته عليه الشفقة، ولم يشأ أن يجمع عليه الرد الخشن ورد خطبته في آن، فهو يقول له في تلطف: أمثلك، وأنت المتعلم في أوروبا، يقول هذا الكلام؟! وماذا أعمل؟ إني ألححت عليها، ولكن بلا فائدة، ولم أشأ أن أرغمها إرغاما حتى لا تقوم الحياة بينكما على أمر جاف صدر مني، على كل حال أترك لك فرصة أخرى. - أمرك يا عمي. - طيب يا سيدي.

وأدرك سليمان أنه لم يعد ما يدعو لبقائه، فقام وقد اكفهر وجهه، واستأذن عمه وخرج.

لم يكن سليمان جميلا، ولكن ما أصابه في زيارته تلك زاده قبحا، فلو قدر له أن ينظر في مرآة حينذاك، لما تمالك نفسه عن أن يقول: نعم ، إنها محقة أن ترفضني، ولو كنت أنا امرأة، ولو كنت حتى امرأة فقيرة، ولست ابنة باشا، لو كنت ونظرت إلى هذه الخلقة لرفضت الزواج بصاحبها.

كان خليقا أن يقول هذا لو أنه نظر إلى مرآة، ولو أنه أصاب بصيصا من ضمير، ولكنه - والحمد لله - لم ينظر إلى مرآة، ولم يصب شيئا من ضمير، فهو ينقلب إلى بيته، لا يفكر إلا في هذه الثروة التي يوشك أن يفوتها عليه ذكاء بنت عمه، وقبح خلقته.

الفصل الثاني

خرج وصفي من الحجرة وأغلق الباب من خلفه، ولكنه لم يقصد إلى الباب الخارجي للمنزل، بل هو يقصد إلى الحديقة الخلفية يتمشى في أنحائها رويدا، وكأنما لا يهدف لغير الاستمتاع بضوء القمر الذي ينسكب على الحديقة، حتى إذا بلغ السلم المؤدي إلى النيل، نزل عليه في سرعة، وفي لمحة أخفاه الجدار الأبيض القائم هناك عن الحديقة والمنزل جميعا.

هنا الموعد، موعده مع سهير، ترى ماذا تخفي لهما الأيام؟! إنها سهير بجمالها الرائع، بذلك القوام الفارع، وهذه الضحكة العذبة التي لا تغرب عن ثغرها، ثغرها ذلك الحلو الذي يلقي الكلام رقيقا جريئا، عميق المعنى حلو الرنين، سهير بذلك الوجه الذي يميل إلى الطول في امتلاء، وبهذين الخدين الناعمين، يشع فيهما زهو وثقة، وبهاتين العينين، وفيهما بريق أخاذ يكاد في ضوء القمر أن ينسكب مع ضوء القمر، إنها سهير بروحها تلك الحلوة، وبحبها العنيف له، ماذا تخفي لهما الأيام؟ إنه لن ينسى، لن ينسى يوم جاءته أم وديدة تهمس في أذنه أن انتظر اليوم عند مرفأ القارب، وكاد العقل يرده، ولكن الشباب دفعه، وهناك التقيا في أول يوم، ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع عنه أم وديدة بالموعد المهموس حينا، أو بالموعد المكتوب حينا آخر، وبين هذه المواعيد استقبل وصفي أساليب من السعادة لم يفكر يوما أنه سيلتقي بها، ولكن إلى أين؟

إنه يحبها، يحبها، يحب فيها شبابه البكر، ويحب فيها إرضاءها لغرور الشباب، ويحب فيها أمسياتها الناعمة في ضوء القمر، أو في ضوء المصباح المعلق على القارب ، يحب فيها استيقاظة القلب الأولى، وصحوة النبضات الناغمة، يحبها ولكن إلى أين؟ أزواجا؟

نعم، هو يعلم أن عمه لن يتردد في قبوله، وهو يعلم أنه جدير بها، وهي جديرة به، ولكن الزواج؟! فإذا ما شغلتني الحياة، وإذا انصرفت عن الحب حينا إلى ذلك المعترك الضخم الذي ألقيت بنفسي فيه، ماذا تعمل سهير؟ ولكنه يحبها، بل هو لم يعرف للحب معنى إلا هنا، هنا بجانب هذا القارب، وعلى ضفاف هذا النيل، وفي ظل هذا القصر، وفي ضوء هاتين العينين، عيني سهير. يحبها، وهي تحبه، ولكن الزواج ثقة، أجننت؟ ألا تثق بابنة عمك؟ لا، لا أثق. أجننت؟ لم أجن، ألم تسع هي إلى هذا الموعد؟ ولكن هذا لم يكن إلا من أجلك أنت! أنت وحدك، من أجل شبابك الريان، ومن أجل جمالك هذا، من أجل عينيك الرائعتين، وشفتيك الرقيقتين يعلوهما ذلك الشارب الذي تعنى بتجميله، ومن أجل شعرك الأسود تحت طربوشك المائل، يا لك من غر! أتذكر جمال سمتك؟ ألست رجلا، نعم، إني رجل، رجل عظيم كاتب، أديب سياسي يخشى كبار الساسة قلمه ولسانه، وأنا رجل وطني، أحببت وطني وهاجمت أعداءه، وأثرت القلق في نفوسهم، فقبضوا علي مرات، فما زادني هذا عند وطني ومواطني إلا إعزازا وحبا، وأنا أيضا عضو بمجلس النواب، وأصغر النواب سنا، وأنا أيضا غني، وأبي باشا مثل أبيها، نعم فما كانت لتسعى إلا إلي، إلي أنا بكل هذه الأمجاد التي تجتمع في. ولكن؟! ولكن ماذا أيها العربيد، أتلتقي بها وتبثها الهوى وتقبل هواها ثم تتردد؟! نعم إني أتردد.

إنها قد تسعى إلى غيري كما سعت إلي! بل إن أمي قد ألقت إلي فيما ألقت أن كلاما غير كريم يدور حول سهير، أليس بحسبي هذا الكلام حتى لا أتزوجها؟! ومتى رأيت الناس يصدقون؟ لعلهم وشاة يكذبون، ولكن الشرف سمعة، وكرامة الفتاة منوطة بسمعتها، فما للناس يتحدثون عنها ولا يتحدثون عن فتاة أخرى؟ لعلهم ينفسون عليها جمالها وغناها! كم من الفتيات جميلات وذوات غنى ولا نسمع عنهن شيئا، لا بد أنها هي التي أتاحت الفرص لهذا الحديث أن يدور، ثم أليس في لقائها بي ما يدل على أنها جريئة لا تراعي التقاليد؟ ولكنها تلتقي بك أنت وحدك! لا، إن من تقبل أن تلتقي بي لا ترفض أن تلتقي بآخر، الزواج أمر خطير، قد لا أفرغ لها، قد تشغلني السياسة، فما يمنعها أن تواعد آخر كما تواعدني؟ لا، لا، لا أستطيع، الزواج! الزواج!

إن أمي محقة حين فكرت أن تخطب لي هند بنت إسماعيل باشا مصطفى، ومن أدراك أن هندا لا تلتقي بابن عم لها كما تفعل سهير؟ أيها المتشكك! وكيف لهند أن تلتقي وهي فتاة صغيرة لا تزال في أكمام الصبا لم تعده إلى الشباب؟ تلك هي الزوجة، تربية تركية صارمة، تخرج من يد المربية إلى يد الزوج، بلا لقاء ولا مواعيد ولا قارب في النيل، ولا ستار من جدار أو ليل ولا أم وديدة حمالة المواعيد، ولكن سهير؟ سهير، ماذا أنت قائل لها؟ ماذا أنت قائل لها؟

وحينئذ سمع أقداما تقترب، وسرعان ما بدت سهير على رأس السلم، وراحت تجوس الحديقة بنظرها هنيهة، ثم نزلت السلم في سرعة محاذرة أن يصدر منها صوت، واستقبلها وصفي. - تأخرت.

وضحكت سهير وهي تقول: انتظرت حتى خرج أبي. - عمي خرج؟ - نعم، ظللت أرقب باب الخروج، ورأيت الباشمهندس الثقيل يخرج، ثم خرج أبي بعده بقليل ومعه عبد البديع أفندي كاتب الزراعة. - أنت تظلمين سليمان! - أعوذ بالله! لا تذكره لي. - ولماذا؟ - يا أخي هذا كارثة، مصيبة، بلوى. - لماذا؟ لماذا هذا كله؟ هل جلست معه؟

وتضحك سهير وهي تقول: نعم يا سي وصفي؟! كيف أجلس معه؟ أأقابل الرجال؟

وابتسم وصفي وهو يقول: وما أنا؟ هل أنا ست؟

وابتسمت سهير، ولمع في عينيها بريق وهي تنظر إلى وصفي نظرات عميقة جعلت الزهو يملكه ويروح يحاول أن يخفيه بالرجوع إلى الحديث عن سليمان، فقد كان ذمه يرضيه ويرتاح إليه كما يرتاح لمديح يسمعه عن نفسه. - فكيف عرفت أنه كارثة ومصيبة وبلوى؟ - أوه! يا أخي، اترك سيرة هذا اللوح .

ويقهقه وصفي قهقهة توشك أن تعلو، لولا أن تسارع سهير فتضع يدها على فمه فيقبلها، ويمسك بها، ويعيد سؤاله وهو لا يزال محتضنا يدها بيديه: كيف عرفت أوصافه هذه؟ - يكفي أن هذه رابع مرة أرفضه، وهو يصر على طلبي! - رابع مرة؟ - طبعا، طلبني مرة قبل أن يسافر، وأجابه أبي دون أن يسأل رأيي بأنني ما زلت صغيرة، ومرة وهو مسافر بخطاب لم يرد أبي عليه، ومرة أرسل أمه وسألني أبي فرفضت، وهذه المرة التي لا يزال يلح فيها. - والله مكافح! من يعلم لعله ينال أمنيته.

وانتفضت سهير جازعة، وانحبس صوتها وهي تسأل في لهفة جازعة: ماذا؟ ماذا تقول يا وصفي؟

وأطلق وصفي ضحكة صغيرة وهو يقول: يا ستي أنا أضحك، ألهذا الحد تكرهينه؟ - بل لهذا الحد أحب غيره.

واغرورقت عينا وصفي بالدموع، ولم يجد شيئا يفعله إلا أن يميل على يدي سهير، يقبلها في خشوع حائر، وفي قلق مرير لو أحسته سهير لما صبرت أن تلقي بنفسها إلى النيل، وأوشكت سهير أن تميل على رأسه تقبلها وهو مكب على يدها، ولكن ردها عن ذلك كبر لم يمحه الحب، وردها عن ذلك أن صعد إليها وجه وصفي والدموع تتغشاه بعد أن فاض منها سكب على يدها.

الفصل الثالث

عاد وصفي إلى منزله أول الليل، وجلس إلى أمه التي استقبلته وقد رسمت على فمها ابتسامة، أدرك وصفي أنها تخفي وراءها أمرا، ولم يشأ وصفي أن يستعجل أمه لتنهي إليه ما تخفيه ابتسامتها، فهو يعلم أنها سرعان ما تفضي إليه بما تخبئه.

كانت السيدة إجلال أم وصفي سيدة في الحلقة السادسة من عمرها، تركية المولد والنشأة، وكانت بيضاء الجبين، لم يخط الزمان على وجهها خطوطا كثيرة، وإنما ترك صفحة وجهها صافية يلمع فيها البشر، فقد عاشت مع المرحوم زوجها عيشة راضية، فلم يتزوج عليها، ولم يشتر جوار أخريات شأن أمثاله من الأغنياء، وإنما أفردها بحبه وعنايته ومنزله، ولكن هذا جميعه لم يستطع أن يمحو من عينيها وميض قلق ألم بها منذ اختطفها اللصوص وهي طفلة تلعب في مدارج الصبا، وأتوا بها إلى مصر، حيث بيعت بيع الرقيق إلى جد وصفي الذي زوجها لولده أدهم باشا شكري، لا، لم تمح الأيام من عينيها هذه النظرة القلقة، ولم يستطع أدهم باشا بكل حدبه عليها وحبه لها أن يزيل هذه الآثار الدارسة من بقايا القلق التي ارتسمت في عينيها منذ ذلك الحين البعيد، ولم تنجب إجلال هانم لزوجها غير وصفي، فحمد ربه على ما أعطى، وعاش لا يرجو من دنياه إلا أن يمد الله في عمر ولده ويحفظه من شر العاديات.

وكان وصفي خليقا أن يميع، منتهزا فرصة انفراده بأبوة أبيه وببنوته له، لولا أن إجلال هانم أدركت ما يحيط بالفتى من خطر، فقامت على شأنه في قسوة رحيمة وحزم واع، وهيأ له أبوه مناهل العلم ومجالس العلماء، فشب الفتى قويم الخلق واللسان، أديبا محبا للعلم، وصار إلى مكانه المرموق هذا، مدركا أن الفضل في ذلك يرجع إلى أمه وأبيه.

وحين انتقل أبوه إلى جوار ربه، عاش الفتى وليس له أرب في بيته إلا أن يرضي أمه، فلا تفتقد شيئا كانت تجده أيام أبيه، اللهم إلا فقدانها لزوجها، ذلك الذي لا يعوضه مال أو بنون.

لاحظت إجلال هانم أن وصفي لم يحفل أمر ابتسامتها التي وضعتها على فمها حين أقبل، فوسعت الابتسامة مرة أخرى عساه أن يسألها، فقد كانت تدير الحديث في ذهنها قبل أن يأتي ولدها، وكانت تريد أن يسألها «ماذا وراء ابتسامتك؟» حتى ترد سؤاله بما تريد أن تخبره به، ولكن ها هو ذا ابنها يأبى أن يسألها ولا تعرف هي كيف تبدأ الحديث.

وأدرك وصفي أنها تريد أن يسألها عما تخفيه، وشاء أن يداعبها بصمته، فسكت لا يسألها، وطال الصمت بهما وازدادت الابتسامة اتساعا، وازداد وصفي تشاغلا عنها حتى ضاقت الأم آخر الأمر. - أما إنك بارد!

وضحك وصفي وهو يقول: لماذا يا أمي؟ - أما ترى أني أبتسم وأبتسم؟ أما ترى أنني أريد أن أقول شيئا؟! - فما يمنعك يا أمي أن تقوليه؟ - لأنك لا تسألني عن سبب ابتسامتي. - ألا بد أن أسألك حتى تخبريني؟ أنا أعلم أنك لن تسكتي أو تقولي ما بعث هذه الابتسامة الحلوة إلى شفتيك. - والله لأسكتن فلا أخبرك. - ولماذا يا أمي؟ أنا أعرف أنك تريدين أن تخبريني عن خبر هام، فلا تضايقي نفسك وقولي الخبر. - أنا أضايق نفسي، إنه أنت الذي يتوق إلى معرفة ما أخفيه. - أنا يا أمي! - نعم أنت، ولكني لن أخبرك. - حسنا، نعمل تجربة، الذي يتكلم أولا يدفع للآخر خمسة جنيهات. - أما إنك بارد! - هيه، ما رأيك؟ نعمل تجربة؟ - طيب، سنرى.

وسكت الاثنان، وقد ازدادت الابتسامة اتساعا على وجه إجلال هانم، حتى لتوشك أن تنفجر عن ضحكة مرحة فرحانة، ولم يطل بهما الصمت، بل تلفتت إجلال هانم حولها وهي تقول: أين كيسي؟ ها هو ذا.

وفتحت إجلال هانم كيس نقودها، وأخرجت منه خمسة جنيهات، وقالت لابنها: خذ واسمع.

وراح الاثنان يقهقهان في مرح، ثم قالت إجلال هانم: احزر من زارني اليوم. - حرم إسماعيل باشا مصطفى.

وفغرت الأم فاها عاجبة من ولدها هذا الذي حيرها. - وكيف عرفت؟ - عرفت من ابتسامتك الأولى. - طيب هات الجنيهات الخمسة، أتضحك علي يا ولد؟ - وفيم أضحك عليك؟ - أتكون عارفا بالموضوع كله وتدعي الجهل به؟ - يا أمي، وهل لك عمل منذ قبلت أن تخطبي لي هندا إلا بيت إسماعيل باشا مصطفى؟ وهل لك حديث إلا عن الخطبة، وعن صداقتك لسمية هانم منذ أيام الطفولة، وعن فرحك لهذا النسب الجديد؟ يا أمي إنني أعلم أنك لا تحملين أخبارا إلا هذه، فمنذ فتحت هذا الموضوع وأنت لا تتحدثين عن شيء آخر. - آه يا لئيم! هات الفلوس التي أخذتها.

وقال وصفي جادا: وماذا قالت لك سمية هانم؟ - أرأيت أنك أنت الذي تتوق إلى هذا الحديث. - على كل حال لا بد لي أن أعرف. - يا سيدي، الباشا وافق وهو مسرور جدا، وقالت لي إنه منتظرك غدا لتحدد موعد الخطبة.

وقال وصفي في شيء من القلق: غدا؟ - غدا. - بهذه السرعة؟ - وما المانع؟

وسرح وصفي بنظره وهو يقول: نعم، صحيح ، ما المانع؟

الفصل الرابع

اندفع وصفي في تيار رغبة عنيفة أن يتم زواجه هذا، لقد كان يخشى الأيام، أو هو يخشى نفسه إن مرت عليه الأيام، كان قد وصل إلى قراره هذا بعد تردد، وكان العقل وحده هو الدافع إلى هذا الزواج، كان يريد زواجا مستقرا غير مفزع بأشباح من الماضي، وخيالات من رعونة الشباب.

كان يعلم أن قلبه نافر من زواجه هذا إلى هواه الأول، وكان قلبه الشاب قوي النبض، عنيف الحجة، ولكن استطاع في لحظة أن يضع حول قلبه سياجا من المنطق، فخفت النبض هونا، وانبعث وصفي في غفوة من قلبه يتم الزواج، في اندفاعة خائف، وفي سرعة قلق، وفي عزم حيران.

يصبح الصباح فيندفع وصفي إلى التليفون يطلب إلى العاملة أن تصله بمنزل إسماعيل باشا مصطفى، وبعد هنيهة يكون وصفي على موعد أن يلتقي بالباشا في منزله في الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم ذاته.

وفي الساعة الخامسة يكون وصفي قد أخذ مكانه من إسماعيل باشا مصطفى، والباشا يرحب به في إجلال، فهو يعرفه من زمن بعيد، ويلاحقه كاتبا وسياسيا، ويحمل له في نفسه - إلى جانب الحب - إكبارا، وقد كان وصفي عالما بمكانه من نفس الباشا، ولكن علمه لم يمنع الخجل أن يلعثم لسانه بعض الحين، بعض الحين فقط، ثم سرعان ما جرى الحديث فيما قدر له أن يجري وسرعان ما تحدد موعد الخطبة، وصفي متعجل والباشا مسرور بهذا التعجل، وصفي يخشى أن يطغى عليه قلبه إن تراخى الموعد، والباشا يظن تعجل وصفي عدم صبر عن لقاء عروسه.

والتقت الرغبتان وإن اختلفت البواعث والظنون، وتم الحديث، واستأذن وصفي وخرج، وعند باب المنزل التقى وصفي بأم وديدة تحمل فوق رأسها بقجتها، فحياها تحية عابرة، وانصرف عنها باهتة ذاهلة أن لم يمل وصفي على أذنها ولم يتح لها أن تميل على أذنه.

ركب وصفي عربته وأمر السائق أن يسعى به إلى بيت عمه أحمد باشا، وما أن أتم إصدار أمره حتى صكت حوافر الخيل مسامع أم وديدة وهي في طريقها إلى باب الحريم.

الفصل الخامس

كانت حجرة المكتب في بيت الباشا خالية لا يشغلها إلا كاتب زراعته عبد البديع أفندي الدكر، شاب يفتتح الحلقة الثالثة من عمره، صورة قوية المعالم للفلاح المصري، مغلفا بعادات الريف، لم ينزع من غلافه شيء، لن تخطئ عيناك حقيقته، ولن تخدعك منه هذه الحلة التي يضعها على نفسه كلما اقتضت الأعمال أن يزور الباشا في المدينة؛ فقد شب في القرية، وفي مكتب الباشا، يتلقى عن أبيه أحمد الدكر فنون حساب الدوبيا، ومحاسبة الأنفار، وصرف التقاوي والسماد، وظل بالقرية وبمكتب الباشا عمره جميعه حتى مات أبوه، فتولى هو عمله.

ولم يكن مجيئه هذه المرة في عمل، وإنما جاء ليستأذن الباشا أن يكمل نصف دينه بالزواج من خطيبته التي خطبها له أبوه منذ هو طفل، ومنذ عروسه وليدة، إنها ابنة عمه «محبوبة»، محبوبة العمر كله، كم يشتاق إليها، إلى الزواج بها، وإلى أن تخلو بهما حجرة، ويقفل عليهما رتاج، إنه يحبها، ويخفق قلبه لرؤيتها، وتمور الدماء في عروقه حين يلتقي بها وقد ألقت على رأسها خمارها الأسود، وهو منذ يومين لا يطيق صبرا، فقد رآها في صحن دارها، وقد لبست جلبابها الأحمر الهفهاف الذي لم يكن قد رأى منه إلا طرفه الأقصى حين كان يتدلى تحت جلبابها الأسود، رأى الثوب جميعه، رأى ظهره، ورأى أكمامه وقد انشمرت عن ذراعيها، ذراعيها هي، بل لقد رأى أيضا ساقيها تحيطان بالطست، رأى ذلك جميعه حين ولج بيت عمه الذي كان مفتوحا، رأى «محبوبة» فتملاها مليا، حتى إذا أحس أنها توشك أن تلتفت خلفها سارع عائدا بظهره إلى باب الدار، ومن هناك قال: يا ساتر.

وقامت محبوبة عن الغسيل، ومن وراء باب حجرتها قالت (وهي تدرك من المنادي): من؟ - أنا عبد البديع يا محبوبة، عمي هنا؟ - لا، خرج، اتفضل. - لا، أستأذن أنا؛ سأعود إليه في العشية.

هو منذ تلك اللحظة لا يطيق صبرا، ولولا أن الأعمال كانت متراكمة لركب القطار إلى الباشا لحظة ترك محبوبة، ولكنه صبر نفسه يومين بغير نوم، لقد كانت ساقا محبوبة وذراعاها تطارده في النوم والصحو على السواء، حتى لقد خشي أن يخطئ في الحساب؛ فجاء، جاء منذ الأمس، ولكنه لم يستطع أن يحادث الباشا؛ فقد كان جالسا طوال الوقت إلى ولدي أخويه، فلم يره إلا وهو في طريقه إلى السيارة، ولم يتسع الوقت إلا لأن يسأله الباشا سؤالا عاما عن حال الزراعة، ثم طلب إليه أن يبيت إلى الغد، وبات ليلته في بيت الباشا، وخرج في الفجر ليصليه حاضرا في سيدنا الحسين، وحين عاد كان الباشا قد خرج، ثم ها هو ذا ينتظره وقد اقتربت الساعة من السادسة، وإنه يخشى أن يبيت هذه الليلة أيضا دون عودة إلى القرية، إلى محبوبة.

هكذا كان يفكر عبد البديع حين فتح الباب ودلف إلى الحجرة سليمان، وقام عبد البديع في أدب بالغ، وقد اشتعل في نفسه كره عنيف لسليمان، فقد كان يريد أن يحادث الباشا على انفراد، والآن لم يصبح هذا الانفراد ميسورا، ولكن هذا لم يمنع عبد البديع أن يقول: مرحبا سعادة البك. - أهلا عبد البديع أفندي، لي زمان لم أرك، كيف حالك؟ - الحمد لله يا سعادة البك، أطال الله عمرك! - كيف حال الزراعة عندكم؟ - ماشية يا سعادة البك، بركة الباشا كبيرة. - كم يرمي الفدان؟ - من القطن يا بك؟ - نعم. - خمسة. - فقط؟ - نعمة. - والقمح؟ - من خمسة إلى ستة أرادب. - فقط؟ - نعمة يا سعادة البك، طيب، والله إن أرضنا تنتج أحسن محصول في الجهة. - لا، لا يا عبد البديع أفندي، لا بد أنكم لا تحسنون الخدمة. - يا سعادة البك الحال عندنا لا يقاس بالحال في أوروبا. - ولم لا؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله، هناك أوروبا، وهل أوروبا يا بك مثل العواسجة؟ شتان يا سعادة البك! شتان. - المسألة خدمة أرض فقط، لو خدمت الأرض أعطتك. - إنها أرض عمك وأرضك بجانبها، اوصل لنا في مرة وأرشدنا، ونحن ننفذ أوامرك.

وقبل أن يجيب سليمان، يفتح عم دهب الباب قائلا في لهجته الحازمة: سعادة الباشا.

ويدخل الباشا إلى الحجرة ويسلم على سليمان وعبد البديع أفندي ويقعد، ويقعد سليمان، وينظر الباشا إلى عبد البديع منتظرا أن يخرج، ولكن عبد البديع يقول: سعادة الباشا يسمح لي. - ماذا؟ - كلمة صغيرة، فإني أريد أن أسافر الليلة إن أذن سعادة الباشا.

ويتململ الباشا في كرسيه، وينظر إلى سليمان راجيا أن يفهم ويترك الحجرة، ولكن سليمان لم يتحرك من مكانه، فلم يجد الباشا مفرا آخر الأمر من أن يقول لابن أخيه: اتركنا دقيقة يا سليمان. - أمرك يا عمي.

ويقوم سليمان خارجا حاقدا على عبد البديع أن يخفي عنه سرا، فقد كان يحسب أنه يريد محادثة الباشا في شأن من شئون الزراعة، وقد كان يحب أن يعرف كل شئون الزراعة، زراعة عمه الباشا بالذات.

قال عبد البديع في لجلجة: أطال الله عمرك يا سعادة الباشا وأبقاك! سعادة الباشا يعرف أنني خاطب لابنة عمي محبوبة منذ زمن بعيد.

وقاطعة الباشا: عظيم، عظيم، وتريد أن تتزوج؟ - أطال الله عمرك يا سعادة الباشا. - طيب اكتب أمرا إلى نفسك أن تصرف خمسين جنيها تتزوج بها.

وسمع عبد البديع الرقم فتحجرت عيناه هنيهة، ثم فاض منهما دمع فرحان، فما كان يطمع في غير عشرين، وانكب عبد البديع على يد الباشا متشبثا بها، ملقيا عليه بفمه، ولكن الباشا يختطفها منه في حزم: ماذا جرى يا عبد البديع، متى رأيتني أسمح لأحد أن يقبل يدي؟ أستغفر الله يا ابني، واستغفره أنت أيضا! اذهب يا ابني، أنت ابني، اذهب بارك الله لك في زوجتك وبارك لها فيك!

وقال عبد البديع والدموع تجري على خديه: وبارك لنا فيك يا سعادة الباشا، وأطال عمرك، ولا أرانا فيك سوءا أبدا يا سعادة الباشا!

وخرج عبد البديع ونادى الباشا: يا سليمان، يا سليمان.

ودخل سليمان الحجرة، وتبعه وصفي الذي كان قد وصل لتوه، وجلس كلاهما إلى الباشا وقد غشيهم الصمت، أما الباشا فمفكر في عبد البديع وفي زواجه، مقارنا بينه وبين ابنتيه اللتين تعقدان الزواج تعقيدا يوشك أن ينتهي بهما إلى بوار، ومفكر أيضا في سليمان هذا وفي وصفي، فقد كان يتمنى أن يخطب وصفي إحدى ابنتيه، ولكنه صامت لا يبين عن رغبة، ولا تبدو منه بادرة تفكير، ولو كان يطيق أن يرفض سليمان دون الرجوع إلى ابنته لفعل حتى يضمن بعده عنها، ولكن لا يستطيع، فهو ابن أخيه وإن كان فقيرا، ويخشى أن يرفضه فتغضب الأسرة جميعها، فقد استقر العرف بينهم ألا يكون المال سببا في قبول أحدهم أو رفضه، فكلهم أسرة، وكلهم سواسية، لا يرفع المال واحدا منهم ولا يخفض آخر، ولكن الحمد لله، فإن سهير ترفض وتتمسك بالرفض وما يظنها تقبله أبدا، فإن وجهه هذا - وهو يعلم أنها رأته من وراء الشباك - كفيل بأن يجعلها تزداد تمسكا برفضها له كلما عرض عليها.

وأما سليمان فقد كان يفكر فيما قال عبد البديع أفندي لعمه، وفي الثروة الضخمة التي يشرف عليها هذا العبد عبد البديع، ويتوق في أعماق نفسه أن يشرف هو عليها، آه لو تقبله سهير!

وأما وصفي فقد كان يفكر في الوسيلة التي سيلقي بها إلى عمه خبر خطبته، فقد كان يحب عمه ويقدره، ولا يريده أن يسمع خبر الخطبة من غيره، وكان يعرف أن عمه يريده، لإحدى ابنتيه، جاهلا ما بينه وبين سهير، جاهلا أيضا أن هذا الذي بينه وبين سهير هو نفسه الذي منعه من التقدم للخطبة.

وهكذا صمت ثلاثتهم حتى فتح عبد البديع أفندي الباب وتقدم إلى الباشا في انحناء، مقدما إليه إذن الصرف، ووقع الباشا الإذن بين دعوات عبد البديع أفندي المتلاحقة، والتفت الباشا إلى ولدي أخويه: باركا لعبد البديع أفندي، فإنه سيتزوج.

وهنأ الشابان عبد البديع أفندي الذي شكر لهما تهنئتهما وخرج، ولحق به وصفي إلى خارج الغرفة، وفي البهو انتحى وصفي بعبد البديع ناحية، وأخرج من حافظته عشرة جنيهات أعطاها له، وتأبى عبد البديع هنيهة، ثم قبل الهدية وهو يشكر وصفي ويدعو له!

وعاد وصفي إلى الحجرة، فوجد الصمت لا يزال يأخذ مكانه بين عمه وسليمان، وكان الباشا قد أدرك ما دعا وصفي إلى الخروج، وأراد أن يغمز سليمان فقد كان يريده هو أيضا أن يهدي كاتبه شيئا، أي شيء مهما يكن تافها ليمكن لنفسه احترامها عند الخدم، قال الباشا لوصفي: ما كان لك أن تفعل، فقد أعطيته أنا خمسين جنيها.

وتردد وصفي ثم قال: يا عمي أنا أعرف ذكاءك الخارق، ولكني ما كنت أحسب أنك تعرف الغيب أيضا. - لا غيب ولا حاضر، لم يكن هناك ما يدعو لخروجك إلا هذا، وأنا أعرف عنك أيضا أنك كثير العطاء، وسع الله عليك يا ابني!

ولم يشعر سليمان بغمزة عمه، وإنما شعر بحقده يزداد على عبد البديع لزواجه، ولنيله هذه الأموال فوق ما ينهبه من الزراعة، وشعر بحقده على وصفي يزداد أيضا لغناه، ولأنه استطاع بهذا الغني أن ينال هذا الدعاء الجميل من عمه، كما استطاع من قبل بغناه ومركزه أن يكون المرشح الأول في إشاعات الأسرة للزواج من سهير.

وانتهز وصفي الفرصة السانحة من الحديث عن الزواج وقال لعمه: وأنا يا عمي سأتزوج عن قريب.

ودهش الباشا، وتسارعت الدقات بين ضلوع سليمان.

ليس هذا أسلوبا يخطب به الفتى الفتاة إلى أبيها، ولم يكن الباشا يقدر أن وصفي سيخطب غير واحدة من ابنتيه، وانتفض قلب سليمان ذعرا متخيلا أن وصفي سيخطب سهير، ولم يتح وصفي لهذه المشاعر أن تبلغ مداها، بل سارع قائلا: لقد خطبت اليوم هند بنت إسماعيل باشا مصطفى.

وتمالك الباشا نفسه في سرعة قادرة مرن عليها في مجالات السياسة والحياة، وقال: مبروك.

ولم يستطع أن يزيد، بل لم يستطع أن يشفع التهنئة بابتسامة، أي ابتسامة مهما تكن باهتة، قالها مبروك، بريئة من كل فرح، مجردة من كل معنى للتهنئة، أما سليمان فقد جاهد نفسه أن يخفي فرحته وأطلق: مبروك.

تحمل سرورا عاتيا راقصا، ولكنها مع ذلك لم تكن تحمل كل ما في نفسه من سرور.

وأحس وصفي راحة إلى إلقاء هذا النبأ، راحة الحيران التائه يصل إلى مستقر، مهما يكن هذا المستقر مخالفا لما كان يتمنى، ولكنه مستقر على أية حال! أحس أنه أتم عزمه، وتغلب على قلبه، وأطمأن إلى مستقبله في ظلال بيت هادئ لا تدور فيه أعاصير الهوى، وإن كان يتمنى أن تترقرق فيه نسمات من الحب الناعم، تنمو ولا تذوي، وتكبر مع الزمن، ولكن في هدوء ووقار وإيناس.

ولم يلبث وصفي كثيرا، فقد أحس بالصدمة التي يعانيها عمه من خيبة الأمل، وبالفرح الذي يعاني سليمان في كتمانه أن أمله قد يتحقق.

وما إن بلغ وصفي الباب الكبير، حتى التقى هناك مرة ثانية في يومه هذا بأم وديدة ذاهلة حائرة، تتخفى منه في بقجتها، وتميل عن طريقه في ازورار، وأحس وصفي في أعماق نفسه كرها لأم وديدة، كرها شديدا لم يعرفه لأحد من قبل، إنها هي، هي وحدها التي فرقت بينه وبين هواه، إنها هي التي وضعت هذا الحائل بينه وبين سهير.

وأدرك وصفي أن النبأ في طريقه إلى سهير مع بقجة أم وديدة، وأحس حينئذ أن سهير ستحس هذا البغض نفسه نحو أم وديدة، وأحس فؤاده يختلج في صدره خلجة الطير الجريح، إنه سيجتمع هو وسهير على كره أم وديدة في وقت معا، كما اجتمع هو وسهير على حب أم وديدة في وقت معا.

الفصل السادس

صعدت أم وديدة إلى الطابق الأعلى، وهناك لقيتها الأسرة جميعها بالترحاب، وبخاصة سهير التي راحت تدور حولها في فرحة نشوانة، يبتعثها في نفسها هذا اللقاء الذي مهدت له أم وديدة في أمسهم الذاهب، ولم يكن فرح سميحة أخت سهير بأقل من فرح أختها بأم وديدة، فقد طالما كانت تهمس أم وديدة لسميحة أن أختها الكبرى ستتزوج عما قريب، وعما قريب ستلحق هي بها وتتزوج من فتى أحلامها سامي، الذي لا يمنعه عن طلبها إلا أن أختها الكبرى لم تتزوج بعد، ولم يكن فرح الأم بأقل من فرح البنتين، فقد كانت أم وديدة تقرأ لها الفنجان، وتطمئنها أن فرحين لا واحدا سيقامان عما قريب، بعد نقط ثلاث فقط، في القصر، فيطمئن مضطربها القلق، ويهدأ ثائرها المفزع دائما بتلك القالة التي تشيعها أخوات بناتها من زوجة الباشا الأولى، من سهير وسميحة ستظلان عانستين بلا زواج.

راحت البنتان تتواثبان حول أم وديدة، جاعلتين السبب الظاهر لفرحتيهما أنها قد جاءت لهما بما طلبته كل منهما في الأمس من ملابس وأقمشة.

واستقبلتها السيدة تفيدة في فرح هادئ شاع في وجهها كله، وأطل من عينيها الطيبتين، ومن صوتها وهي تقول بعد أن صفقت بيديها: يا بنت هاتي القهوة.

وواجهت أم وديدة هذا الاستقبال الفرحان بوجمة حزينة، ووجه شاحب كالثلج، وعقل مذهوب، وقد وضحت آلامها جميعا في صوتها وهي تقول: اعملي القهوة سادة يا نبوية.

واكفهر وجه الست الكبيرة وقالت: لماذا يا أم وديدة كفى الله الشر؟! - والله يا ستي كنت عند جماعة وسمعت - ويا شوم ما سمعت - حكاية - بعيد عنك - ومن ساعتها وأنا مخي داير وربنا يستر. - خير يا أم وديدة؟

وانطفأت الفرحة عن وجوه الأسرة جميعها، وارتمت الفتاتان إلى الأرض بجانب أم وديدة، واشرأبت إليها رأساهما، وجف فمهما، فما تطيقان كلاما، وما تطيقان صمتا. - خير يا أم وديدة؟ - والله يا ستات لا خير أبدا، لا إله إلا الله.

وقالت الست تفيدة: يا أختي قولي، نشفت ريقنا.

وخلست أم وديدة نظرة إلى سهير، ثم أطرقت وصعدت تنهيدة عميقة، وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله، كان بودي يا ستي سهير أن يحمل غيري الخبر، ولكن لا عليك يا ابنتي، غيره أحسن منه.

وحملقت عينا سهير في أم وديدة، وأوشكت أن تصرخ «وصفي» ولكن أمسك بلسانها وجود أمها وأختها، وأمسك بها استدراك أم وديدة السريع بصوت رفعته حتى يطغى على ما قد يبدر من سهير: وصفي يا ستي الكبيرة، سيدي وصفي بك.

ودقت السيدة الكبيرة صدرها وهي تقول: ما له يا أم وديدة؟ ما له وصفي؟

وقفزت سميحة واقفة ذاهلة: ما لوصفي يا أم وديدة؟

وبقيت سهير مكانها وكأنها تعرف أن وصفي بخير، وكأن الأمر لا يعنيها، فهي مطرقة تشتعل نفسها بنيران من الغيظ والألم والحسرة والكبر ذل من بعد كبر، والكرامة أهينت من بعد كرامة.

واستطردت أم وديدة: خطب يا ستي الكبيرة، خطب هند بنت إسماعيل باشا مصطفى.

وتمالكت الست الكبيرة نفسها في كبر وهي تقول: وما له؟

وحاولت سميحة أن تقلدها وهي تقول: آه، وما له؟

وقامت سهير إلى حجرتها في هدوء وبطء وفي وجوم، فكأنما وجهها قد من صخر فهو قاتم لا يبين عما يسده في نفسها من ثورات، حتى إذا خلت بحجرتها أقفلت الباب وأحكمت رتاجه، ثم ارتمت على السرير، شعلة لا تريد أن تخفف وقودها بماء، وإن كان هذا الماء دمعا، لا، وإن كان هذا الماء دما، إنها تريد شعلة نفسها أن تظل مشتعلة تحرق وتحرق، وإن يكن الوقود نفسها، وإن يكن الوقود حياتها، ارتمت على السرير وألقت بوجهها إلى الجدار الصلب، لا تذرف دمعة، ولا تفكر في شيء غير أمس عند القارب، وغير الأمسيات التي سبقت الأمس هناك، حيث قتلت كرامتها، وأهدرت كبرها، ولم تنل حبا لقاء كرامة، ولا وفاء لقاء كبر، فلتلتهب نيران الشعلة، ولتكن نفسها الوقود، وما النفس بلا كرامة، وبلا كبر، وبلا حب، وبلا وفاء.

لقد أدركت أن الذي قضى على مستقبلها هو لقاؤها بوصفي، مهما يكن لقاء بريئا، لقد كانت تعرف وصفي رجلا متشبثا بالتقاليد، يقدسها ويدافع عنها، ألم تكن تقرأ له مقالاته التي يعارض بها من يطالبون برفع الحجاب، أما كان هذا رادعا لها أن تلتقي به، ولكن هي أم وديدة أوحت إليها أن لقاء سيتم بينها وبين من تحب. وهيأت لها أنه أمر ميسور، فانصاعت في سذاجة الهوى، وفي رعونة الشباب الأولى.

صامتة سهير لا تبكي ولكن تشتعل وتحترق بلا نور من الشعلة، ولا بصيص من ضياء يبعثه الحريق، حريق أسود داكن كآمالها، كمستقبلها، كماضيها، كحياتها جميعا.

وطرق الباب فقامت إليه لم تسأل الطارق من هو وما يريد، وانفرج الباب عن سميحة التي دخلت صامتة وأقفلت الباب من خلفها، وسارت مع أختها إلى السرير، وعادت سهير إلى استلقائها، وجلست سميحة بجانبها: لا عليك يا ...

ولم تكمل سميحة الجملة، فقد كانت تدرك أن آمال سهير معلقة بوصفي، وقد كانت العائلة جميعها تذكي هذه الآمال بما تطلقه من شائعات وأقاويل، كانت تدرك ذلك، ولكنها كانت تجهل مواعيد أم وديدة ولقاء الأمسيات، لم تكمل سميحة الجملة، فقد وجدتها سخيفة لا تفيد شيئا، ولم تجد شيئا تفوته غير دمعات فاضت صامتة أول الأمر، ثم انفجرت عن بكاء ونشيج، راحت سميحة تكتمه بالوسادة، وقد ألقت وجهها إليها، وسهير صامتة لا تتكلم، وكأنما هي وحدها في الغرفة بلا بكاء جازع حزين قد ألقيت أختها في غمرته، وطرق الباب مرة أخرى وانفتح عن أم وديدة تقول: ستي سهير.

ولم تزد سهير على أن تقول: مع السلامة يا أم وديدة.

وعادت أم وديدة في نغمة توشك أن تكون نغمة نصح: يا ستي سهير ...

ولم تكمل لفظ سهير، فقد قاطعتها سهير في صوت حازم يحمل مقتا ويحمل أمرا: مع السلامة يا أم وديدة.

وأقفلت أم وديدة الباب وانصرفت، وخلت الحجرة بالأختين مرة أخرى، ولكن سهير تريد أن تنفرد بنفسها، فهي تقول لأختها: اذهبي إلى حجرتك يا سميحة، أريد أن أنام. - ومن سيلبس أبي حين يعود؟

وقالت سهير في تصميم: أنا طبعا، سأصحو قبل عودته، اذهبي إلى حجرتك.

وفهمت سميحة أن أختها تريد أن تخلو إلى نفسها، فقامت وتركت لها وحدتها.

عاد الباشا متأخرا بادي التعب، وأحست سهير وقع أقدامه في البهو، فقامت إليه جامدة محاذرة أن تلتقي عيناه بعينيها، ودخلت معه حجرته ووقفت وراءه لتخلع عنه سترته.

وقال الباشا وهو يخلع ملابسه: لا أدري يا سهير لماذا أحس بتعب الليلة؟ - لعلك تحتاج إلى النوم يا أبي، أبي.

وقال الأب في إشفاق: نعم يا بنتي. - ماذا كان سليمان يعمل عندك اليوم؟

وأدرك الباشا ما يهفو إليه حديثها، ولكن لم يستطع أن يميل بالموضوع إلى آخر، فهو يقول متظاهرا بعدم الاهتمام: إنه يجيء كل يوم يا بنتي. - نعم أعرف!

وأدرك الباشا أنه لا بد له أن يلاقي الأمر مواجهة، فسكت حتى لبس جلبابه، وقعد على الأريكة، ثم نظر مليا إلى وجه ابنته وقال لها: أتعرفين ما تريدين يا سهير؟

وقالت سهير: تمام المعرفة يا أبي. - لعلك غاضبة الليلة من أمر ما، فيحسن أن تتروي في الأمر، وتفكري فيه وأنت بعيدة عن الغضب لحظة، إنها حياتك يا سهير، حياتك كلها. - أبي، إذا كنت أنت لا تريدني أن أتزوج من سليمان فأمرك، ولا أخرج عن أمرك، أما أنا ... أما أنا ...

وجمعت كل قواها الباقية لتكمل الجملة قائلة: أما أنا فأقبله يا أبي. - أواثقة أنت يا سهير؟ - كل الثقة يا أبي، إني أقبله.

وكان الباشا صادقا مع نفسه، وصادقا مع قومه، لقد قبلت ابنته الزواج من سليمان، ولا بد له أن يوافق، فهو ابن أخيه ولا يستطيع أن يرفضه، وقد كان أمله الوحيد في الرفض معلقا بابنته، ولكن ها هي ذي تقبل، فماذا بقي له؟ إنها حياتها، وهي فيها حرة، ويل لها من الأيام، أيكون سليمان زوجا لابنتي هذه؟ ويل لها من الأيام!

الفصل السابع

أصبح الصباح على الباشا، فإذا بوعكة الأمس تصبح مرضا، فهو لا يطيق أن يبرح فراشه، وجاء الأطباء واجتمعوا حول سرير الباشا وقرروا ألا يبرحه لمدة شهر على الأقل، ووصفوا له العلاج وخرجوا، وانشغل المنزل جميعه بمرض الباشا، ونسيت السيدة تفيدة في غمرة علاج الباشا ما كان بالأمس من خطبة وصفي، وانشغلت سميحة بأبيها أيضا، أما سهير فقد راحت تنفذ أوامر الأطباء في صرامة قاسية، باذلة أقصى جهدها في خدمة أبيها، ولكن دون أن تنسى، وكيف لها أن تنسى؟!

ومرت أيام والدار مقصد زوار لا ينقطع لهم سيل، فأما في الدور الأعلى فسيدات الأسرة حزنهن حزنان، حزن لمرض الباشا، وحزن يظهرنه - وإن لم يتمكن في نفوسهن - لخطبة وصفي لغير سهير.

وكانت بنات الباشا الكبيرات مع الزائرات، وإن كن يطلن من أمد الزيارة، وقد يطيب لإحداهن أن تغيظ زوج أبيها، فتبيت ليلة أو أكثر من ليلة في قصر أبيها، وكن إذا جلسن إلى زوج أبيهن أبدين أسفا لمرض أبيهن، وأسفا آخر مستترا بالحديث الملفوف لخطبة وصفي، مبديات انشغالهن على مصير أختيهن، حتى إذا خلت بهن حجرة، راحت كل منهن تبدي سخريتها المرحة لما أصاب القصر من مصائب ، مرددات أن هذه المصائب إنما هي ذنب أمهن المسكينة التي تزوج أبوهن عليها دون ذنب أو جريرة، ولكن هذا لم يمنعهن أن يشفقن على أبيهن، وأن يتمنين له الشفاء.

وأما الدور الأسفل فقد كان يحفل بالرجال، لا يصعد أحد منهم إلى الدور الأعلى، فإن الباشا كان لا يلقى أحدا، وأحد لا يستطيع أن يصعد إلى الدور الأعلى ما دام الباشا لا يلقاه، فما تلقى السيدة إلا إخوتها هي دون إخوة الباشا، فهم لا يصعدون، وإنما يمكثون بالدور الأول يتعرفون الأخبار من الأطباء حين نزولهم، ويلقون الزوار ويشكرون زيارتهم، كان رجال الأسرة جميعهم يلتقون بالدور الأول ويظلون به الساعات، لا فارق ثمة بين إخوة الباشا وأبناء إخوته وبين غيرهم من أفراد الأسرة، فالجميع له إخوة وأبناء إخوة.

وكان وصفي وسليمان على حالهما من المواظبة، يظلان بالقصر ما اتسع لهما الوقت، وكانت خطبة وصفي قد عرفت في مجال الأسرة، فراحت التهنئات تترى إليه، ولكنها تهنئات ذاهلة، أذهلها إخلاف الخطبة لظنونهم، وأذهلها انتظام وصفي في المجيء إلى دار عمه رغم خطبته، وكانت تهنئات واجمة أيضا؛ فقد كان مرض الباشا يخيفهم جميعا.

لم يكن سليمان يعلم ما جرت به الأمور بعد خطبة وصفي، ومن أين له أن يعلم؟! ولكن آماله كانت قد تضخمت، فهو أكثر رفعا للكلفة في القصر، وهو من يجلس في الشرفة الخارجية ليكون أول مستقبل للزوار، وهو من يودع الزائر حتى عربته أو سيارته.

وتحسنت صحة الباشا، واستطاع أن ينتقل من السرير إلى الأريكة دون أن يبرح الغرفة، واستطاع أن يلقى إخوته بين حين وحين، على أن يتباعد ما بين الحين والحين، واستطاع أيضا أن يذكر آخر حديث له مع سهير قبيل مرضه، وأن يذكر أن الحديث قد مرت عليه أسابيع، فهو ينتهز فرصة تخلو به الغرفة وبابنته فيسألها: هيه يا سهير، أمصممة أنت على قبولك لسليمان؟ - نعم يا أبي. - أواثقة أن هذه رغبتك بلا أي تأثير؟ - نعم يا أبي. - شأنك يا ابنتي، ولكن اذكري حياتك كلها أنك أنت من اخترت ، فإذا مت فاذكري أني سألتك رأيك، وألححت في السؤال، أنت وحدك المسئولة عن حياتك منذ هذه اللحظة. - أطال الله عمرك يا أبي! - على بركة الله!

وعلم الباشا أن سليمان بالقصر، فأمر أن يخلى الطريق إلى حجرته من الحريم، وأن يصعد سليمان إليه.

وقصد سليمان إلى عمه الذي استقبله في محاولة هزيلة للبشر، وقال له: مبروك يا سليمان، مبروك عليك سهير يا ابني.

وهوى سليمان على يد عمه يقبلها، فتركها له الباشا، فهي قبلة ابن اختار يد أبيه موضعا لها، وقال الباشا لسليمان وهو لا يزال مكبا على يده: يا ابني الشكر يكون بمعاملتها هي معاملة ترضيني، ترضيني وأنا في قبري، إنها ابنتي، قطعة مني، وهي أحب بناتي إلي، أحبها هي، أحبها هي يا سليمان، فهي - بغير كل ما حولها من مال وجاه - جديرة بالحب، والله على ما أقول شهيد، أكرمها يا سليمان تكرم أباك وعمك.

ولم يقل سليمان شيئا في غمرة فرحته إلا جملة واحدة ظلت تتردد على لسانه، دون أن يفكر فيها، ودون أن يجد لها في نفسه صدى: أطال الله عمرك يا عمي! أطال الله عمرك يا عمي!

لم يكن تفكيره في الثروة التي انهملت عليه ليسمح له أن يفكر في شيء آخر، ولم يكن ليسمح له أيضا أن يستمع إلى كلام عمه حتى يفهمه، وإنما هي جملة تعلقت بلسانه، فراح لسانه يرددها وكأنها أسطوانة وضعت على حاك خرب.

الفصل الثامن

كانت الأيام التالية أيام أفراح، أو هي إن شئت الحق الخالص أيام زيجات، فقد تزوج عبد البديع من محبوبة، وقد كانت هذه هي أولى الزيجات، وقد كانت ناحية الأفراح فيها مترعة خالصة لا يشوبها إلا الهناء والسعادة.

فقد عاد عبد البديع إلى القرية وبلغها في الهزيع الأخير من الليل، فما رده التأخير أن يقصد إلى بيت عمه، وطرق الباب في شيء من التهيب ولكن في إصرار، وجاءه صوت عمه جازعا غاضبا بعض الغضب من هذه اليد العابثة التي تطرق عليه الباب في بهيم الليل، فهو يثوب من نومه العميق: من؟ - أنا عبد البديع يا عم، لا مؤاخذة. - خير يا ابني. - خير وكل الخير يا عم، افتح.

وقال العم وهو يفتح الباب غير مطيق أن يفتح عينيه: يا ابني الصباح رباح، خير، متى جئت من مصر؟ - الآن يا عم، الآن. - وكيف حال الباشا؟ عسى الله أن يكون بخير! - بخير يا عم الحمد لله، أبقاه الله لنا ومد في عمره!

وراح عبد البديع يقص على عمه الخير الذي سكبه عليه الباشا وابن أخيه وصفي بك، ولم يفته أن يذكر جمود سليمان، واتفق عبد البديع مع عمه على أن يكون الفرح بعد أسبوع، وأن يكون المهر ثلاثين جنيها، بدلا من العشرين التي كان متفقا عليها.

ولكن الصباح أقبل عليهم بمرض الباشا فتأجل الزواج، وجعل موعده شفاء الباشا، حتى يكون الفرح فرحين، وظل عبد البديع يتعجل هذا الشفاء حتى علم به وعلم بخطبة سهير هانم إلى سليمان بك، ففرح بخبر الشفاء فرحا غامرا، وإن اعترضت غمرته غصة بهذا الزوج الذي اختاره الباشا لابنته، ولكنه سرعان ما قال في نفسه: «أطال الله لنا عمر الباشا! ما لنا نحن ولسليمان».

وأقيم فرح عبد البديع وخلت الحجرة به وبزوجته وارتاح المضنى إلى المضنى بها، وهدأ اللاعج المستعر من هوى شب على السنين الطوال، وازداد أجيجه من نظرة عارضة عجلت بالزواج، وانصرف الجمع الذي ظل ملازما لباب الحجرة، يعلو خواره وتنشق حناجره عن أصوات مرتفعة تريد أن تلتهم في هديرها تلك الصرخة التي تودع بها الفتاة عهد العذارى.

خلت الحجرة بالزوجين وبدأت بهما حياة جديدة، جديدة عليهما، قديمة على العالمين منذ بدء العالمين.

وفي القاهرة، وفي ذلك القصر المطل على النيل، كانت العدة تعد لفرح آخر؟ ولكن أهو فرح؟ أيحمل من معنى هذه الكلمة شيئا؟ على كل حال هو زواج دعي إلى شهود حفله قوم كثيرون، هم خيرة أبناء مصر وقادتها، وسيحيي ليلته خير المغنين، بمبة كشر عند الحريم، وعبد اللطيف البنا عند الرجال، فهو فرح إذن! ولكن العروس، مصدر هذا الفرح وسببه، حزينة لا تعبأ من أمر هذا الفرح بشيء، وإنما هي جامدة لا تتحرك خلجات وجهها عن نأمة من بشر أو سرور، تسألها أمها عما تريد فتترك لها الأمر جميعه، لا تريد أن تساهم فيه بأكثر من تلك الموافقة التي قسرت نفسها عليها قسرا، ويسألها أبوها عن طلباتها فلا تزيد على الدعاء له بطول العمر، دعاء صادقا من عميق قلبها، وإن يكن صدقه هذا يخفي مشاعر أخرى لا تبين عنها لأبيها، كانت سهير لا تريد أن تشارك في هذا الجرم الذي تقترفه نكاية بنفسها أكثر مما ساهمت، فبحسبها إعناتا لنفسها وانتقاما أنها وافقت على الزواج من سليمان، أما أن تشارك في تجهيز نفسها لهذا الزواج، فهذا ما لا تطيق أن تفعل، لقد استنفدت جهدها جميعا لتقول لأبيها إنها تقبل هذا الزواج، ولم تبق منها بقية تجهز بها له.

وكانت الأم تعرف ما يعتلج بنفس ابنتها، ولكنها تكتم علمها ذاك فلا تبين عنه، فهي تخشى أن تشمت بها بنات زوجها، وهي تخشى أن تنكأ في نفس ابنتها جرحا تعرف أنه يسيل، وترجو من الزمان أن يرقأ دماءه المسفوحة، فهي صامتة تلهي نفسها بالشراء والإشراف على شأن الزواج وحفله، ولكن هذا الشراء وهذا الإشراف لا يمهدان لها وقتا طويلا، فقد تم الاتفاق على أن يقيم سليمان مع زوجته في قصر أبيها الباشا، فالأمر لم يعد محتاجا لغير أثاث حجرة نوم واحدة تستبدل بالقديم الذي كانت تنام فيه سهير، والشيء الوحيد الذي طلبته سهير هو ألا يباع أثاث حجرتها القديم، وألا يبارح الطابق الأعلى أو القاهرة إلى منزل الريف، طلبت ذلك ولم تبد لطلبها سببا، وأجيبت إلى طلبها دون أن تسأل عن السبب، لقد شهدت هذه الحجرة أسعد أيامها، وهي تريدها أن تبقى قطعة من سعادتها الذاهبة.

لم تكثر الأم إذن من الشراء، إنما هو أثاث حجرة واحدة فخم وضعته بدلا من أثاث حجرة سهير القديم، وابتسمت لسهير، وهي تقول: أما أثاث حجرتك القديم فهو كما طلبت، سيظل هنا معنا في هذا الدور، سأجعله في الحجرة المجاورة لك ينتظر الأولاد.

وذعرت سهير، الأولاد؟! وهل ستأتي بأولاد أيضا، نسيت سهير أن الزواج في غالب أمره ينتج الأولاد، الأولاد، أولاد منها ومن سليمان، لم تفكر في هذا الأمر إلا حين ذكرته أمها، وقد ظلت بعد ذلك ليالي تفكر في هذه الكارثة الجديدة التي ستصاحب ما وقع، وما أوقعته هي على نفسها من كوارث، وأوشكت، بل وهمت أن تقول لأمها ارفضوا الزواج، ولكن منعها خوف راعد، خافت الصدمة التي سيصاب بها أبوها إن هي قالت «لا» بعد «نعم»، وخافت أن يرغمها أبوها على الزواج إرغاما، وقد كان خليقا أن يفعل، فهو لا يقبل أن تمس كرامته بسوء وإن كلفه هذا حياة ابنته جميعها، وخافت أيضا أن تطفئ هذه الفرحة الغامرة التي تمرح أختها سميحة في أسكوبها، مظهرة أنها فرحة من أجل أختها، وقد غبيت أن أختها تعرف تماما بأمر حبها لسامي وحب سامي لها وانتظارهما زواجها هي ليتزوجا هما أيضا.

لم تكن «لا» إذن ذات فائدة، فقد فات حينها، بل إنها كانت خليقة أن تجعل الزواج يتم في ظلال قاتمة من الإرغام والقهر والزجر والتهديد، بدلا من إتمامه في ظلال من العطف والإشفاق والحدب والحب، نعم، فقد كان البيت الذي يتهيأ للزواج الجديد، مغمورا بهذه الظلال من العطف والإشفاق والحدب والحب، وهي ظلال كما ترى خالية من الفرح كل الخلو، فهي ظلال بلا إشراق، كان القصر المقبل على الزواج بعيدا عن الفرح كل البعد، ولم تجد الزغرودة التي كانت تطلقها بعض الخادمات من حين إلى حين، عندما يقبل العريس وينتظر عمه في الدور الأسفل، أو عندما تقبل قطعة من أثاث جديد أو قماش أو فستان للعروس، لا ولم تجد تلك الضحكة العريضة التي كانت تضعها الأم على شفتيها، لا ولم تجد هذه الرقة الحنون التي كان يصطنعها الأب كلما حادث ابنته العروس، بل ولم تجد الفرحة الحقة التي كانت تعيش سميحة في أنغامها، لم يجد شيء من ذلك في إشاعة قبسة من فرح في هذه الظلال التي كانت تسود القصر الذي يتهيأ للزواج الجديد، وإن تكن الظلال مسكوبة من عطف وإشفاق وحدب وحب، إلا أنها ظلال أبدا لم تعرف ومضة الفرح.

ومع ذلك جاء اليوم الموعود، وسمي اليوم يوم الفرح، واستقبل الأب اليوم أشد ما يكون إشفاقا وضيقا؛ فقد كان يعلم تماما ما تقاسيه ابنته، حتى لقد كان يوشك أن يقتل ابن أخيه هذا، كان يرى فيه جلاد ابنته الذي اختارته هي لنفسها في لحظة انهدمت فيها آمالها، لم يكن لفقر سليمان أي أثر في ضيق الباشا به، فهو ابن أخيه، وقد كان أخوه حبيبا إلى نفسه، ولقد طالما نهاه عن السرف والقمار والمضاربة ولكنه لم يستمع، بل أنه كان في كثير من الأحايين يدفع عنه ديونه وإن تضخمت ليبقي عليه أرضه، ولكنه لم يكن لينتهي حتى أنهى ماله جميعا وأتى عليه، فلم تبق منه إلا أوشال ضئيلة لا تعدو ثلاثين فدانا ملاصقة لأرض الباشا، ومع ذلك فقد كان الباشا يحبه، وظل يرعى ولده بعد وفاته حتى عاد من أوروبا، وكم كان الباشا يتمنى أن يكون سليمان على خلق سوي، وترفع عن الدنايا واعتزاز بالنفس، ولكن سليمان لم يكن، كان كل شيء إلا خلقا سويا أو ترفعا أو اعتزازا، كان هينا، هينا على نفسه، فرآه الناس أهون، وكان دنيئا لا يعرف السمو، وكان ذليلا يطلب الأمر اليسير فيبذل في سبيله كل كرامة، حتى لم تبق له كرامة، لا يعف عن قول خسيس، ولا تمتد آماله إلا إلى توافه الأمور بلا طموح، أكبر آماله هي تلك التي ينالها الآن، زواج من ثروة، وركون إلى هذه الثروة، واستزادة لها دون أن يفكر حتى فيما سيتمتع به في ظلال هذه الثروة.

كان الباشا يعرف هذا جميعه عن سليمان، فهو ضيق به أشد الضيق، لا يفكر في فقره، فقد كان يعلم أن غنى ابنته كفيل أن يضمن لها ولزوجها حياة ميسورة، ولكن زوجها نفسه بما فيه من خلق، أو بما ليس فيه من خلق، ما يضيق به الباشا، ولكن ماذا يفعل؟ لقد تم الأمر وحل اليوم، ولات حين رجوع.

أقبل سليمان على قصر الباشا في الصباح من يوم الفرح، واستقبله الخدم في إجلال صامت، وصعد خبر مجيئه إلى الباشا، وانطلقت زغرودة أعقبها صمت، وظل سليمان منتظرا عمه متوفز الأعصاب، يدعو الله في نفسه أن يتم هذا اليوم على خير، الكتاب فقط يا رب، الكتاب على خير يا رب، ولا أريد غير هذا منك يا رب، إنه كل ما أطلبه منك يا رب، لن أطلب منك بعد اليوم شيئا يا رب.

وكأن الله يضيره أن يطلب هذا السليمان شيئا، أو كأنه يخادع ربه ويمنيه أن يريحه بعد ذلك من طلباته، أو لعله كان لا يدري ما يفعل، أو ما يقول فظل يدعو ربه في إلحاح تعوده مع عبيد الله، فلا حرج عليه إن هو بذله عند المولى.

ولم يطل به الدعاء، فقد نزل عمه متجهم الوجه وإن حاول أن يبقي على وجهه بعض البشاشة: صباح الخير يا سليمان.

وأقبل سليمان على يد عمه فقبلها: صباح الخير يا عمي.

وجلس الباشا، وجلس سليمان، ومرت فترة صمت، ثم قال الباشا: سليمان، هل أعددت المهر؟

وأخذ سليمان لحظة ثم تلعثم وهو يقول: نعم ... نعم، نعم يا عمي. - كم ستدفع؟ - أمرك يا عمي. - لا بل أمرك أنت، إني أريد أن تدفع شيئا مهما يكن قليلا، حتى أحس أنك أجهدت نفسك لتنال أملك. - والله ... والله ... - اسمع يا سليمان، إنني أعددت لك هذا المبلغ.

وأخرج الباشا من جيبه ظرفا منتفخا، وأكمل حديثه: ألفان من الجنيهات.

واتسعت حدقتا سليمان، وفغر فاه، واستعصى ريقه على البلع، حتى ليكاد يسيل، وأكمل الباشا حديثه: ستدفع منها ألفا هي المهر، وأعطيك الألف الأخرى لك لتظهر أمام زوجتك في الشهور الأولى مظهرا يرضي كرامتها، ويشعرها أنها تزوجت من رجل يريدها هي ولا يريد مالها، هذا المبلغ كبير يا سليمان كما ترى. فأكرم به نفسك أمام زوجتك، ولكني أريد أن تكتب لي كمبيالة بخمسمائة جنيه، هذا هو المبلغ الذي أريدك أن تقدمه لي مهرا، وأما بقية الألفين ، فإنه هدية مني لك لمناسبة زواجك.

وهب سليمان إلى يد عمه وانكب عليها يريد أن يقبلها، ولكن الباشا سارع فجذب يده وهو يقول: لا، لا يا سليمان، في هذه المرة لا، لا تقبل يدي لأنني أعطيتك نقودا.

وأخذ سليمان المال، وانحط على كرسيه، ولم ينظر إلى عمه، ولو فعل لرأى وجها ينكره، لو فعل لرأى وجه عمه الذي كان يحاول أن يكسوه بالبشاشة، وقد انقلب إلى وجه حزين كسيف جازع مليء بالكره والاحتقار، لقد فعل الباشا ما فعل، وكان يتمنى أن يتأبى سليمان أو يظهر بعض التمنع، أو يعرض أن يكتب كمبيالة بالمبلغ جميعه، أو يظهر بأي مظهر فيه بعض كبرياء، أو بعض رجولة، أو بعض خلق، أما أن ينكب على يده كما فعل عبد البديع فواضيعتا لك يا سهير!

أحس الباشا الألم الذي أمرضه يعوده، ولكنه جاهد نفسه، ولم يبن عنه، وقام تاركا القصر جميعه، ومن ورائه ابن أخيه، وحين حاول أن يركب معه سيارته قال له: لا أظن طريقنا واحدا.

ثم أمر سائقه فسار، وأخذ سليمان وجهته إلى داره ليبشر أمه بما سكبه عليه عمه، دون أن يشعر بما يكنه له عمه هذا، ودون حتى أن يشعر بما في رد عمه له عن ركوب السيارة من كراهية واحتقار.

وكان الفرح الثالث هو زواج وصفي، وقد كان هذا الزواج محوطا بشيء كثير من الفرح، فأهل هند في فرح غامر يعدون للزواج والسعادة تغمر نفوسهم، وكانت هند ذاتها سعيدة غاية السعادة، سعيدة لأنها ستتزوج، وقد شبت وهي تسمع أن الزواج معناه فرح، فهي لا تعطي فقيرا إلا دعا لها بالزواج والفرح، وهي لا تجلس إلى أمها إلا رأتها تتمنى لها زواجا من رجل عظيم لتقيم لها فرحا تتحدث عنه إلى أولادها وأولاد أولادها، وهي لا تجلس إلى زائرات إلا دعون لها بالزواج والفرح، وها هي ذي تتزوج، ومن رجل عظيم مشهور طالما سمعت عنه من أبيها ومن أعمامها وأخوالها، وهو ابن باشا وغني، ويقولون إنه جميل كالأمير الذي تروى عنه الأقاصيص، والذي تشهده في التمثيل حين تصحبها أمها إلى التمثيل في يوم السيدات.

ها هي ذي تتزوج إذن، وها هو ذا الفرح يعد له إعدادا ضخما رائعا، فهي إذن فرحانة، يبارك أبوها فرحتها وتنتشي بها أمها.

وكانت السيدة إجلال سعيدة أيضا بزواج ابنها؛ فهي زيجة طالما تمنتها وسعت إليها.

الوحيد الذي انشغل عن أن يفرح هو وصفي، وقد أراد لنفسه أن ينشغل، لا يريد أن يفكر في هذا الزواج ولا يريد أن يعرف حقيقة شعوره نحوه، إنه زواج فقط، بلا مشاعر حوله من ضيق أو فرح أو أمل أو ألم، إنه زواج يتم في حياته كجزء من طريق حياته لا بد له أن يقطعه، فهو لا يستقبله بشعور معين، وإنما هو يشغل نفسه بالسياسة، ويندفع في غمارها يريد منها أن يحقق أمله في الجهاد، ويريد أيضا أن تشغله عن تفكير آخر، وعن زواج آخر، لم يعد يريد أن يذكره أو يذكر صاحبته ... سهير.

الفصل التاسع

أقيم فرح سهير الحزينة، فكان على أروع ما أريد له أن يكون، وطرب الزوار وانتشوا بالغناء، فكانوا هم ومعهم سليمان وسميحة رمز الفرح في القصر.

كان سليمان فرحا يغشى فرحه بعض اضطراب، فهو إن يكن قد ربط جأشه وسكن مضطربه بعد كتابة عقد الزواج، إلا أنه عاد لنفسه يسألها: ماذا هو قائل في ليلته تلك؟

ماذا هو قائل لسهير في لقائهما الأول، إنه لا يفكر فيما هو فاعل، لأن أمه منعته أن يفعل شيئا في ليلته الأولى، فشأن العروس في الليلة الأولى أن تكون مضطربة، ويجب على العريس أن يطمئن روعها ليلة أو أكثر من ليلة، حتى يزول عنها الروع ويهدأ المضطرب.

فماذا هو قائل إذن؟ لو أنه كان مثل وصفي لفتح للحديث أبوابا، أما وهو لا يستطيع حديثا فماذا يفعل؟! آه لقد تذكر، ألم يكن يحكي على صديقاته في أوروبا ما يجعلهن يضحكن حتى تسيل الدموع من عيونهن، أو لم يكن أترابه وأصدقاؤه هناك يضحكون منه هم أيضا؟ نعم إنه لم يجد بمصر منذ عاد من يضحك من حديثه، إلا أن هذا لن يقف به عن المحاولة، فإن عروسه مثقفة، ولا بد أنها ستضحك كما كان أصحابه يضحكون، لقد هداه الله إلى الحل، وإنه لمتبعه فبالغ ما أراد لنفسه أن يبلغ في ليلته.

وراح سليمان يعيد على ذهنه ما كان يحكيه بأوروبا لأصدقائه، منصرفا عن الفرح إلى تلك الأيام المزدهرة في حياته، والمدعوون في شغل عنه إلى الغناء وإلى أصدقائهم، لا يحفل واحد منهم شأن سليمان؛ فلم يكن ذا شأن بينهم أو بين غيرهم، فهو من أولئك الذين إذا حضروا أو غابوا لم تحس حضورهم أو غيابهم، وقد كان في هذه اللحظة حاضرا غائبا، يفكر ويبتسم ويفرح، لقد هدي إلى الحل، ووفق إلى السبيل!

وكانت سهير في الطابق الأعلى، يعينها على ستر ما بنفسها من ألم وحسرة الخجل الذي تتشح به العروس في ليلة زفافها، فهي صامتة عن ألم، وتظن المدعوات أنها صامتة من خجل، والله يعلم، والباشا وأمها، على أي لاعج من أسى ينطبق صمتها.

وانتهى الفرح، وخلا العروس إلى عروسه، ولم يجد سليمان من كل ما كان يعده في رأسه إلا: مساء الخير.

ونظرت إليه سهير، إنه في القرب أبشع منه في البعد، وجاهدت نفسها أن تجيب، فلم تستطع، فأشاحت متخذة من خجل العروس وقاء لها من الإجابة.

وتمطى سليمان وألقى نفسه إلى كرسي وهو يقول: متعب الفرح.

وسخرت سهير في نفسها من كلمة الفرح، وظلت في صمتها. - أليس عجيبا أن تكوني ابنة عمي ولا أراك إلا الليلة؟ عادات سخيفة! عندنا في أوروبا كان النساء يقابلن الرجال حتى الأغراب، تصوري!

عندنا في أوروبا؟ لا، لا أطيق، أيجمع إلى قبح المنظر، وصفاقة الوجه، ثقل الدم أيضا؟ لا، لا يا رب، لم أقدر لنفسي كل هذا العقاب، النجاة يا رب النجاة! عندنا في أوروبا؟ ويقول تصوري؟ أنا متصورة! أنا عارفة، فلا حاجة بي إلى التصور، الشيء الوحيد الذي لا أتصوره هو أنت يا زوجي، يا شريك حياتي، يا مستقبلي كله، يا بقية عمري، وأخشى والله أن تكون بقية العمر طويلة. - كان النساء يجلسن معي، وهن لا يعرفنني، وكنا نتكلم ونتبادل الأحاديث.

ثم يضحك سليمان في غرور شائه ثقيل. - كن يعجبن بي إعجابا كبيرا.

بك أنت؟ لا، إني أعلم، لقد كن يضحكن منك لا لك، كنت سخرية الأصدقاء والصديقات، ويلي أنا، لقد كنت تقيم مع الواحدة منهن ساعة أو يوما أو شهرا، ثم تنصرف عنك، ولا يمكن أن تنصرف أنت عنها لأنك صفيق، أما أنا فالعمر، العمر كله. - تعرفت هناك ببنات كثيرات جميلات، ولكنهن طبعا لسن في مثل جمالك.

وتغازل أيضا؟ يا لها من مصيبة! إنه يستعرض أمامي مهارته مع النساء، ويغازلني في وقت واحد، كان من المفروض أن أفرح أن كان له سوابق مع أخريات، نعم والله كنت خليقة أن أتعزى لو أن هذا الذي يرويه حق، كنت خليقة أن أعزي نفسي بأن أخريات نكبن به قبلي، ولكن من أدراني أنه الحق! - أنت غيرى، أليس كذلك؟ لا، لا، لا تغاري، فقد انتهى ما كان بيني وبينهن، ولقد شئت أن أقص عليك هذا الحديث، حتى أكون صريحا معك منذ أول ليلة، هيه لا تغاري!

أغار؟ عليك أنت؟! ألم ينظر في مرآة هذا الثور؟ أنا أغار عليه؟!

وقام سليمان عن كرسيه واقترب منها في كرسيها الذي جلست إليه، وقد ألقت برأسها إلى كفيها تدير إجاباتها على زوجها في ذهنها ولا تنطق منها بشيء، اقترب سليمان من زوجته ووضع يده على كتفها، لم تكن رأته وهو يقوم عن كرسيه مقتربا منها، لم تر شيئا من هذا، ولم تحسه، لم تحس إلا بيده تهبط على كتفها، فلم تشعر بنفسها إلا وهي في آخر الغرفة، تصطك أسنانها من المقت والخوف، محدقة فيه مذعورة، لا تنطق بلسانها شيئا، وإن كانت عيناها قد نطقتا بكل شيء.

ولم يكن سليمان يفهم من لغة العيون شيئا، وإنما قال في نفسه «إن أمي خبيرة، إنها تدرك الذعر الذي تلتقي به العروس في ليلة زفافها الأولى». •••

وفي الصباح بكرت سهير تخرج من غرفتها، وتركت زوجها نائما هادئ البال مطمئنا، لم تجد أحدا صاحيا، فاتخذت لنفسها مكانا في البهو، وراحت تفكر فيما أصابت به نفسها، وحاولت جهدها أن تنفي عن نفسها هذه الأفكار، ولكن الأفكار كانت أقوى منها، فهي تمور بعقلها في ثورة عارمة، فليس لها منها نجاة.

قامت سهير تتمشى في أرجاء البيت، وقصدت إلى الشباك المطل على باب البيت والشارع، وكانت الحياة قد بدأت تدب هونا في الطريق، فبائع الفول يدفع عربته، لم تتحلق حوله الخادمات والخدم بعد، وبائع اللبن يسير حاملا بيده إناء اللبن، وفوق رأسه ذلك اللوح الكبير الذي استقرت عليه أطباق القشدة وأوعية لبن الزبادي الفارغة، والموظفون يسيرون فرادى، والتلاميذ يسيرون جماعات، وعم إدريس يصلي، وقد وضع بجانبه موقدا من الفخار اشتعلت فيه النار واستقر عليه إناء الشاي والعيش، ورأت سهير النار تشتعل وتكاد تلتهم العيش، فما يملك عم إدريس إلا أن يخرج من الصلاة بغير انتهاء، بل إنه حتى لا يستأذن ربه في الخروج من ساحته بأن يلقي السلام على الملائكة الذين يحفون به وهو قائم، لا يفعل شيئا من هذا، بل هو يترك الصلاة في جزع عاجل وينكفئ على النار، يختطف منها العيش أن تلتهمه قبله، وتلوح ظل ابتسامة على شفتي سهير، كانت جديرة بأن تكون ضحكة عريضة، لولا ما بالقلب من ألم، وتظل سهير رانية إلى عم إدريس وإلى الشارع، وقد ماجت فيه الحياة وتسارعت فيه الخطوات، وجرت به العربات تجرها الجياد، مطهمة حينا أو كسيرة وانية الخطو حينا آخر، وقد ترى من حين إلى حين سيارة تخترق الطريق في زهو، مدلة بسرعتها وأناقتها، فتلقاها الخيل وسائقوها بكبر، كبر صاحب الأصل الدارس صار إلى الفقر، ولا يزال متشبثا بأصله العريض، وإن يكن قد تهدى إلى فقر وإرهاص بزوال.

واستطاعت الحياة أن تلهي سهير عما يمور بنفسها بعض الحين، فلم تنتبه من وقفتها إلا على عربة مطهمة الجياد تقف أمام بيتهم وينزل منها ابن خالها سامي عبد الحميد، أمل أختها سميحة وفتاها، وحين تركت النافذة خشية أن يراها سامي ، سمعت جرسا يدق، فأدركت أن أباها قد صحا، فذهبت إلى غرفته، وقالت وهي تفتح الشباك، وقد حملت جرائد الصباح في يدها: صباح الخير يا أبي.

وقال الأب في بعض دهشة: صباح الخير يا بنتي، صباح الخير يا عروسة!

وكانت سهير قد أصبحت بجانب سرير أبيها، تضم الكلة المسدلة عليه، وهي تقول: أرجو أن تكون قد نمت نوما هانئا؟! - أرجو أن تكوني أنت قد نمت نوما هانئا، لقد صحوت مبكرة يا سهير، خير يا سهير. - خير يا أبي. - قولي يا سهير، هل أنت مرتاحة؟

ولم تستطع سهير أن تحتمل حزنها أكثر مما احتملت، لم تستطع أن تكتم الدموع الطافرة من عينيها، فأدارت وجهها عن أبيها، وانهملت دمعات صامتة، وألح الأب في السؤال، والدموع لا تزال تتزاحم في عيني سهير، حتى إذا عجزت عن وقف دفاعها جلست على سرير أبيها، وألقت برأسها على حافته، وقد تشبثت يداها بهذه الحافة وبكت، في همهمة خافتة أول الأمر، ثم ما لبثت أن انفجرت عن بكاء صاخب، تكاد تذرف فيه قلبها، وأمسك أبوها بها، واحتواها في صدره، فازداد بكاؤها عنفا، والأب الراسخ الصلب لا يجد ما يفعله سوى أن يربت كتفها، وقد ثارت في نفسه عاطفة الأبوة جياشة، رقراقة عنيفة، حتى لم يستطع وهو الرجل الذي عرك الحياة وعركته، إلى أن صار من الحوادث كالجبل الأشم، تدور به الرياح فلا تنال منه، لم يستطع أحمد باشا إلا أن يسكب دمعات، سارعت يده إلى تجفيفها قبل أن تراها ابنته.

وأحست سهير في حضن أبيها بعض راحة، وأحست أن بكاءها لن يفيدها شيئا إلا أن تعذب أباها، فتمالكت وانتفضت عن سرير أبيها إلى خارج الغرفة، لم تغب عنها كثيرا، بل هي تعود إلى الأب الحزين، وعلى شفتيها شبح ابتسامة باهتة، وتجد أباها يختم صلاته، فتجلس رانية إليه في حب، حتى إذا قام عن السجادة قالت: إن أكن قد آلمتك يا أبي هذا الصباح، فإني أحمل لك خبرا تفرح له. - والله يا بنتي لا أعلم أن شيئا يفرحني وأنت حزينة. - لا عليك مني يا أبي، إن سامي قد جاء الآن ويرجو لقاءك. - وأي شيء يفرح في هذا؟ - ألا تدري يا أبي، إنه يريد أن يخطب أختي سميحة، فبحياتي عليك يا أبي إلا قبلته. - سامي ابن حلال، ولكن هل سميحة تريده؟ - نعم يا أبي، إني سألتها. - هل أعتمد على قولك هذا وأقبله، وأحمل عن نفسي مئونة سؤالها وخجلها؟ - نعم يا أبي. - إذن فأرسلي إليه من يصعد به إلى هنا، وأخلوا له الطريق.

وما هي إلا دقائق، حتى صعد سامي إلى زوج عمته التي كانت قد صحت هي أيضا، وانضمت إلى زوجها في حجرته، وما هي إلا دقائق أخرى، حتى خرجت تفيدة هانم من الحجرة، وأعلنت إلى ابنتها سميحة أن أباها قد قبل خطبة سامي لها، وانطلقت الزغاريد في القصر، صاخبة فرحة هذه المرة، لا يعوق انطلاقها شيء.

وصحا سليمان من نومه على هذه الزغاريد، فظن أنها موجهة له، وحدث نفسه أنه لا يستحقها بعد، ولكنه لم يستطع أن يصرح، ووضع على نفسه معطف المنزل، وقصد إلى حجرة عمه، وهناك عرف ما أطلق هذه الزغاريد من عقالها، فهنأ سامي وأصابت نفسه غصة، فقد كان يعلم أن سامي أغنى منه، ولكنه تذكر ما نال من عمه في أمسه، فثارت في نفسه فكرة جاهد أن يكتمها، إنه يريد أن يدعو زوجته إلى رحلة خارج القاهرة، يتمتعان فيها بشهر العسل، حتى يظهر لعمه أنه سينفذ أمره له بإظهار كرمه أمام زوجته، وحتى يستطيع أن يتيح لزوجته أن تأنس به من تلك الوحشة التي عرفها منها في ليلة البارحة، وكان يجاهد نفسه ألا ينفذ هذا العزم، حرصا على الأموال، واحتفاظا بها، ليشتري قطعة أرض يضيفها إلى تلك الأفدنة القليلة التي تركها له أبوه.

وبينما كانت هذه الأفكار تتصارع في نفس سليمان، كان القصر يموج في فرحة غامرة، فسهير مع سميحة تحضنها، وتبكي بكاء اختلط فيه الفرح بالحزن ... فرح بأختها وحزن على نفسها، وتجيبها سميحة بالبكاء، لا يبتعثه إلا الفرح الخالص، تشوبه الأحلام الوردية، عن الهناءة التي ترنو إليها في ظل هذا الزواج السعيد.

وكانت الأم فرحة هي أيضا، فرحة بريئة ساذجة، ولكنها لم تسعد بهذا الفرح كثيرا، فهي تنظر إلى وجه زوجها فتجد فيه ألما يجاهد في إخفائه. - خير يا باشا، أنت متعب؟ - والله يا تفيدة نعم. - وما لك لا تقول؟ - اتركي البنات يفرحن. - البنات لا يفرحن إلا بك يا باشا، صحتك أهم من كل شيء.

وانكتم الفرح في الصدور، وانكتم معه حزن سهير، وحيرة سليمان الذي وجد في مرض الباشا قرارا حاسما، إذ لا يمكن أن يدعو زوجته إلى رحلة وأبوها مريض.

وسرعان ما جاء الأطباء، وهرول سامي ليشتري الدواء، وتكاسل سليمان متظاهرا أنه يريد أن يظل إلى جانب عمه، مرتئيا في هذا العذر إعفاء له من دفع ثمن الدواء، وجاء الدواء، ولكن متى نفع الدواء، وقضاء الله مقضي، سبحانه يهب الحياة ويختارها إلى جواره، هو وحده صاحب الأمر فيها مبتدئة ومنتهية.

الفصل العاشر

لم يستطع شيء أن يعوق سليمان عن حقوق الزواج، وإن يكن الحزن قد أجل نيل حقوقه بضعة أشهر، ولكن أين المهرب لسهير والحياة طويلة، ما الشهور فيها إلا قطعة صغيرة من الزمن، يبتلعها الزمن، ويبقى الزمن، وتبقى الحياة، ويبقى زوجها، وتبقى حقوقه، وقد نالها، ولكن سهير كانت تحس دائما أنها كأنما ترتكب إثما حرمه الله، كان يداخلها شعور بالخزي والعار، ولولا أن عقلها ما يلبث أن يذكرها بأنها أوامر الله لما زايل هذا الشعور نفسها.

لم يكن الجنين يعلم أن أمه لا تحب أباه، ولم يكن يعلم أنه يتكون على رغم أمه، ولم يكن يعلم أنها تتمنى أن تموت قبل أن يصبح هو طفلا، ولو كان يعلم ما استطاع أن يفعل شيئا، وماذا بيده أن يفعل، إنه يتكون ويكبر على رغم أنفه وعلى رغم أمه، ويكتمل وينزل إلى الحياة.

واستقبل القصر الطفل الأول لسهير، وقد كان اسم الطفل معدا له قبل مجيئه؛ «أحمد»، وقد رحب سليمان بالطفل ورحب أن يسمى أحمد، وتخلى عن بذل أي مال للحكيمة المولدة أو للخدم ، فقد تعود الخدم منه ألا يعطيهم شيئا وإن يكن بعض الأمل قد داعب نفوسهم أن تسخو نفسه الجامدة، يوم مولد طفله الأول، إلا أن هذا الأمل كان ضعيفا واهنا، لم يحسوا في انهدامه برزء الأمل المنهدم.

وكانت سهير قد عرفت عن زوجها هذا البخل القاتل، ولم تشأ أن تنبهه إلى موقفه من الخدم، فقد كانت تعلم أن لا أمل يرجى من تنبيهه، وضمت هذه السوءة إلى ما اجتمع فيه من سوءات وسكتت، وقد كانت تعلم أنه مهما يعطيهم فإنه لن يطيق أن يصبر نفسه عن ارتكاب الصغائر أمامهم، فقد استطاع سليمان في مهارة حاذقة أن يرغم زوجته على احتقاره، فأصبح كرهها له كرهين، ومقتها له ألوانا من المقت، عديدة لا يخفت لها أوار.

استقبلت سهير طفلها أحمد، ومقت أبيه يمهد له عندها، وحينما رأته في يد الحكيمة يطلق صرخاته الأولى في وجه الحياة لم تحس نحوه شيئا من عطف، ولعلها لم تحس نحوه شيئا على الإطلاق، لولا أنها تذكرت ما يتناقله الناس من حب الأمهات لأولادهن، فطوت نفسها على شعورها المبهم، ونامت بعد أن عرفت أن وليدها طفل ذكر، وما كان يعنيها أن يكون ذكرا أو أنثى، كل ما كان يعنيها ألا يجيء هذا الطفل، أما وقد جاء فسيان عندها أن يكون ذكرا أو أنثى، فهو إن يكن ذكرا فقد يرث عن أبيه شر أبيه، وهو إن يكن أنثى، فهي قد ترث عن أمها تعاسة أمها.

صحت سهير من نوم عميق، فوجدت أمها بجانبها تشرف على طعامها، حتى إذا أصابت ما قدموه لها، دفعت أمها إليها طفلها لترضعه، وحين وضعت ثديها في فم الطفل راح سؤال يدور في ذهنها، وأنت ما ذنبك؟ ما ذنبك أنت يا ولدي العزيز! العزيز؟! أعزيز أنت؟! أي شيء فيك عزيز؟! أنت بلورة شقائي، أنت تجسيد الأشباح القاتمة في ظلال حياتي! أنت تعاستي حية وترضع مني وأغذيها، لا عليك يا ولدي، فإني كما أتيت بك إلى الحياة أتيت بشقائي إلى الحياة، إنها أنا يا ابني التي خلقت شقاءها بيدها، وها أنت ذا شقائي جاء من أحشائي مجسما بعد أن كان فكرا، إنسانا بعد أن كان خيالا، حياة بعد أن كان رؤى، حياة وإن تكن شقية حزينة آسية، إلا أنها حياة، وأنا صاحبتها، وأنا من أغذيها، سأغذيك يا ابني كما غذيت شقائي دائما، وكما خلقت شقائي هذا، لقد ولدتك أحشائي، كما ولد عقلي شقائي، أتت بك أحشائي على رغم أنفها، وولد عقلي شقائي مختارا لينتقم، لقد خلت أني أنتقم ممن هجرني، فإذا أنا أنتقم من نفسي، فويلي من ظالمة ومظلومة، وقاتلة وقتيل، أنا هي جميعها، أنا الظالمة والمظلومة والقاتلة والقتيل، ولكن أنت ... أنت يا ولدي، ما ذنبك؟ فاطعم، اطعم يا ابني هنيئا لك ما ينساب إلى جوفك الطاهر البريء الندي، وأرجو الله اللطيف بعباده ألا ينساب في دمي الذي يغذيك هذا الشقاء الذي خالط دمي على الأيام، اطعم هنيئا، فأنت يا ولدي لا ذنب لك.

واقتحم سليمان الغرفة على زوجته، فألقت فضلة ثوبها على صدرها، ومال سليمان على جبين زوجته، فطبع عليه قبلة ليس فيها إلا ضم شفتين وانفراجهما عن صوت مرتفع مزعج، وقال لها: «كيف أنت يا سهير؟» ولم تزد سهير على أن تقول: «الحمد لله.» وحين حاول أن يجذب للحديث أطرافا لم تمكنه سهير مما يريد، فقد كانت في غمرة من هذه المشاعر التي زحمت نفسها، ولم يدرك سليمان شيئا مما يخالجها، فما كان يدرك شيئا في نفسها، واطمأن باله إلى أنها متعبة لا تطيق الحديث، وخرج فرحا من الغرفة، تشيعه نظرات سهير الحسيرة، وقد ازداد جسمه امتلاء، فأصبح سمينا ضخما، لا يذكرك إن رأيته إلا بالعجل قواما وتفكيرا. •••

وبعد أيام قليلة من ميلاد أحمد عبرت باب القصر في خطوات وانية محبوبة زوجة عبد البديع، تحمل على كتفها ابنها السيد وتمسك في يدها سلة كبيرة، يغطيها البرسيم، ويسير من خلفها زوجها عبد البديع، يحمل هو الآخر سلة كبيرة مغطاة بالقماش خيطت أطرافه إلى حوافي السلة، إن الأسرة قد جاءت إلى قصر الباشا تقدم تهنئتها إلى السيدة سهير وتحمل معها الهدايا التي ينتجها الريف الكريم، وقد كان هذا المجيء يحمل في طياته شكرا عميقا من هذه الأسرة إلى السيدة سهير؛ فهي التي مدت حمايتها على عبد البديع، فأبقت عليه في وظيفته حين حاول سليمان أن يطيح به مدعيا أنه لص، عاجزا في الوقت ذاته عن أن يثبت عليه شيئا من انحراف الضمير.

وقد أحست محبوبة بالرهبة وهي تستقبل القصر، ولكن يد زوجها من ورائها ألقت إلى نفسها الطمأنينة، فخطت باسم الله وبستره إلى الرحبة الواسعة، وسعت بين مغاني الحديقة إلى القصر الكبير.

ولكن سيد أبى أن يجعل السير يطمئن بهم، فهو ينشق عن صراخ عال وعويل مزعج، جاهدت أمه في كتمانه، ولكن بلا جدوى، فقد أبى حتى ثدي أمه الذي أخرجته لتسكته به.

وبلغ العويل مسامع السيدات، فسألن وجاءهن النبأ عن زيارة عبد البديع، فمست هذه الزيارة نفس سهير بنسمة طيبة أحست في عبيرها وفاء وحبا، وإن يكن صراخ الطفل قد أزعجها.

وقبل أن يختفي عبد البديع وأسرته الصاخبة في الباب الداخلي سمع ضجة سيارة تقف عند باب القصر، فالتفت وعرف فيها سيارة سميحة هانم، فقال لزوجته: أسكتي السيد، واذهبي لتسلمي على الست سميحة وتهنئيها بوليد أختها.

ثم انفتل عبد البديع إلى داخل المنزل، ولم يطع السيد أوامر أبيه، ولم يجد في إسكاته جهد أمه، ولكن هذا لم يمنعها أن تتقدم من سميحة هانم التي كانت تسير وئيدة الخطى، يمنعها عن الإسراع أنها تحمل هي الأخرى وليدا غائبا في ظلمات أحشائها، وقالت محبوبة: الحمد لله على سلامة الست سهير يا ستي سميحة هانم. - الله يسلمك يا محبوبة، أهذا ابنك؟ - نعم يا ستي، العقبي لك، نفرح بالمحروس، وتقومين بالسلامة مجبورة الخاطر إن شاء الله. - لا، في هذه المرة أريد بنتا يا محبوبة. - بنت يا ستي! لا قدر الله! - ولماذا يا محبوبة؟ أنا عندي حسام، ألا يكفي ولد واحد؟ - لا يكفي أبدا يا ستي، ولد يا ستي، إن شاء الله ولد! - يا شيخة اسكتي، فإني أخشى أن يسمع الله دعاءك، بنت يا رب، بنت. - لا حول ولا قوة إلا بالله، أمرك يا ستي، بنت يا رب! نولها ما تريد يا رب، واجبر خاطرها! - ألم تري سهير بعد؟ - لا والله يا ستي، كنت داخلة ورأيتك فجئت أسلم عليك. - تعالي نصعد معا.

وصعد ثلاثتهم، وسيد لا يكف عن صراخه إلا بمقدار ما يلقف في حلقومه بضع شهقات من الهواء، ما يلبث أن يخرجها عالية الضجيج، تنقض على الهدوء الذي كان يسود القصر فتمزقه تمزيقا.

الفصل الحادي عشر

كانت الكلمات لا تكاد تستقيم على شفتي أحمد، حين دخل إلى حجرة يجلس فيها أبوه إلى أمه وقال: بابا ... هات لي شوكولاتة. - ولماذا؟ أليس عندك شوكولاتة؟ - عندي، ولكن هات لي أنت. - ولماذا أنا؟ - لأن نينة تحب أختي هناء، وأنا لا أحب نينة. - ومن أدراك أنها تحب هناء؟ - كل يوم، كل ساعة أراها تحتضنها، وتجعلها تبوسها في صدرها، بوسة طويلة، طويلة، وتقول إنها ترضعها، وأنا لا أبوسها إلا بوسة قصيرة فقط، وبعد ذلك تتركني لتجعل هناء تبوسها!

وكانت الأم غارقة في الضحك، بينما أكمل الأب نقاشه مع ولده: طيب وما شأن هذا بالشوكولاتة؟ - الشوكولاتة التي عندي من عند نينة، هات لي أنت شوكولاتة. - ومن أدراك أنها من عند نينة؟ - كل ما عندي من عند نينة، هات لي أنت شوكولاتة. - طيب يا سي أحمد، أمرك.

ويخرج الطفل مطمئنا إلى وعد أبيه، فقد كان طفلا، ولم يكن قد عرف أباه بعد.

وكانت الأم لا تزال في ضحكها من حديث ولدها حين قال سليمان: ألا يجب علينا أن نذهب اليوم إلى وصفي لنهنئه؟

وفجأة تجمد الضحك على شفتيها، فقد كان اسم وصفي لا يزال ذا رنين في نفسها، واستطرد سليمان: يجب أن نذهب لتهنئته. - ولماذا؟ - لأنه ابن عمنا. - إنه ابن عمنا منذ ميلادنا، ولم نفكر في زيارته أو تهنئته قبل اليوم، فما الذي جعلك تذكر هذا الآن؟ - كنت مخطئا، وأريد أن أصحح خطئي. - سليمان، قل الحقيقة، إنك تريد منه شيئا. - لا والله، ولكن ... - ولكن ماذا؟ إنه رزق بجعفر ولم تهنئه، بل إنك حتى لم تشكره على الهديتين اللتين أحضرهما عند مولدي أحمد وهناء، واليوم تريد أن تهنئه لأنه أصبح سكرتيرا لمجلس النواب، ولا أرى المنصب كبيرا عليه، فهو عضو نواب من سنوات، وشخصية ظاهرة في الحزب، وليس غريبا أن يكون في هذا المنصب. - ولكنه فاز بثقة إخوانه، ويجب أن نهنئه بذلك. - قل لي يا سليمان، ألم تحصل على الدرجة بعد؟ - وما شأن هذا بالموضوع؟ - إن هذا هو الموضوع. - وبعدين معك يا سهير، أما تريدين أن تساعديني في شيء؟ - والله أنا كرامتي لا تسمح لي بأن أزور ابن عمي متظاهرة بالتهنئة، بينما أنا أريد منه شيئا آخر؟ - يا ستي ما لكرامتك وهذا؟! - إن الكرامة هي هذا.

ثم تنهدت سهير، وكأنما أفاقت إلى أنها تحدث شخصا لا شأن له بموضوع الحديث، فقالت: وعلى كل حال أنت تعرف أنني لا أقابله. - نعم أعرف، ولو أني غير موافق على هذا الحجاب، على كل حال اصعدي أنت إلى زوجته، وأقابله أنا. - يا أخي، أتريدني واسطة إلى زوجته؟ لا يا سيدي، اذهب أنت وهنئه، ولن أذهب أنا إلى زوجته. - ولماذا؟ إنك لا تزورينها أبدا. - إنها ست غريبة عن العائلة، وزيارتي لها لا تكون إلا ردا على زيارتها هي. - لقد زارتك عندما ولدت هناء، ولم تردي الزيارة. - لم تأت المناسبة، ولو زرت كل اللواتي زرنني في الولادة لما انتهيت. - ها هي ذي المناسبة، اذهبي إليها وهنئيها. - سليمان. - نعم. - لن أذهب. - أمرك.

وخرج سليمان غير غاضب وإن كان آسفا، فقد كان يأمل أن تتوطد الصلة بين عائلته وعائلة وصفي، فهو يطمع أن يكون وصفي سندا له في وظيفته، فقد رأى وصفي واسع النفوذ، مسموع الكلمة عند الوزراء وعند وزيره هو بالذات، ذلك الوزير الذي لم يجرؤ هو يوما على طلب مقابلته، ذلك الوزير صديق لوصفي، والعجيب أن الوزير هو الذي يسعى إلى توطيد هذه الصداقة وتثبيت دعائمها، يريد من وصفي أن يكون عونا له في الحزب وفي المجلس، ومع ذلك تأبى سهير أن تذهب لوصفي ، أو لزوجة وصفي، هو غير غاضب لأن الغضب لم يكن في طبيعته؛ فإن الغضب صديق للكرامة والعياذ بالله، وهو رجل ألف ألا يغضب كما ألف البعد عن الكرامة، هو غير غاضب، ولكنه آسف، آسف كما تعود أن يأسف دائما حين تأمره سهير فيأتمر، وهل كان له إلا أن يأتمر، إنها الزاد والمأوى، وإنها المال والقصر والضياع، حين هو لا شيء، لا شيء إلا أن يتلقى أوامرها فيطيع، وإلا أن تريد هي فيسير، غير غاضب أن استقبل أمرا لا يريده، لكنه يأسف، يأسف وينفذ، وهل كان بيده إلا التنفيذ.

ولكنه اليوم يريد أن يصل ما بينه وبين وصفي، وإن يكن قد أهمل في شكره على هداياه، وإن يكن قد تأخر في تهنئته بمولوده الأول، إلا أنه اليوم سيمحو هذا التقصير الذي كانت له أسبابه ودواعيه، فهو إن كان قد ذهب للتهنئة بميلاد جعفر كان لا بد له أن يحمل معه هدية، إن لم تكن مماثلة لهدية وصفي، فهي على كل حال ستحمله مالا، وهو لا يحب أن يبذل مالا، وهو أيضا كان لا يريد أن تتوثق العلائق بينه وبين وصفي، بعد ما كان يشاع من أن وصفي سيخطب سهير، وهو أيضا لا يحب أن يجتمع ووصفي في مجلس، فوصفي رجل من رجالات الدولة، في حين لم يستطع هو أن يصبح رجلا من رجال البيت، وهو لا يحب أن تجري المقارنة بينهما، وخصوصا إذا جرت هذه المقارنة في ذهن سهير، ثم هو أيضا لا يحب وصفي هذا الذي يتسلق إلى المجد في كبر وخيلاء، بينما لا يستطيع هو أن يتسلق درجة، درجة واحدة في سلك الوظيفة، ولو أن الأمور جرت في سبيلها السوي، لكان هو الأجدر بالرفعة، فوصفي لا يملك إلا لسانا وقلما، أما هو فمهندس درس في جامعات أوروبا، وهو رجل عملي، ما الكلام عنده إلا شقشقة عاجز، وتهويم من لا يستطيع عملا.

ولو أن وصفي ارتفع بجهده وحده، لقبل ارتفاعه هذا، ولكنه ارتفع بغناه الذي خلفه له أبوه، وبجاه أبيه أيضا الذي خلفه له في الناحية، فأصبح به عضوا بمجلس النواب، أما هو فلم يترك له أبوه إلا أوشالا من المال، استطاع بها أن يذهب إلى أوروبا، وأن يصبح مهندسا.

لهذا جميعه، كان سليمان حريصا على ألا يوطد صداقته بوصفي، ولكنه اليوم حريص على هذه الصلة، فهو اليوم فجأة ابن عم وصفي، وصديقه الأوفى، وليس لهذه الأسباب مكان.

فهو لا يحتاج إلى إهدائه شيئا، لأنه ليس من المألوف أن يتهادى القوم في التهنئات بالمناصب، وهذا في ذاته أقوى سبب كان يقف به عن التهنئة في ميلاد جعفر.

وهو اليوم لا يرى بأسا أن تتوثق العلائق بينه وبين وصفي، فقد مر على الشائعات التي كانت تربطه بسهير زمن بعيد، والزمن قادر على ابتلاع الشائعات ومحوها من أذهان الناس، وهو اليوم أيضا لا يرى بأسا أن تجري سهير المقارنة بينه وبين وصفي، فقد أصبح لها منه ولد وبنت تحبهما الحب كله، فما تملك إلا أن تظل إلى جانبهما، وهو أيضا مطمئن إلى أن زوجته لا تكن له الاحترام، لأنها من ذلك النوع الساذج الذي يقدر الكرامة ولا يقدر الحياة، ويهيم في الخيال، ولا يفكر في الواقع، حتى إنها تأبى عليه إلا أن يؤدي حق سميحة في أرضها كاملا إليها، وإن امرأة تبلغ بها السذاجة الحد الذي تأبى عنده أن تأكل أموال أختها خليقة بألا يقيم لرأيها وزنا، أما أن يتسلق وصفي إلى أعناق المجد، فالواقع الذي لم يكن يفكر فيه من قبل أن وصفي كان يجاهد الإنجليز، ويهاجمهم بمقالات مشتعلة، حتى لقد قبضوا عليه مرات وسجنوه، وسليمان لا يرى بأسا أن يصيب هذا المتهور المجنون الذي يرمي بنفسه إلى التهلكة مجدا، ما دام لم يصب التهلكة، ثم إن هذا المجد الذي بلغه وصفي مجد للعائلة كلها، وما دام هو - سليمان شكري - أحد أفراد هذه العائلة، فمن حقه أن يحظى بنصيبه فيما أصابه ابن عمه، ومن ثم فهو يستحق الدرجة.

هكذا كان يفكر سليمان حين وجد نفسه واقفا إلى باب ابن عمه وصفي ، وقبل أن ينزل من السيارة سأل البواب عن وصفي، فحين علم أنه بالمنزل ترجل وهو يطلب إلى البواب أن يبلغ سيده بمجيئه.

كان وصفي إذ ذاك جالسا إلى زوجته وابنه جعفر، وقد راح يداعبه في حنان، والطفل يبتسم لأبيه، ويحرك لسانه بكلمات لم تكتمل، فيستقبلها الأب بفرح ونشوة، ولكن هندا لم تشارك زوجها فيما هو فيه من غبطة، فهو يسألها: ما لك يا هند؟ - والله يا وصفي مشغولة بأمي. - ما لها، لا قدر الله؟ - منذ مات أبي وصحتها تزداد سوءا في كل يوم. - يا ستي، طالما رجوناها أن تترك العزبة وتأتي هنا ليراها الأطباء. - وماذا نعمل؟ إنها ترفض أن تترك العزبة وترى في بقائها هناك ما يسليها، ولكنها لا تسلو. - وهل سمعت شيئا جديدا؟ - كلمتها اليوم في التليفون، فلم يعجبني صوتها. - يا ستي لعلك واهمة، وعلى كل حال اطلبيها ثانية الليلة أو غدا، وإذا شئت سافري إليها. - وكيف أسافر؟ - ولم لا؟ - وجعفر؟ - خذيه معك إذا اقتضى الأمر! - الولد صحته لا تحتمل السفر، على كل حال سأكلمها ثانية. - لا تشغلي نفسك بلا سبب ... لعلها كانت نائمة وأيقظتها بالتليفون.

ودخل الخادم ينبئ وصفي أن سليمان في انتظاره، فتعجب بعض الشيء، ثم قال للخادم: سأنزل إليه.

وانصرف الخادم، وعاد وصفي إلى مداعبة ولده، وطمأنة زوجه، ثم قام إلى سليمان.

وبينما هو في طريقه إلى الدور الأسفل، لقيته أم وديدة على السلم، فقال لها في لهفة: هيه!

فهزت أم وديدة رأسها نفيا، فلم يزد، ونزل إلى سليمان.

لقي سليمان وصفي بترحاب كبير، فأدرك وصفي أنه يريد منه أمرا، ولكن أخفى إدراكه هذا، وراح يجيب الترحاب بترحاب. - والله يا وصفي أنت لا تعرف كم فرحت بانتخابك سكرتيرا للمجلس. - يا أخي المسألة لا تستحق فرحا. - كيف؟ ثقة زملائك بك، وبلوغك إلى هذا المنصب وأنت في سنك هذه لا تستحق فرحا؟ - لا تكبر المسألة يا سي سليمان، المهم عندنا أن تستطيع الحكومة عمل شيء مع الإنجليز، أما أن أكون سكرتير المجلس أو لا أكون، فوحياتك ما اهتممت بهذا، ولقد اعتذرت وبالغت في الاعتذار، ولكن إخواني ألحوا فقبلت، على كل حال أشكرك على زيارتك! كأنما كان لا بد لك أن تجد سببا لتزورني! أين أنت يا أخي، ولماذا تختفي هكذا عنا؟ - والله الوظيفة يا وصفي تبتلع وقتي كله. - وكيف رضاك عن الوظيفة؟ - وهل رأيت صاحب حق ينال حقه في هذا البلد؟ - لماذا كفى الله الشر؟ - يا سيدي الوزارة تأبى إلا أن تساويني بزملائي الذين عينوا معي. - وما البأس في ذلك؟ - ما البأس؟! يا أخي أنا سافرت لأوروبا، ونلت شهادات من أعظم الجامعات هناك. - آه، من هذه الناحية أظن أنك محق. - بالله يا وصفي - إن كنت لا ترى بأسا - كلم الوزير، فهو صديقك، وما أظن أنه سيخيب لك رجاء. - أكلمه بكل سرور. - أشكرك، ومتى تتناول الغداء عندي؟ - وما المناسبة؟ - المناسبة؟! وهل لا بد من مناسبة؟ - لا، أبدا، في أي وقت! - بعد غد. - وهو كذلك، نقبل هذه الرشوة يا سي سليمان من أجل خاطرك. - يا أخي العفو، يا ليتك كنت ممن يرشون، إذن لأرحت قوما كثيرين. - نعم، وتعبت أنا. - أبدا وحياتك، الرشوة تتعب في المرة الأولى تعبا بسيطا، ما تلبث الرشوة الثانية أن تمحوه، أما الرشوة الثالثة، فهي الراحة والهناء والمال والسعادة. - الله الله يا سي سليمان، تتكلم كأنك خبير! - خبير بماذا؟ وظيفتي ليس فيها ما أرتشى عليه. - فإذا كانت؟ - فيها نظر. - احذر يا سليمان، الرشوة كالقتيل، تختفي يوما أو بعض يوم، ثم ما تلبث الرائحة النتنة أن تفوح منها. - يا عم صل على النبي. - عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا هو الحق. - المرتشون يملئون المناصب الكبيرة. - ولكن لا يحترمهم أحد. - بل يحترمهم الجميع وحياتك. - لأنهم يرجون منهم خيرا، فهم يظهرون لهم الاحترام، ولكن لا يكنون لهم إلا الاحتقار. - وماذا يعرف الناس عن ضمائر الناس؟ المهم ما ظهر، وأما ما خفي فالله به عليم. - الاحترام، أعظم الاحترام، أن يحترم الإنسان نفسه، ويعلم أن الناس يحترمونه في دخيلة نفوسهم، كما يحترمونه في ظاهر أمرهم، ولا تصدق أن إنسانا يكبر وسمعته ملوثه، ولا تصدق أن إنسانا يكبر بغير احترام. - نعم، نعم، أعرف مثلك العليا. - هذه ليست مثلا عليا، إنها المستوى الطبيعي للأخلاق، وما أقل منها سفالة، المثل العليا سمو عن طبيعة الأخلاق، ليست الأمانة مثلا أعلى، وإنما هي طبيعة، انتشار الفساد جعل هذه المعاني العادية مثلا عليا، لا تعتقد أنك حين تكون أمينا تستحق المديح، فهذا هو المفروض. - فما المثل العليا إذن؟ - أن أرتفع بالمستوى العادي للأخلاق، أن أعطي كل ما معي لفقير مثلا، وأظل بلا مال، أن أضحي بحياتي في سبيل الصالح العام. - هذا تهور. - بل هذه هي المثل العليا، لا عليك أن تبلغ إليها، ولكن عليك ألا تسفل. - يا أخي أنت لا تعرف شيئا عن الدنيا. - لكل دنياه يا سي سليمان، تلك هي الدنيا التي أعرفها، النهاية، لقد جعلتني ألقي خطبة طويلة وأنت لا تحب الكلام، أنت رجل مهندس تضع القالب على القالب فتبني بيتا. - أما تزال تذكر؟ يا أخي، يا أخي ارحم الناس من لسانك، النهاية، لا تنس الغداء عندي بعد غد. - وهو كذلك.

واستأذن سليمان وانصرف، وفي الطريق راح يفكر في هذا النجاح الذي أصابه من زيارته تلك، فهو قد ضمن أن وصفي سيكلم الوزير بشأنه في غد، لأنه من غير المعقول أن يأتي للغداء عنده دون أن ينبئه بما تم عند الوزير، وقد قصد سليمان أن يكون الغداء بعد غد، حتى يترك له الغد ليلقى فيه الوزير، وسليمان يعلم أن مثل هذا لا يخفى على ذكاء وصفي، وسليمان مسرور بنجاحه هذا أيضا، لأنه لن يخسر في هذه الدعوة شيئا، فزوجه هي التي ستقوم بإعداد الغداء، وسليمان مسرور أيضا، لأن هذه الدعوة ستوطد الصداقة بينه وبين وصفي، وهي صداقة يرى أنه أصبح محتاجا لها دائما، نجاح باهر إذن الذي أصابه في زيارته تلك، وهو مصمم على تمكين هذا الانتصار والمحافظة عليه، وبلغ سليمان القصر، فوجد زوجه كما تركها، لم يزد عليها إلا ابنتها هناء، وقد تركت لها صدرها تقبلها فيه هذه القبلة الطويلة التي تثير الغيرة في نفس أحمد . - يا ستي، وصفي سيتناول الغداء عندنا بعد غد.

ونظرت إليه سهير نظرة طويلة لم يرها هو، ولو كان رآها لما فهم منها شيئا، وكيف له أن يفهم؟ إنه لا يفكر في شيء إلا أن يبلغ من نجاحه أقصاه، وإلا أن يمكن هذا النجاح فيستقر به المقام، وترسخ أقدامه في أعماق مستقبله، لا شيء إلا هذا، وهل الحياة إلا هذا؟ ينظر إلى سهير ويقول: سهير ...

فتجيبه سهير بعض مفيقة: نعم. - ما المانع أن تقابلي وصفي؟

وأفاقت سهير إلى زوجها إفاقة تامة: ماذا؟ - وما المانع؟ إنه ابن عمك.

وقالت سهير في لهجة من لم يسمع، وفي غير استنكار: ماذا؟ - أقول إنه ابن عمك، وأنا رجل درست في أوروبا، ولا أوافق مطلقا على هذه الرجعية. - ولكن رأيك هذا لم تبده إلا اليوم. - نعم لأنه سيتغدى معنا، ولا أرى معنى أن يأتي ابن عمك إلى هنا، وتقفلي أنت الباب في حجرتك، وأظل أنا وابن عمك وحدنا. - لا أرى في ذلك بأسا، إلا إذا كنت ترى في مقابلتي له فائدة. - الحقيقة نعم، أرى في ذلك فائدة، فأنا لا أجيد الكلام، ولن تمر دقيقتان حتى أجد نفسي عاجزا عن الحديث معه. - من هذه الناحية، اطمئن فهو الذي سيتكلم.

ثم استدركت قائلة: فإنهم يقولون إنه كثير الكلام.

وأصابت نفسها غصة أن اضطرت إلى مهاجمة وصفي لتعمي على زوجها، فقالت: ويقولون إن حديثه جميل. - نعم ولكن بماذا أجيب حديثه، إنه يتكلم في أمور لا أفهمها ولعلك أنت أن تفهميها، فإنك منذ تزوجنا وأنت لا تكفين عن القراءة، أنت تقرئين الجرائد، وهو يكتب فيها، وأنت تقرئين كتب الأدب، وهو يهوى الأدب، ولن يخرج حديثه عن سياسة وأدب، وأما أنا فلا أحب السياسة ولا الأدب. - وماذا يقول الناس يا سليمان؟ - الناس؟ وهل تنتهي أقوال الناس؟ الناس عندك هم أنا، وما دمت أنا موافقا فلا شأن لك بالناس. - أخشى أن يقولوا إنك جعلتني أقابله، لأنك تريد الدرجة. - بل جعلتك تقابلينه، لأنه ابن عمك، وأنا لا أوافق على الحجاب. - ولكنك تعلم أنه هو رجعي، ولن يسمح لزوجته بمقابلتك. - لكل رأيه يا ستي، هو من أنصار الحجاب، وأنا من أنصار السفور. - هذا رأيك، ولكنك تنسى العائلة وكثرة كلامها، وتنسى أن رأيك هذا لم يظهر إلا مع ظهور رغبتك في الدرجة. - سهير، الحقيقة أنني لا أريد لك هذا الحجاب إطلاقا، ولن تقتصر مقابلتك على وصفي وحده، بل إنني أحب أن تقابلي الجميع، إنني رجل متعلم في أوروبا، ولا أحب هذه الهمجية، لا يا ستي إنك ستقابلين الجميع، الجميع!

وارتفع صوت سليمان كأنه رجل، وأحبت سهير أن يظهر سليمان حماسته في هذا الأمر بالذات، فقد كانت تريد أن تقابل وصفي، بل إنها كانت تتوق إلى هذا اللقاء، ولكنها تريد أن تدفع إليه دفعا عنيفا يهيئ لها أن تقول لنفسها إنها لا قبل لها بالنكوص، كانت تريد أن تعتذر لكبريائها عن هذا اللقاء، وها هو ذا زوجها يدفعها، وإنه زوجها، فماذا يمكن أن تقول له، إنها ستلقى وصفي وأمرها إلى الله!

وصمتت سهير، وأدرك زوجها أن صمتها موافقة، وارتاح خاطره، وهدأ إلى مستقبل زاهر تلوح له بشائره، فهو يعلم أن وصفي إذا لقي سهير سيطيب له أن يكثر من الزيارة، وهو يعلم أن زوجته شريفة، ويعلم أن وصفي أمين الضمير، فهو لا يخشى من اللقاء مغبة، ولو كان يخشى ما أصر على هذا اللقاء، ولكنه يعلم أن سهير تحب الأدب والسياسة، وتستطيع أن تكون طرفا في الحديث يلقيه وصفي، ويعلم أنه يحبب بيته إلى وصفي، وهو يأمل أن يحب وصفي بيته.

وقامت سهير إلى حجرتها ذاهلة النظرة، شاردة الفكر، أحقا ستلقى وصفي؟! وصفي! هذا الخائن الذي ألقى بها إلى أعماق هذه الحياة التي تحياها وتصلاها، ويلتهب سعيرها في كل أيامها، وصفي! ستلقاه، إنها ستنتقم، ستنتقم، ولكن ما الذي يكفي لانتقامها، أتقتله؟ وصرخت نفسها: لا، ثم سخرت منها نفسها: وهل أستطيع؟ إذن! إذن ماذا؟ ماذا ماذا؟ كيف أنتقم؟ أتجاهله؟ وكيف أستطيع؟ سيكون ثاني اثنين: أحدهما أبكم، فكيف أستطيع أن أتجاهله؟ وماذا سيقول زوجي، إنه ليس غبيا، ألا يجوز أن يدرك من تجاهلي ما كان بيني وبين وصفي؟ ربما ظن أنني أتجاهل وصفي لأنني غاضبة لزواجه من غيري، إذن، إذن لا سبيل لي إلا أن أترك نفسي على سجيتها، سجيتها؟ سجية نفسي، أخادع نفسي؟ إنني لو تركتها على سجيتها لظهر ما تخفيه من ... من حب ... حب عميق، زاده عمقا هذا الألم الذي أقاسيه في ظلال رجل قاتم، مظلم، أصم الفؤاد، على سجيتها! ويلي من نفسي، ويلي من حبي! أبدا لن تكون نفسي على سجيتها في هذا اللقاء، أبدا لن تكون، وكيف لها أن تكون، وأنا مع اثنين، أحدهما أضاع آمال شبابي وحياتي، وأضاع الآخر شبابي وحياتي جميعا، وكيف لها أن تكون، وأنا أجلس إلى اثنين، أحدهما ألقى بي إلى السعير، والآخر هو السعير ذاته، أألقى وصفي؟! سألقاه، فما هذا الليل الطويل الذي يفصلني عن لقائه، بل هناك نهار آخر وليل آخر ثم ألقاه، لماذا لا يستمر هذا الليل ليلا أنامه، فلا أصحو إلا على لقائه، أو لماذا لا يظل النهار نهارا ألهو فيه عن شوقي بأطفالي حتى ألقاه؟ لماذا؟ لماذا؟ إنها الحياة؛ لذتها أن تسير هي طريقها المرسوم، بسرعتها المرقومة، بليل يخلف نهارا، ونهار يخلف ليلا، ونتمنى نحن وننتظر، نتحرق شوقا وننال ونمنح ونمنع، وتظل الحياة سائرة، لا شأن لها بما نريد أو ما نأمل.

الفصل الثاني عشر

تسير الأمور في الطريق الذي أراده لها سليمان، فقد جاء وصفي في موعد الغداء، وقصد إلى حجرة الجلوس التي يعرف الطريق إليها تمام المعرفة، وبعد هنيهة فتح الباب، وفي انفراجته رأى وصفي ... من؟! سهير؟! سهير، ومن ورائها سليمان، ماذا فعلت بي يا سليمان؟! حملق وصفي دهشا، حتى كاد لدهشته ألا يستطيع قياما عن كرسيه!

وأقبلت سهير جامدة الوجه، لا تبين نأماتها عن خلجة تشف عما يصطرع بنفسها من حب، وغيظ، وشوق، وإقبال، وإحجام، وتساؤل، واستسلام، وتقدم سليمان في بلاهة ومحاولة مقيتة للتظرف: أقدم إليك ابنة عمك التي لم ترها طول حياتك.

وجمع وصفي على شفتيه «أهلا وسهلا» مترددة حائرة، لا تكاد تبين، وجلس ثلاثتهم، وسليمان أثبتهم جأشا، وأروحهم نفسا، لا يدري ما يمور في نفسيهما من تيارات إن اختلفت في مجراها، فهي مندفعة عن معين واحد، نابعة من خلجات متشابهة، وراح سليمان يثرثر بحديث لم يع واحد منهما شيئا منه، حتى إذا فرغ عقله من أي حديث، ولم يجد شيئا يقوله، صمت، فانتبه كلاهما إلى الصمت الذي ران عليهم، وانتفض وصفي متمالكا أمر نفسه في دربة، وقال لسليمان: مبروك يا سليمان، ذهبت إلى الوزير وسيمنحك الدرجة، إن لم يكن قد منحك إياها فعلا. - يا سيدي متشكر. - وهل بيننا شكر؟ - سأكلم أحد أصدقائي في المستخدمين لعلي أجد عنده خبرا.

وقام سليمان في فرحة غامرة وخلت الحجرة بالمحبين، وفي عيني سهير تساؤل، وفي وجه وصفي حيرة، ولم يجد وصفي شيئا يقوله إلا: كيف أنت يا سهير؟

وجاهدت سهير نفسها حتى تقول: الحمد لله يا وصفي.

ثم جذبت شهقة من أعماق نفسها لتقول ثانية: الحمد لله، وأنت كيف حالك؟ - الحمد لله. - وكيف حال هند وجعفر؟ - بخير، وأولادك؟ - الحمد لله.

وران الصمت عليهما، لم تستطع سهير أن تسأل لماذا فعلت ما فعلت، ولم يستطع هو أن يبين، صمت كلاهما، وصفي يعلم ما يدور بنفسها، وهي لا تعلم إلا أنه يدرك ما يدور بنفسها، ثم لا تعرف جوابا على هذا السؤال الذي ظل أعواما يلح عليها فلا تجد له جوابا شافيا، أو لعلها تعرف الجواب، ولكنها أيضا تعرف أن وصفي لن يستطيع أن يطالعها بهذا الجواب الذي تعرفه، ماذا تراه قائلا؟ أيقول لها إنه لم يعجبه منها أن تلتقي به قبل الزواج؟ ماذا تراه قائلا؟ إنها تريد أن تسأله، تريد أن تبلو لباقته التي درب عليها في ميادين الأدب والسياسة والمجتمع، كيف سيفسر لها هذا الشقاء الذي ألقى بها إليه!

وفجأة قال وصفي: سهير أريد أن ألقاك.

وذهلت سهير لحظة، ثم قالت في تخابث وعدم مبالاة: ها أنت ذا تلقاني. - وحدنا، في مكاننا، هناك عند القارب، اليوم، الساعة السادسة من مساء اليوم.

وقبل أن تقول «لا» دخل سليمان، فراح وصفي يتكلم، وكأنه يكمل حديثا لم يقطعه دخول سليمان. - بل إن الشاعر الذي يقول:

وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما

يظنان كل الظن ألا تلاقيا

أحب إلي من الشعراء المتشائمين، فالأدب عندي متعة، والتفاؤل أجدر بالشعراء.

وقال سليمان: ماذا؟! فتحتم باب الشعر؟ لا مكان لي إذن.

وقال وصفي: هيه؟ ماذا قالوا لك في المستخدمين؟ - يا سيدي ألف شكر، لقد أمر الوزير بترقيتي.

ونظرت سهير إلى سليمان، ثم نظرت إلى وصفي وكأنما تشهده على ما فعله بها، ثم قامت من الحجرة.

وحين أقبلت سهير لتدعو الضيف وزوجها إلى الغداء، لم يلحظ سليمان بينما لحظ وصفي جفونها المخضلة، ووجهها الشاحب، لقد سكبت بعض دموع مكنتها من أن تتمالك نفسها، وتجلس إلى ضيفها الحبيب، فتجري الحديث في بساطة ورقة، حببت الجلسة إليه، تحادثا في كل شيء، في السياسة وفي الدور الذي يلعبه فيها، ووجدها على علم دقيق بكل خطواته في هذه السنوات التي غابها عنها، هيه يا حبي الأول الكبير، إن زوجتي التي لا تفارقني يوما لا تعرف عني ما تعرفين، رحمتك في بلواك، فمن يرحمني في بلواي؟ إني أعيش في بركة هادئة، صافية هذه البركة، ولكنها راكدة ليس فيها تيار، ولا هي مشوبة بقذى، وهذا الهدوء فيها وهذا الصفاء هو أتعس ما ألاقيه في حياتي، ركود يصدر عن الغباء، وصفاء لا يبتعثه إلا الجمود، وأشد ما أعاني في حياتي أني لا أجد شيئا أذمه فأشكو وأستريح، إن زوجتي سدت علي منافذ الشكوى بطاعة عمياء، وأدب بالغ أقصى المدى، فمم أشكو؟ وماذا أقول؟ رحمتك يا سهير فمن يرحمني؟ هي الحياة في بيتي أقطعها رتيبة النغمة لا تتغير، إن دخلت بيتي قطعت ما بيني وبين الحياة، وأصبحت لا شيء إلا زوج هند وأبا جعفر، فلا هند تعرف عن شأني في الحياة شأنا، ولا جعفر يفهم ما أبوه صانع، إن هند في البيت شأنها شأن جعفر، كلاهما طفل مطيع، كلاهما هادئ، ولكن طفل، أما أنت ... أنت فحياة، أنت التي كنت جديرة أن تهبي للنصر معناه حين أنتصر في المعترك، وأنت التي تشفين جراح الفشل حين الفشل، أنت معنى النصر، وبلسم الجراح تخلفت عن الصراع، وحياة الحياة التي أحياها، والنغمة العذبة في كل معنى يطالعني، إن يكن فرحا، فأنت النغمة الفرحانة، أو حزنا فأنت النغمة الآسية، وأدركت سهير ما بنفسه، قرأته في عينيه، عينيه الحلوتين، هاتين اللتين تستطيع فيهما أن تقرأ ما وراءهما، فيهما شفافية حبيبة وطالما افتقدت الشفافية في عيني زوجها فلم تجدها، طالما نظرت إلى عين سليمان وأنعمت النظر، فما زادها الإنعام إلا عجبا، كيف يرى سليمان بهاتين العينين، إنهما مطفأتان، لا نور فيهما ولا حياة، بل إن وجهه جميعا جامد صلب لولا أن صاحبه يسير جيئة وذهوبا، لما عرفت إن كان ميتا أم حيا، ويلي! لماذا لا يحيا وجه سليمان كما يحيا وجه وصفي؟ الحياة كلها هنا في هذا الوجه، إنها طالما أنعمت النظر في وجه وصفي وعجبت كيف لهذه الحياة جميعها أن تموج في وجه واحد فقط، حتى ليخيل إليها أنه ليس هناك حياة إلا في هذا الوجه، على ثناياه فرحها وغضبها وإقبالها وإدبارها، المعاني كلها هنا في هذا الوجه، لماذا أيها الوجه؟ لماذا فعلت بي هذا؟ ما الذي جنيت؟ لم أجن - علم الله - إلا حبك، وإنه لجناية أنا وحدي من صليت أخلافها وعواقبها.

وقاربت الساعة الخامسة، وقام وصفي، ولولا موعد تهفو له نفسه ما قام ...

إنه ذاهب إلى موعده لا يدري إن كان سيلتقي هناك مع نفسه وحدها، أم أنه سيلتقي أيضا مع هواه القديم الجديد، ولكن بحسبه أن يلتقي مع نفسه هناك، بحسبه ذاك، فهو ذاهب، أما هي ...

ركب وصفي سيارته، وأمر سائقه أن يسير دون أن يبين له عن هدفه، حتى إذا اقترب من مكان يستطيع منه أن يستأجر قاربا، نزل وأمر السائق أن ينصرف إلى البيت، وذهب إلى النيل، واستأجر قاربا، وأمر صاحبه أن يسير به في اتجاه القصر، إنه الحب يعود، يعود بجميعه حتى بهذه الأفعال الطفلة التي لم يقدم عليها يوما وإن يكن قد سمع بها سماعا، لقد نسي في غمرة من أمواج حبه من هو، نسي أنه النائب الخطير الذي يهتز الوزراء من نقده، ويرجف أعداؤه من هجومه، ونسي أنه أحد هاته الرموز القليلة التي يتمثل فيها جهاد شعبه ضد الاحتلال، نسي هذا جميعه، ولم يعد يذكر من أمر نفسه إلا هذا الخافق الذي عاد إليه الوجيب أعنف ما تكون العودة، فهو في طريقه إلى هواه، إلى ماضيه، بل إنه في طريقه إلى الحاضر، الحاضر الذي كثيرا ما تمنى لو أنه حققه لنفسه ... لقلبه.

حاذى القارب قارب عمه الراسي هناك، ونزل إلى المرسى وطلب إلى صاحب القارب أن يعود إليه بعد حين.

جلس وصفي في مكانه المعهود والبيت الذي ألقاه عفو الصدفة يطن في خاطره في إصرار عنيف لا يبتغي عنه حولا.

وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما

يظنان كل الظن ألا تلاقيا

وظل البيت يدور في ذهنه كنغمة تعودتها الأذن، فما تحس بها، وراح وصفي يفكر فيما كان من الأيام التي تفصل بين هذه اللحظة التي هو فيها وبين آخر مرة كان فيها هنا.

وفي القصر جلست سهير وحدها، أتذهب؟ أتلتقي به هناك؟ لا، لن تذهب، ماذا أفادت من هذا المكان، ومن هاته اللقاءات التي كانت فيه؟ لا شيء إلا الحسرة والألم والحزن، ولكن أكان الحزن نابتا من اللقاء أم من انقطاع اللقاء؟ طريق واحدة، اللقاء أسلم إلى عدم اللقاء إلى الحزن، الحزن منتهاه والألم والحسرة.

ما الجديد؟ أهي المرة الأولى التي يدعوك فيها إلى اللقاء بعد زواجك؟ ليست الأولى، لقد طالما جاءت إليك أم وديدة بموعد له فرددتها، نعم إنك لم تطرديها ولكنك رفضت موعدها، لم تمنعيها من دخول البيت، لأنه كان يطيب لك أن تعرفي أنه يفكر فيك، وأنه يريد لقاءك، ولكنك كنت ترفضين اللقاء، فلماذا تريدين هذا اللقاء اليوم؟

ماذا تريدين من الذهاب؟ مكانك، لا تذهبي، مكانك؛ فكبرياؤك أعظم من هذا اللقاء، وكرامتك أغلى من هذا الحب، فهو الحب إذن؟ نعم وأدريه، فلأذهب إذن! إنه الحب يدعوني وهو كل شيء، حب أبتر لا يلاقيك فيه، حب بلا أمل، بلا أمل؟ من يعرف المستقبل؟ من هذا الذي يستطيع أن يؤكد أن لا أمل؟ وأين لي بالأمل؟ مكانك! فقد مرت السنون، وأخشى أن ينفض القلب أغلفة الأيام، ويصبو إلى هواه الأول، ويحك! إن الأيام لم تغلف قلبك، إنه ما زال إلى حبه الأول يرنو عصي الجمحات، واله الخفق، ملتهب الحنين. مكانك فلن تزيدي قلبك إلا جموحا وخفقا وحنينا، وهل ثمة زيادة للمستزيد؟ مكانك فلا أمل ثمة إلا سراب، ولا شيء هناك إلا ألم، لا، لن أذهب! ونظرت إلى الساعة، فإذا هي السادسة والنصف، فحزمت أمرها على ألا تذهب، ولكنها لم تر بأسا أن تنزل إلى الحديقة وتسير في طرقاتها تحاول ما وسعها الجهد ألا تعود إلى ذلك النقاش مع نفسها، وسارت تفكر في ألا تفكر في موعدها، وعصت الخطى تفكيرها، فإذا هي عند السلم، وإذا هي دون وعي تنفض الحديقة بعينيها، ثم تسلم إلى السلم أقدامها! - سهير.

وفي وجيب قوي قالت: وصفي.

وارتمت على المقعد الحجري، وألقت برأسها إلى راحتيها، وانطلقت في بكاء يعلو نشيجه في صدرها، حتى إذا أراد أن ينفجر كتمه حذر وكبر.

وارتمى وصفي إلى جانبها حائرا تسيل الدموع على وجهه فياضة السكب، صامتا ملقيا برأسه إلى قبضته، ناظرا إلى الأرض لم يجد غيرها يحتمل نظراته.

وطال بهما الصمت والبكاء لم يفيقا إلا على صوت يأتيهما من النيل: يا بك.

ولم يجب أحدهما، ولكن الصوت ألح: يا بك، القارب يا بك!

وقام وصفي إلى حافة المرسى، فوجد القارب وبه صاحبه، فنفحه مبلغا من المال، وطلب إليه أن يعود بعد حين آخر، وعاد إلى سهير، فوجدها ترقأ وهي تقول: لماذا؟ لماذا يا وصفي؟ - ماذا تريدين أن أقول؟! - لماذا؟ - حمق وجهل وطفولة ورعونة. - ولكنك أضعت حياتنا، ألقيت بي إلى الشقاء والبؤس والألم والحسرة، حياتي كلها أضعتها، لماذا لقيتني ما دمت كنت تنوي أن تفعل بي ما فعلت؟ - سهير، إنني أحاسب نفسي حسابا أشد عسرا، فدعيني وما بي، ولا تزيديني ألما وحسرة. - ماذا تريدني أن أقول؟ ماذا تنتظر مني أن أقول؟ - سنوات مررن لم نلتق، ألا تجدين شيئا تقولينه؟ - سنوات مررن، لا، لم تحسها أنت، لقد شغلتك الحياة عن السنوات تمر، أما أنا فقد أمضني كل يوم من هذه السنوات، بل لقد شقيت بكل لحظة في كل يوم من هذه السنوات، حرمت فرحة الزواج، بل شقيت بهذه الفرحة، وحرمت فرحة الأمومة، وأنا أم لطفلين، كلاهما جميل، أحبهما ولكني لم أفرح بمجيئهما، حرمت كل شيء جميل، وكل شيء حولي كان حريا أن يكون جميلا لولاك، لولاك الذي تجيء اليوم لتقول لي في سهولة ويسر: حمق ورعونة، ولتقول لي سنوات مررن! ماذا تدري أنت عن هذه السنوات؟ - أدري الكثير، أدري الألم كلما خلوت إلى نفسي أو إلى بيتي، أدري أنني لم أستطع أن أهوى زوجتي أو أرى فيها غير زوجة بلا حب جامح عرفته لك ولم أجده لها، ظننت الحب يأتي هونا مع الأيام، فإذا المودة هي التي تأتي لا الحب، عرفت الليالي الطويلة، تصطرع حولي الأحداث وأجاهد ما وسعني الجهد، ثم أعدم في بيتي اليد المؤاسية والعقل الذي يعي جهادي، والأحداث والصراع، أحسست السنوات بطيئة، وانية الخطو ثقيلة الليالي. - عرفت الليالي؟! لعلك عرفت ساعة من ليلة أو ساعتين، أما أنا فالأيام والليالي والدقائق واللحظات، سوداء كلها بلا صراع ولا أمل ولا حياة ولا شيء! ماذا عرفت أنت؟! - بعض هذا يا سهير، بعض هذا، كلانا شقي ببيته. - وماذا تريدنا أن نفعل؟ - أما أنا فبيدي أن أفعل، فهل تستطيعين أنت؟ - ماذا؟ إلى أي هدف ترمي؟ - أنا في حياة لا أطيق المضي فيها. - وأنا في حياة لم أطق العيش فيها. - سليمان سهل. - لا، ليس سهلا. - تعرفين ضعفه. - المال والبنون. - والبنون؟! - إذا كانوا لا يكلفون مالا. - قولي له لا أحبك. - إنه يعرف. - قولي له لا أطيق العيش معك. - أتظنني أستطيع؟ - ألا يستطيع حبك لي وكرهك له؟ - لا أدري. - اجعلي له من المال ما يريد. - يرضى. - إذن. - وأنت؟ - أطلق زوجتي! - إذن. - فالليلة تخبرين زوجك. - ادع لي أن أستطيع. - حبنا أقوى من الخوف ومن الإشفاق. - اطلبني غدا في التليفون. - فإلي الغد.

وقامت سهير إلى القصر، وظل وصفي في مكانه ينتظر القارب، وهو شارد الذهن حيران اللب، يجمع أمره على أمر ويخشى عواقبه، فيمحو عنه الخشية حب جامح وملالة من حياة يقطعها وأمل في جديد من الحياة.

ويصل وصفي إلى منزله، فيجد البيت خاليا، ماذا؟ وكأنما خشي أن تكون زوجته قد أدركت ما كان من أمره، ثم ما يلبث أن يعرف أن أم زوجته تعاني أزمة مريرة، فلم تجد زوجته بدا من السفر دون إذنه. فقد أدركت من إرساله للسيارة أنه سيطول به السهر خارج المنزل، فركبت السيارة، وسافرت لم تنتظر.

خلا به البيت، انقطعت الرتابة التي كان يشكوها، طابت نفسه بعض الحين بفراغ البيت، إنه يستطيع أن يفكر، وهل يحتاج إلى تفكير؟ لقد استقر إلى الرأي، ولكن ... ولكني مشوق لجعفر! بل إنني أريد أن أرى زوجتي! لماذا؟ أتحبها؟ لا أدري، لا تدري؟ ففيم كل هذا؟ ففيم تريد أن تفصل أما عن أولادها؟ لقد جنيت عليها في أول طريقها إلى الحياة، فجاءت بهم، وتريد أن تجني عليها ثانية بالانفصال عنهم من أجل فكرة لا تدري إن كانت قائمة في نفسك أم غير قائمة؟ لا أدري، ولكني أريد أن أرى زوجتي، أهي لهو هذه الوشائج التي تقطعها، وهذه الآمال التي تمزقها؟ أهي عبث أطفال؟ إنها الحياة، إنها آمال قوم، ومستقبل أطفال سيطالعهم غدا بحديث أم تركتهم من أجل رجل آخر، ومستقبل طفل هو طفلك سيلقاه الزمان وهو مجرد من حنان الأبوة الذي نعمت أنت به والذي صرت بفضله إلى ما صرت، ألا تدري؟ ألا تدري؟

ومد وصفي يده إلى التليفون، وأدار القرص دورة واحدة، وطلب من الترنك أن يوصله بعزبة زوجته.

الفصل الثالث عشر

دلفت سهير إلى القصر فوجدت القصر مائجا، فالخادمات رائحات غاديات في شغل شاغل عنها، فمنهن من تحمل زجاجة وتهرول بها، وأخرى منهن تقف إلى جانب التليفون في ذعر لا تكف يد لها عن إدارة القرص، بينما انهمكت اليد الأخرى في وضع السماعة ورفعها في حركة آلية ليس فيها من فهم أو عقل، ووقفت سهير في البهو حائرة تلاحق كل سائرة، أو مشغولة بعينيها ذاهلة النظرة، مفتوحة الفم، لا تملك أن تضم شفتيها لتكون سؤالا واحدا يشرح لها الجواب عن هذا الذعر الذي يسود القصر.

واستطاعت إحدى الخدم أخيرا أن تجمع شتات نفسها وتراها، وكأنما انتشلت الخادمة من وهدة عميقة الحيرة: ستي. - خير يا نبوية! - سيدي أحمد يا ستي.

ولم تزد الفتاة، وما كانت بحاجة إلى زيادة، فقد اندفعت سهير في ثورة مجنونة إلى حجرة ولدها: ابني ... ابني.

ووجدت ولدها شاحب الوجه ملقى لا حراك به على الفراش، وقد تفتحت عيناه لا تريان شيئا، يجتذب أنفاسه وكأنما ينازعه عليها خصم عنيف قوي الأسر، فما يكاد صدره يخرج إلا حشرجة مجهودة متقطعة غير مكتملة، وارتمت أمه بجانبه: أحمد ... مالك يا أحمد؟

ولو كان أحمد يستطيع نطقا لما كان هذا الذعر الذي انقض على القصر، وقالت الأم: دكتور ... أين الدكتور؟

وجاءت الخادمة التي بجانب التليفون وهي تقول لاهثة: طلبته يا ستي، سيأتي حالا.

وفزعت الأم إليها: طلبته! ألم يذهب أحد إليه؟ أين السيارة؟ أين عم دهب؟ لماذا لم يذهب إلى أي دكتور في الجوار؟ دكتور ... أما زلتن واقفات؟!

وانتبهت الخادمات إلى صراخ سيدتهن، فتسارعن إلى السلم يدعون عم دهب.

وجلست الأم إلى جانب ولدها، ولدي، إياك أن تتركني، إنك كل شيء لي، إنك أنت ... أنت وحدك الذي أحيا له وبه، ولدي، إياك أن تتركني، إنني الوحيدة بين الأمهات التي منحت وليدها ما منحت، لقد تلقى الأخريات أولادهن وحب آبائهم يكلأ الجميع، أما أنا فعانيت من أجلك يوم حملتك، وعانيت من أجلك سنوات طوالا عشتها إلى جانب أبيك من أجلك، لم أترك أباك في كل هذه السنين من أجلك أنت، حياتي الماضية أنت والمستقبل وما بعد الممات، فإلي أين تاركي؟ أحمد، لولاك لكنت تركت أباك من زمن بعيد، أحمد، أنت لا تدري ما أنت لي! الأمهات حياتهن موزعة بين أزواجهن وأولادهن، أما أنا ... أنا وحدي بين كل الأمهات التي تتمثل حياتها في ولديها برغم أبيهما، أنت جهادي لنفسي السنوات الطوال، أنت الشيء الذي قلبت من أجله أبهى سنوات حياتي إلى أنكدها، إن أحب الأمهات أبناءهن لأنهم أبناؤهن، فأنا أحبك أنت وأختك، لأنكما أبنائي، ولأنني قاسيت من أجلكما المرارة والبؤس والشقاء والألم، قاسيت أن أحيا مع زوج أكرهه وأبذل له نفسي، أحتقره ولا أتركه، أمقته وأظل إلى جانبه زوجه، أحمد ... لي فيك ولي عليك حق الأمومة، ولي فيك ولي عليك حق الشقاء الذي ألقاه، والشباب الذي يمر، والسنين التي مضت، سعادة الأمهات بأبنائهن مجرد سعادة، أما أنت فجزائي عن الشقاء بأبيك، فأنت كل شيء، فإن يكن لحياتي معنى فأنت، أنت وأختك، أحمد، لا تتركني، ارحمني يا رب، دع هذا الطفل لي يا رب، فما الحياة بغيره! ارحم يا رب ...

ويدخل سليمان هالعا: خير ... ماذا به يا سهير؟ - سليمان ... ماذا تنتظر؟ دكتور يا سليمان، أسرع!

وخرج سليمان من فوره حائرا لا يدري أين يذهب، لم يعد يذكر طبيبا واحدا ممن يعرفهم، فهو يذهب إلى التليفون، ثم يبحث عن المذكرة التي بها الأرقام التي يحتاجون إليها، ثم يترك هذا جميعه ويهرول إلى السلم، فما إن يبلغ منتصفه حتى يصعد مرة أخرى إلى التليفون، ثم يتركه ويهم بأن يقصد إلى حجرة ولده، متخيلا أنه قد صنع شيئا، واهما أن طفله قد أفاد شيئا من هذه الهرولة التي ذرع بها البهو والسلم، وقبل أن يصل إلى الحجرة يسمع صوتا من أسفل يقول: الدكتور، جاء الدكتور.

ويسرع سليمان إلى السلم، ويلقى الطبيب فيرجوه أن يسرع ولا يجد الطبيب فرصة يسأل فيها عما دعي له، وإنما هو يقاد إلى حجرة أحمد، ويفتح الطبيب حقيبته ويخرج حقنة صغيرة يملؤها دواء، ثم ما يلبث أن يغرس إبرتها في فخذ الطفل، ثم يوالي إسعافاته وهو لا يكف عن ترديد: خير يا ستي إن شاء الله، بسيطة إن شاء الله، لا شيء يا ستي، مجرد إغماء بسيط.

وما لبثت أنفاس الطفل أن هدأت شيئا فشيئا، حتى انتظمت، وغمغم: نينة.

وصاحت الأم: أحمد، نعم يا أحمد، أنا هنا، الحمد لله على سلامتك يا أحمد.

ونام الطفل هادئ الأنفاس، وطلب الطبيب أن يتركوه ليستريح، ولكن الأم أصرت على البقاء، وخرج سليمان مع الطبيب.

وما إن خلت الحجرة بالأم وطفلها، حتى ألقت رأسها على سرير الطفل، وانطلقت تبكي في نشيج يمنعه خوف الأم من إيقاظ ابنها أن يعلو، وإنما هو بكاء حار مكتم النشيج، دفاق العبرات، ولكنها تمالكت أمر نفسها فجأة، وقامت إلى البهو، فأحضرت التليفون، وعلى الضوء الخافت أدارت القرص، ولم تلبث أن وضعت السماعة، فقد حمل أزيز الرقم مشغولا عن طلبها، وبعد دقائق رفعت السماعة مرة أخرى، وأدارت القرص نفس الدورات ولم تلبث أن قالت: وصفي. - نعم. - أأستطيع أن أكلمك؟ - أنا وحدي. - لا يمكن يا وصفي، لا أستطيع. - نعم أعرف. - فلتكن صداقة. - صداقة عميقة ودائمة يا سهير. - إلى اللقاء يا وصفي. - إلى اللقاء يا سهير.

الفصل الرابع عشر

كانت الصلاة جماعة في المسجد الكبير بقرية العواسجة، ولم يكن وراء الشيخ إلا قلة من الفلاحين، وقفوا وماء الوضوء يقطر من وجوههم، وكان يتقدم هؤلاء الفلاحين نفر من الطلبة ارتدوا الجلاليب الإفرنجية، وغطوا رءوسهم بالمناديل، وألقوا بعيونهم إلى الأرض في تخشع، كان ضوء المصباح المرتعش ينسكب على وجه جامد النأمات، مسبل العينين، تقوم من تحته بنية قوية التركيب، ثبتة القوام، وقد ارتدى صاحبه جلبابا أبيض موشعا بالخطوط الحمراء، وأحكم على رأسه منديلا كان ناسجه يريد له اللون الأبيض لونا، ولكن عدا على إرادته أيد كثيرة العبث، قليلة العناية، نزرة النظافة، ذلك هو السيد أفندي عبد البديع، النجل الأكبر لعبد البديع أفندي الدكر وزوجه محبوبة. حصل في عامه هذا على شهادة التوجيهية، وعاد إلى القرية ليهنأ بين أمه وأبيه وآله بلذة النجاح.

انتهت الصلاة، وخرج بعض المصلين من الجامع، وبقي فيه السيد والتلاميذ الآخرون، وقلة ضئيلة من الفلاحين لم يتركوا الجامع، بل إن منهم من استقر على الجلسة التي كان يقرأ بها التحيات ، ومنهن من أخرج قدمه من تحت جسمه وأدارها، فأصبحت مثنية أمامه، ثم ألقى ذقنه إلى يده، ومد بصره في تشوف إلى السيد، واتخذ السيد جلسة مستقرة بعد أن أدار ظهره إلى القبلة، وراح يبسمل ويحوقل، متهيئا لإلقاء درسه الديني، وقد خلا له الجو، وانفرد في الجامع بالفلاحين ومن يصغرونه من الطلبة، منتهزا فرصة جهلهم جميعا، وفرصة علمه الضئيل المليء بالخزعبلات والأحاجي، وراح الفلاحون - قبل أن يبدأ - يمصون شفاههم، كأنهم يختبرون الصوت الذي يصدر عنها، أشبه ما يكونون بأفراد تخت موسيقي يجربون آلاتهم قبل البدء في عزف الدور الذي سيعزفون.

وبين أصوات الشفاه يمصها الفلاحون، وأسئلة صغار الطلبة يطلقونها لإثبات وجودهم، بدأ الدرس وانتهى.

وخرج سيد منتفخ الأوداج، مزهوا أن ألقى الدرس على هؤلاء القوم المساكين، وزاده كبرا وزهوا اثنان من مريديه لحقا به، وراحا يسألانه في إكبار وإجلال: منذ متى يا سيد وأنت منضم إلى الشعبة الرئيسية في المديرية؟ - من زمان. - ولم تخبرنا يا أخي ونحن معك كل يوم؟ - لا بد أن أثق بكما أولا لأخبركما. - وهل لك فئة خاصة تتفرع من هذه الشعبة؟ - نعم. - وما اسمها؟ أهي الأسرة التي يقولون عنها؟ - هذا سر. - ومن رئيسها؟ - لا أستطيع أن أقول، هذا أيضا سر لا أستطيع البوح به. - لا بد أنك أنت الرئيس.

وعلى خيوط القمر الزرقاء رأى الصاحبان شبح ابتسامة تلوح مخايلها على شفاه السيد، فصاح أحدهما قائلا: نعم إنه هو يا حسين.

وقال السيد نافيا في لهجة تزيد ظن الصاحبين إثباتا: لا يا شيخ، لا يا محمد، هذه أسرار يا رجل، أستغفر الله العظيم.

وسأل حسين: ولكنك يا سيد لا لحية لك.

وقال السيد مغيظا: أنا بلا لحية؟ ألا ترى لحيتي؟

وقال حسين في بلاهة: لا.

وقال السيد في حدة: هات يدك، هات.

واجتذب يد حسين المسكين وحك بها ذقنه فقال ذاهلا: آه صحيح! - لقد بدأت في إطلاقها قريبا.

وكانت يد حسين لا تزال على لحية السيد حين انغرز كوع محمد في بطنه، وهو يهمس: انظر.

ونظر حسين إلى حيث يشير محمد فرآها، فإذا هو بغير وعي منه، يضرب محمدا بكوعه ويضع سبابته أمام شفتيه ويهمس: اسكت، أجننت؟

وكانت أنظار سيد كلها ناشبة في الفتاة التي تمر منهم على مقربة، تمشي زهوا في خفة وإصرار، ولكن أذنه كانت صاغية إلى همس صاحبيه، فهو يقول: ماذا يا محمد؟

وسارع حسين قائلا في لعثمة: لا شيء، لا شيء يا سيد، لا شيء والله.

فقال سيد: يا أخي أنا لا أسألك، أنا أسأل محمد.

وقبل أن يلفظ حسين مجموعة أخرى من اللاشيء، قال محمد في صوت تبين فيه الرغبة اللاهبة في أن يلقي ما يزدحم في نفسه من أسرار: لا، لا شيء.

وقال سيد: وأنت أيضا تقول لا شيء، يخيل إلي أن هناك علاقة بين ناعسة وبين حسين.

وإذا محمد يقول في فرحة غامرة: شفت يا عم، أنا لم أقل له، عرفها هو وحده.

وقال سيد: أي علاقة بينكما يا حسين؟

وتلعثم حسين، بينما استطرد سيد قائلا: قل يا أخي.

وازدادت لعثمة حسين، واشتعلت رغبة السيد في أن يعرف تفاصيل هذه العلاقة، كان يريد أن يعرف تفاصيل كل وشيجة من هذه العلاقة، ولم يجد غير مركزه الديني يركبه، ليصل إلى ما يريد، قال السيد ضائقا: قل يا أخي، فكل إنسان عرضة للخطأ، ولكن الإصرار على الخطأ هو الشرك والكفران.

قال حسين في تردد: لا شيء يا سيد، لا شيء إلا ... - هيه، إلا ماذا؟ - بوسة.

وقال سيد وقد اتسعت عيناه، وجف ريقه، وسرت في دمائه نشوة ثائرة: بوسة؟ أين؟

وتمالك حسين أمر نفسه بعض الشيء وهو يقول: في خدها. - لا! أنا أقصد أين كنتما حينذاك؟ - أتعتقد أن لمكان وجودنا شأنا كبيرا من الناحية الدينية؟

وآن للسيد أن يتلعثم بعض الشيء وهو يقول: لا، لا طبعا، وإنما ... أحب أن أعرف المكان، وسأخبرك لماذا. - في الذرة.

وقال محمد: وقعت يا بطل.

وصاح سيد في لهجة ظافرة: آه، أرأيت! لم تكن قبلة على الخد إذن، لقد كانت قبلة في الفم، في صميم الفم يا أستاذ، الذرة لا يذهب إليها من يريد قبلة على الخد، هيه ما قولك؟! - والله يا سيد مرة واحدة فقط، وتبت بعدها ورجعت إلى الله. - هذا حرام يا حسين، لا بد أن تتوب إلى الله، وترجع إلى الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، لماذا يا حسين؟ لماذا؟ وماذا فعلت معها؟ - ماذا؟ - ماذا فعلت معها؟ لعلك إن شرحت لي استطعت أن أطمئنك أنك لم ترتكب إلا اللمم، وحسابه عند الله يسير!

اشرح لي يا حسين، اشرح لي بالتفصيل.

وراح حسين يشرح، وكلما أغفل هنة نبهه إليها السيد في يقظة صاحية، لا يني عن القول كلما توقف حسين ليلتقط أنفاسه «يا سلام»، ودون أن يحس حسين يجيب في ذهول نشوان «والله».

وأتم حسين القصة وصمت، وظل ناظرا إلى السيد، منتظرا منه أن يقول شيئا، وظل السيد ناظرا إلى حسين، متوهما أو متمنيا أن تكون للقصة بقية، وظل الاثنان يحملق كل منهما إلى الآخر فترة لم يدريا أطالت أم قصرت، حتى تنبه حسين أخيرا وتلفت حوله: الله، محمد مشي، أنا أعرف أين ذهب، مسكين سيمرض من كثرة اختلائه بنفسه.

وقال السيد: ماذا؟ - لا شيء. - هيه، وبعد؟ - وبعد فيم؟ - في حكايتك. - حكايتي؟! حكايتي انتهت من زمان. - وكم دفعت لها. - ربع جنيه.

وهمس السيد لنفسه: ربع جنيه بنت الكلب، النهاية.

ثم عاد إلى حسين: هيه، وبعد؟ - وبعد فيم؟ - في حكايتك. انتهت؟! - أقول لك انتهت. - نعم.

ولكن السيد لم يقتنع بهذه الإجابة، بل إنه راح يسأل مرة أخرى عن تفاصيل معينة، في اهتمام شديد، وإنصات واع، إلى أن استعاد القصة جميعها على طريقة سقراط من أسئلة وأجوبة، حتى إذا فرغت أسئلته، ظل محملقا في وجه حسين، وظل حسين محملقا في وجهه هنيهة هو الآخر، ثم قال: هيه.

وقال السيد وهو في غمرة من الأفكار: هيه ماذا؟ - أحرام ما فعلت؟

وانتفض السيد متذكرا السبب الذي أبداه ليستدرج القصة إلى الخروج. - آه، آه، حرام طبعا، حرام يا بني والله، حرام، ولكن الله غفور رحيم، اذهب إلى البيت وصل، وارج الله أن يغفر لك.

وانصرف حسين خجلا يتعثر في مشيته، مزمعا في نفسه توبة لا يعود بعدها إلى هذا الإثم.

واقترب السيد من الطريق الذي عبرته ناعسة، وأقام مستخفيا يرصد الطريق من حيث ذهبت، فهو يعلم أنها عائدة، فما كانت وجهتها إلى بيتها، ولا بد لها أن تعود وإنه لمنتظر.

كانت ناعسة فتاة ريانة العود، مليحة القسمات، وكان أبوها قد زوجها إلى رجل عجوز، طامعا أن يعوض الرجل ابنته عن شبابه بالمال الوفير، ولكن الرجل خيب ظن حميه، فهو وإن ملك مالا، إلا أنه لا يملك الجرأة على إخراج المال، ففقدت ناعسة في زوجها الحسنيين من شباب ومال، ولم تجد ناعسة خيرا من بيع محاسنها لتكسب بذلك كل ما خسرته في زواجها.

ولم يعرف سيد هذه التجارة التي افتتحتها ناعسة إلا حين عاد إلى القرية، وقد تقبل هذه الأنباء في تأفف ظاهر، وفي رغبة مختفية أن يكون زبونا لها، ولكن عاقه عن ذلك أمران: أولهما تظاهره بالتقى تظاهرا يسد عليه المسالك أو يكاد، وثانيهما قلة المال في يده، ولو كانت ناعسة قد بدأت تجارتها قبل أن ينحاز سيد إلى ناحية الدين، لأصبح شأنه غير هذا الشأن، ولاحتال على المال، وبلغ به من ناعسة ما يريد، ولكنها تأخرت. واتخذ هو مظهره هذا الذي يضيق به غاية الضيق، فما كان مؤمنا بما يقول أو يفعل، وإنما انضم إلى فئة الدين حين أعجزته الحيلة أن ينضم إلى فئة الفجرة، وإن كان إلى هذه الفئة الثانية أشد ميلا وأكثر شوقا، على أن هذا لم يفت في عضده، فقد وعد نفسه خيرا، وطلب إليها الصبر إلى أن تحين فرصة في طريق خال.

وها هو ذا الطريق خلا، وناعسة تقترب منه: مساء الخير يا ناعسة. - مساء الخير يا سي سيد أفندي. - إلى أين؟ - إلى البيت. - وفيم العجلة؟ - تأخرت. - أريدك في كلمتين. - وأي كلام بيننا يا شيخ سيد. - كلام مهم والله. - تفضل، قله. - لا، لا ينفع الكلام هكذا. - وما الذي ينفع؟ - تعالي. - إلى أين؟ - إلى الذرة. - الله، شيخ سيد! - ماذا؟ - شيخ سيد، حتى أنت يا شيخ سيد؟ - لا والله، وإنما كنت أريد أن أكلمك. - تكلم، المكان الذي نحن فيه يصلح للكلام، أما الذرة يا شيخ سيد ... - شيخ سيد، شيخ سيد، هل شفتني ألبس العمامة والجبة؟ - لا، ولكن شفتك في الوعظ يا شيخ سيد! - يا شيخة، تعالي. - عيب يا شيخ. - العيب ما فعلتيه مع حسين. - أقال لك؟ - نعم. - طيب، هل معك المبلغ؟ - والله ليس حاضرا معي، أعطيك غدا. - غدا لا ينفع يا شي ... يا سيد أفندي، كيف أستطيع أن أطالبك غدا، الدفع مقدما يا سيد أفندي. - وإن كنت مفلسا؟ - فلا أعطلك. - ولكني أريد أن تعطليني. - هات كيلة ذرة. - كيلة؟! - نعم، كيلة. - فانتظريني حتى أحضرها. - أين؟ - في ذرة أبي، على طرف الغيط من ناحية الترعة. - لا تتأخر. - حالا.

وانصرف سيد إلى بيتهم مسرع الخطو، فما إن بلغه حتى خلع حذاءه وتسلل على أطراف أصابعه إلى الحجرة التي يعلم أن بها الذرة، وملأ طرف جلبابه ذرة تزيد على الكيلة، فما راجعها في الكمية إلا حبا في المراجعة، وخرج سيد متلصصا كما دخل، ونفض المكان بعينيه، وخيل إليه أنه لم ير أحدا، ومشى سبيله إلى المكان، وما إن بلغه حتى همس: ناعسة ... ناعسة أين أ...

ولم يكمل الكلمة، فقد انصبت على قفاه يد حديدية صاحبها صوت أبيه مغيظا صارخا في حنق، دون أن ترتفع نبراته: أهي ناعسة يا ابن الكلب؟ وعامل لي شيخا تنقصك العمامة يا ضال يا زاني يا ابن الكلب، قدامي إلى البيت، قدامي أنت وذقنك، والله لتسافرن غدا إلى مصر. - أبي؟ - اخرس وامش، امش ... امش. - إنها ... إنها ... - اخرس قلت لك.

ومشى سيد يتعثر في خطاه، ومن ورائه أبوه، حتى إذا بلغا البيت قاد الوالد ولده إلى المخزن، وأعاد الذرة إلى مكانها، ولم يستطع أن ينتظر حتى يخرجا من الحجرة، بل هو يقفل الباب ويحكم رتاجه، ويمسك بتلابيب ولده، ويخلع النعل من قدمه ...

الفصل الخامس عشر

كان أحمد جالسا إلى أمه في إحدى غرف القصر حين دخل إليهما حسام الذي حيا خالته وقبلها ثم جلس، وقالت سهير: كيف حال سميحة وأختك نوال؟ - بخير والحمد لله. - لقد قالت لي أمك اليوم إنها ستأتي. - والله لا أعرف، فأنا لم أقل لها إني قادم إليكم.

وسكتت سهير، وران الصمت عليهم بعض الحين، ثم قطعه حسام متسائلا، وهو يظهر عدم الاهتمام، فيخيب تظاهره: أين هناء إذن؟

وقالت الأم: يا سيدي صممت أن تشتري هي لأخيها ما يلزمه من أقمشة للحلل والقمصان ليدخل بها الكلية. - ولماذا لم تذهب أنت يا أحمد؟ - يا أخي، أنا لا تهمني الأناقة، ولكن نينة هي التي تريد أن تشتري لي ثيابا جديدة، وقد صممت هناء أن تختار هي الملابس.

وقال حسام: وهل نزل معها عمي سليمان؟

فقال أحمد في شبه سخرية: وما شأن عمك سليمان بهذا؟

فقال حسام متلعثما: لا، لا شيء، ولكن هناء وحدها؟

وابتسمت سهير في فرح وهي تقول: لا تخش شيئا يا سي حسام، لقد خرجت في السيارة مع السائق، ولن تذهب إلا إلى محل واحد، وتعود في السيارة، اطمئن يا حبيبي، والله لولا مرضي لخرجت معها.

وازدادت لعثمة حسام، وقد أحس أنه قد كشف خبيئة نفسه: لا، لا شيء، لا شيء ولكن ...

وحينئذ جاء الخادم ليعلن إلى أحمد مجيء فوزي عبد المجيد، ووجد حسام طريقا آخر يسلك فيه بحديث جديد، فقال: يا أخي فوزي هذا لا أطيقه أبدا.

فقال أحمد: ولماذا يا سيدي؟ ألأنه يقول الحق؟ - أكان حقا هذا النقد الذي راح يكيله لعمي وصفي باشا.

فقالت سهير في اهتمام: ينتقد وصفي باشا؟ وأمامك يا أحمد، كيف تسمح له؟

فقال أحمد في لعثمة: إنها مرة واحدة، وقد رددته في خشونة، وأخبرته أنني لا أحب أن يذكر أمامي عمي وصفي باشا إلا بالخير.

وتدخل حسام ثانية قائلا: ليس هذا فقط، ولكنه كثير الانتقاد للأغنياء، وكثير الكلام عن الغنى، فهو لا ينسى مرة أن يقول: إن الغنى لا بد أن تصاحبه الميوعة والجمود، وعدم الإحساس بالفقراء، وكدحهم وشقائهم.

وسارع أحمد قائلا: أليس هذا صحيحا؟

ودهشت الأم من كلام أحمد، فسارعت تقول: لا يقول هذا إلا حاقد، إنما الغنى والفقر بيد الله، والغني رجل كد واجتهد حتى أصبح غنيا.

فقال أحمد: أنا لا أرى أبي قد كد واجتهد.

وأرتج على سهير هنيهة، ثم قالت: بل إنك تعلم أن أباك قد نال دبلوم الهندسة ...

فقاطعها أحمد قائلا في سخرية خبيئة: من أوروبا.

وأحست الأم تهكم الابن، ولكنها تجاهلته، وقالت: وهل ترى أباك غنيا؟ - هو غني بلا شك، إنه يعيش عيشة الأغنياء. - أنت تعلم أنه ليس غنيا. - إذن فأنت الغنية، كم اجتهدت أنت وكم كدحت؟ - أبي كد واجتهد، حتى يوفر لي السعادة. - أبوك اجتهد، فلماذا تستفيدين أنت؟ - إنه لولاي ما اجتهد، أي غريبة في ذلك، إنها سنة الكون، الأبناء يخلقون الطموح في نفوس الآباء، إنك غدا حين تنجب أطفالا ستعلم كيف يكون الطموح، وحينئذ تسعى إلى أن تجعل أولادك أغنى الأولاد، تلك يا بني حكمة الله وسنته، وبها تدور عجلة الحياة. - نعم أعرف، فكلما أريد لنا أن نسكت فلا نفكر ذكر الله، فلماذا لا يعطل الله تفكيرنا حتى لا نفكر في عدله وحكمته وسنته وكل هذه الأشياء التي تبدو لنا، وغيوم الشك تغشاها.

وصاح حسام: أرأيت يا خالتي هذه أقوال فوزي.

فقال أحمد: وإنها حق.

وأصبح وجه الأم باسرا قلقا: ما هذا الكلام يا أحمد، ما هذا الذي تقول؟ - رأيي. - لا تظن أنك بهذا الرأي تبدأ طريقا جديدا، إنها طريق سبقك فيها الكثيرون، وعادوا عن رأيهم. - إنهم سجناء، جبناء لا يقوون على فك قيودهم، إنهم سجناء العادة والوهم والتقاليد، لو أمعنوا التفكير وفكوا قيودهم لما عادوا، إنهم القطيع.

ورأى حسام أن النقاش سيحتدم، ورأى وجه خالته يحتقن، وخشي أن تصاب بالنوبة القلبية التي تعاودها، فسارع قائلا: قم، قم يا عبقري، انزل إلى صاحبك العبقري الآخر!

وفهمت سهير ما أراد إليه ابن أختها، فسكتت مذعنة، فما كانت تطيق أن تغضب ابنها، وقال أحمد: وأنت؟ ألا تنزل معي؟ - نعم سأنزل معك، وأمري إلى الله.

وصاحت سهير بالخادمة: يا نبوية، هاتي سجادة الصلاة.

ونزل الشابان، وأقامت سهير الصلاة، وبينما هي تصلي دق جرس التليفون وأجابت نبوية فسمعتها سهير وهي تقول: لا يا سعادة الباشا، إنه ليس هنا.

ثم سمعتها تقول: إنها تصلي.

ثم قالت: لا، لن تتأخر.

وتركت السماعة إلى جانب التليفون، وسرعان ما أنهت سهير الصلاة، وانفلتت إلى التليفون ليقول لها وصفي: أين سليمان؟ - خرج. - أنا في البيت، بمجرد مجيئه أخبريه أني منتظره. - هل حصل شيء يا وصفي؟ - لا أبدا، ولكن أريد أن أراه في مسألة تهمه. - طيب.

وبدت هناء صاعدة من السلم، حتى إذا بلغت مجلس أمها رأت على شفتيها مخايل ابتسامة يحيط بها شيء من الفرح، فقالت لأمها: خير، ما هذه الابتسامة؟ - لا، لا شيء، ولكن ابن خالتك حسام كان هنا، وزعل لأنك خرجت وحدك.

فتجهمت هناء قائلة: وما شأنه هو؟ - شأنه؟ إن له شأنا ليس لأحد، إنه يحبك. - وأنا أحبه أيضا، أحبه كما أحب أحمد، لقد ربي معي ولا أستطيع أن أنظر له إلا كأخ.

فقالت الأم في جد: اسمعي يا هناء، مسألة الأخوة هذه عذر فقط!

ثم تنهدت من أعماق ذكرياتها، وقالت: من قال إن القريب لا يحب، هناء، هذا عذر فقط فاذكري لي الحقيقة. - الحقيقة أني غير معجبة به! - لماذا؟ إنه شاب غني متقدم في دروسه. - عقليته يا نينا. - ما لها؟! - عادية، إنسان عادي جدا. - ألا يشفع له غناه؟ - على العكس، أنا أريد إنسانا فقيرا يغنى بعمله واجتهاده ونكبر معا. - هذا هراء يا بنتي، فأنت غنية، وإذا تزوجت فقيرا، فسوف يركن إلى غناك، ولا يسعى للغنى. - يا نينا لا أستطيع أن أفكر فيه كزوج، إنه ابن خالتي مثل أخي تماما. - عدنا إلى هذا، وأنا ألست متزوجة من ابن عمي؟

وترددت هناء هنيهة، ونظرت إلى حيث لا تلتقي عيناها بعيني أمها: وهل أنت سعيدة يا نينا؟

وأرتج على سهير، فما تدري بماذا تجيب ابنتها، وقبل أن تصوغ جوابا، سمعت أقدام سليمان صاعدة على السلم فنادت: سليمان. - نعم. - وصفي منتظرك في بيته، ويريدك أن تذهب إليه الآن. - الآن؟ - نعم.

وعاد سليمان طريقه إلى الباب الخارجي، وما كاد يتركه حتى دخل البيت عبد البديع ووراءه السيد حاملا حقائبه.

وأرسل عبد البديع إلى سهير يستأذنها أن يلقاها فأذنت، وصعد إليها ينبئها أنه جاء بسيد ليقيم لديهم، فرحبت به وطلبت إلى عم دهب أن يعد حجرة للسيد، وينصرف عبد البديع داعيا لسهير وأولادها بطول العمر والرفاهية، ولا ينسى عبد البديع ألا يدعو لسليمان بأي خير، فما كان يرجو له خيرا.

الفصل السادس عشر

كان وصفي جالسا في بيته ثائر الأعصاب يفكر في هذا الأمر الذي لقيه به وزير الأشغال في يومه هذا، أي مخجلة تلك التي يطالعه بها أقاربه، وأي قريب؟ إنه زوج سهير، لا يطيق وصفي أن يروع حياة سهير وأولادها بأكثر مما روعها، إنه يشعر أنه المسئول عن هذا الزواج الذي ألقيت إليه سهير.

لم يشأ جعفر أن يترك أباه في زحمة من ضيقه هذا، بل هو يدخل إليه يطلب بعض المال ليشتري كتبا جديدة ظهرت، وقد تعود وصفي ألا يرد لابنه طلبا مثل هذا، ولكنه في ضيقه هذا يوشك ألا يحفل أمر ابنه، ثم ما يلبث أن يعطيه ما طلب، ويخرج جعفر، وما هي إلا بعض دقائق حتى يدخل سليمان: خير يا باشا؟ - أي خير يا سي سليمان؟ - ماذا؟ ماذا حصل؟ - يا سليمان أنت تعلم كم جاهدت من أجلك، حتى تصل إلى مركزك هذا. - نعم أعلم. - أيليق بك بعد هذا أن تلوث سمعتنا، ونحن نعتمد على الشرف في حياتنا، ونحارب أعداءنا بنزاهتنا؟ ماذا يقول الناس عنا؟

وأحس سليمان أن وصفي عرف ما ارتكبه، وأوشك أن يماري الحق، ولكنه عدل عن ذاك وارتأى أن يستمر في تغابيه: ماذا؟ - إحسان بك عبد الفتاح.

وأرتج على سليمان لحظة، ثم قال: ما شأنه؟ - ماذا جرى يا سليمان؟ أتراني فارغا لهذا التغابي؟ لقد كنت عند وزير الأشغال الآن وهو الذي أخبرني! - أخبرك بماذا؟ - بأنك أخذت رشوة من إحسان. - أنا؟ أنا؟ - نعم أنت. - لماذا؟ - لتحفر له ترعة في أرضه التي اشتراها حديثا بعقد عرفي. - إنه لم يقل إنها رشوة. - فماذا قال؟ هدية؟! - أبدا، وإنما قال إنه يتبرع بها.

وقال وصفي ساخرا: يتبرع بها؟! لماذا؟ هل أصبحت جمعية خيرية على آخر الزمن؟ - لا ولكن كنت أفكر أن أشترك في جمعية العميان، وكان الحديث معي في ذلك الشأن يجري أمام إحسان بك فتبرع بالمبلغ. - بخمسمائة جنيه؟! أهذا تبرع؟ إنها رشوة يا باشمهندس، رشوة!

وحاول سليمان أن يفتعل ثورة: لا، أنا لا أقبل الرشوة، لا أبدا!

وقطع وصفي افتعاله في جمود: اسمع، هات الفلوس.

وامتقع وجه سليمان: ماذا؟ - أقول هات المبلغ. - ولكنه ليس معي. - إنه معي أنا. - لا أفهم. - لقد دعوت إحسان، وهو قادم الآن، وقد أعددت له المبلغ، وسأعطيه له الآن، فاكتب أنت لي شيكا بالمبلغ، الآن. - أكتب شيكا؟! - نعم. - ولكن ليس معي دفتر الشيكات.

فقال وصفي في حزم صارم تمور فيه ثورة وتهديد: سليمان، اكتب الشيك على ورقة بيضاء.

وفهم سليمان كل المعاني التي تصاحب هذا الأمر، فسارع يكتب الشيك مذعنا، وما إن فرغ من كتابته، حتى جاء الخادم يعلن قدوم إحسان بك، فأذن له وصفي ودخل، وما كاد يجلس حتى أخرج وصفي من جيبه ظرفا وأعطاه لإحسان قائلا: خذ هذا. - ما هذا يا باشا؟ - الرشوة التي دفعتها لسليمان.

وتلاقت عيون إحسان وسليمان، ثم أطرق إحسان خجلا قائلا: ولكنها ليست رشوة يا باشا. - اسمع، إما أن تأخذ المبلغ، فأعتبر المسألة كأن لم تكن، وأجعل طلب الترعة الذي تقدمت به يسير في طريقه الطبيعي بلا عرقلة ولا محاباة، وإما أن ترفض قبوله، فاعلم أن الترعة لن تشق أرضك ما دمت أنا على وجه الحياة.

ووضع إحسان المبلغ في جيبه في تخاذل، وهو يقول: أمرك يا باشا. - على ألا تعود إلى هذا يا إحسان بك. - أمرك يا باشا. - شكرا. - تسمح بالانصراف؟ - لا مانع.

وخرج إحسان دون أن يدعوه وصفي ليشرب القهوة، فقد رأى فيه صورة بشعة تشبه المرأة الداعرة التي تغري الشباب بالخطيئة، وحين أراد سليمان أن ينصرف استبقاه وصفي ليقول له: أتذكر حديثا بيننا منذ سنوات بعيدة، بعيدة جدا، حين جئت لتطلب أول درجة ارتقيتها في سلك الحكومة.

ونكس سليمان رأسه قائلا: نعم أذكر.

وقال وصفي في حزم: حسنا، فأنا لا أحب أن أعيد هذا الحديث ثانية، وبطبيعة الحال لا لزوم أن تعرف سهير شيئا من هذا، فمرض القلب الذي تعانيه لا يحتمل هذه الأزمات، قل لها إذا سألتك عما أردتك فيه ... قل لها إنني ... إنني ...

وداخل صوته شيء من السخرية وهو يقول: قل لها إنني أردت أن أبلغك رضاء الوزير عنك.

وأطرق سليمان، لأنه لم يعرف أين يولي وجهه، وقال وهو خارج: نعم، هذا ما سأقول.

وخرج.

الفصل السابع عشر

شهور مضت تليها شهور وأنا هنا حبيس في هذا البيت أو القصر أو أي شيء كبير، لا أملك أنا فيها شيئا إلا هذه الملابس التي أتلقفها من أحمد بك، شهور مضت وتلتها شهور، وأنا حبيس لا أصنع شيئا إلا أن أجلس مع أحمد بك ومع صديقه، هذا المتذاكي الذي لا يكف عن الانتقاد والسخط، شهور وأنا أرى هناء، هناء هانم تأتي إلينا في حجرة المكتب ثم تتركنا بعد أن تسمع الحديث الطويل الذي برع فيه السيد الحكيم، العالم النابه فوزي عبد المجيد، ذلك الحديث الذي يلقيه فلا يجد أحدا يرده، فالجميع به معجب، وأي جميع! إنهم، أو إنهما، أحمد وهناء؛ ألا تكفي هناء حتى أقول الجميع؟ إنها الجميع لا شك! إنها كل شيء حين أنا لديها لا شيء، وماذا أكون أنا، وأنا لا أتحدث في أي موضوع، إنني حتى حين حاولت أن أظهر علمي الديني لقيت من الجميع سخرية وهزؤا، فما الدين عند ثلاثتهم بالأمر الخطير، الدين جميعه لا يهمهم في شيء، فكيف أحادثهم عن أركان الوضوء وإقامة الصلاة وغير ذلك مما كنت أنال به في العواسجة التبجيل والتوفير والاحترام؟ إن هذا الفوزي لا يترك مجالا لأحد أن يتكلم إلا إذا جاء جعفر بن وصفي باشا، فهو وحده الذي يقف له بالمرصاد، ويرده في عنف حينا وفي لطف أحيانا، أما حسام فلا شأن له بأي موضوع يتكلم فيه أحد، كل ما يعرفه أن يظل رانيا إلى هناء، نظرات تحسها هي، ثم ما تلبث أن تنفضها عن نفسها في زهو وخيلاء أنها كعبة أنظار، ثم لا تفعل بعد ذلك شيئا إلا أن تعجب بفوزي عبد المجيد وحديثه الطويل عن الغنى والفقر والظلم والعدل والديمقراطية والاشتراكية، أين يجد هذا الكلام؟

وأنا ماذا ألم بي؟ لماذا لا أخرج؟ لقد ضرب علي عم دهب حصارا عنيفا، فأنا لا أخرج إلا وهو على علم بكل مكان أقصد إليه، وأنا لا أنال من النقود إلا صبابة لا تغني، وكنت فرحا أنني آت إلى مصر أعوض فيها ما فوته علي أبي حين أمسك بي عند الذرة، فإذا بيده التي انصبت على قفاي لا تزال تلاحقني هنا بقبض المال عني، وبعيون عم دهب الرواصد علي، وأحببت هذا الحبس أول الأمر، فرحان أن أكون إلى جانب هناء، فإذا هناء لا تحس بي، وكيف لها أن تحس؟ وأنا مهما أكن طالبا في الجامعة فلن أزيد على ابن عبد البديع، فإن احترمتني فأنا ابن عبد البديع أفندي ولا زيادة، شهور مضت وتلتها شهور، أفأظل هنا قابعا إلى فتاة ما أظن أنها ستحس بي يوما؟ أما آن لي أن أخرج إلى الحياة؟ لقد رفضت أن أشترك في أي نشاط في الكلية، حتى تظل فترة المساء كلها خالصة لهناء، ولكن ماذا جنيت من كل هذا؟ لا شيء، ضياع في مجالات الهوى، وضياع في مجالات المجد لقد رفضت حتى أن أشترك في نشاط الجماعة في الكلية، والله لن يكون هذا منذ اليوم، إنني إلى الحياة خارج، فافتحي لي صدرك أيتها الحياة! إلى أين؟ أين يمكن أن ألتقي بالحياة؟ علي أولا أن أحدد الجهة، إنها شارع فؤاد لا شك في ذلك، فالحياة تمور فيه مورا، والنسوة لا ينقطعن عنه ذهابا وجيئة.

ولكن أي منطقة في شارع فؤاد خليقة أن أجعلهما مرقبي؟ إنها تلك التي يقع فيها محل الأمريكين، إن هناك اتفاقا غير مكتوب بين الفتيات والفتيان أن يلتقوا في هذا المكان، فإليه!

دارت هذه الأفكار في ذهن سيد، وهو يختار أجمل ملابسه، ويضعها على نفسه، حتى إذا أتم زينته، خرج من باب حجرته، وصعد بضع درجات، فأصبح على سطح الأرض، أرض الحديقة، وتلفت حواليه فاطمأن إلى أن عم دهب غير موجود، فعبر الحديقة مسرعا يتحسس الجنيه الذي أوهم عمه دهب أنه سيشتري به كتابا لا بد منه للكلية، وبعد حين كان سيد عبد البديع يلوب في مكانه حول باب الأمريكين، والنساء يتهادين أمامه، يرى الواحدة منهن فيوشك أن يتقدم منها، ثم يثنيه عن الإقدام خوف راعد يملأ نفسه، وطال به الأمر وهو حائر لا يدري كيف يبدأ حديثه، وأخيرا رأى إلى جانبه فتى شديد الأناقة يقف في مكانه متحفز النظرات، لا تستقر قدماه على حال، ولا يستقر رأسه إلى جهة، فهو دائم التلفت، يتربص بالشارع جميعا، حتى مرت به أخيرا فتاة غيداء، أنيقة غاية الأناقة، ما كان سيد ليجرؤ أن يرفع إليها نظره، فهي حلوة المشية، متعالية رفيعة النظرات، لا تذكره إلا بهناء في ترفعها وكبرياء تصرفاتها.

اقتربت الفتاة منه ومن هذا الفتى الذي يقف إلى جانبه، وكان الفتى إليها أقرب، فسارع إليها قائلا: مساء الخير.

وذهل سيد حين سمعها تقول في هدوء: مساء الخير.

ماذا؟ مساء الخير! دون أن تضربه أو تدفعه عنها، أو حتى تسير ولا تلتفت إليه؟ أهي مسألة ميسورة سهلة إلى هذا الحد؟ مساء الخير، ثم أضع ذراعي في ذراعها ونمضي؟ وأنا هنا واقف منذ ساعات أقدم رجلا وأؤخر ستين رجلا؟ ما أغباني!

وتربص سيد بالطريق، وما هي إلا دقائق حتى مرت فتاة أخرى، إن تكن أقل أناقة من سابقتها، إلا أنها لا بأس بها، ولو أنها كانت أقل من هذا بكثير لما تورع عنها، وأين أولئك النسوة، أين هن جميعا من أجمل فتاة بقرية العواسجة، أين هذه الملابس المهفهفة، والنحور العارية، والأثداء المشرئبة؟ أين هذا جميعا من ذلك الثوب الأسود الذي ترتديه فتيات العواسجة؟ خيبة الله عليهن، واقتربت الفتاة من مكانه، فسارع إليها قائلا: مساء الخير.

ونظرت إليه الفتاة في سخرية، وسارت في طريقها دون أن تجيبه أو تشعره أنها أحست به، ولكنه وقد بدأ الحديث، أبى أن يترك الفرصة، فهو يترك مرصده ويسير خلفها: مساء الخير.

ولم تلتفت إليه الفتاة، بل ظلت سائرة في طريقها، وأعاد هو التحية مرات ومرات، والفتاة على حالها من الجمود والتجاهل، وظن سيد أنها ما دامت لم تزجره، لن تلبث أن تجيب تحيته، وعلى هذه الأمنية سار خلفها دقائق، وسمعها تقول شيئا: يا شاويش، أبعد هذا الأفندي عني.

وسمع السيد ما قالت، فثبت مكانه كالتمثال المنصوب، ولم يفق من ذهوله إلا على الشاويش ساعيا إليه، فإذا هو ينفض الجمود الذي أمسك بأقدامه ويروح يعدو عائدا، حتى إذا وجد الطوار مزدحما بالمارة، وخشي أن يلحق به الشرطي، قطع عرض الشارع غير آبه بالسيارات التي تسعى فيه، ولولا أنه كان يعدو كالصيد يروغ من صائده، ولولا لطف الله لما وصل السيد إلى الشارع الجانبي سالما.

ووقف سيد يلتقط أنفاسه، ويفكر في هذه المصيبة التي كانت موشكة أن تصب عليه، لن أعود لهذا، لن أعود أبدا، وفي خطوات حازمة مشي السيد إلى هدف آخر، وقد تحدد مقصده، وتبين له الطريق.

وقف السيد أمام شاب وقور السمت، نامي اللحية، في وجهه عزم وإصرار، وفي عينيه ثورة يخفيها هدوء يغشى ملامحه جميعا. وكان يجلس إلى مكتب متواضع، وقف أمامه سيد يقول: أريد طلب انضمام. - وأين تحية الإسلام؟ - السلام عليكم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ما اسمك؟ - السيد عبد البديع الدكر. - تشرفنا، أنا عبد العاطي بسيوني.

والتقت يدان في مصافحة قوية.

الفصل الثامن عشر

كان أحمد جالسا إلى فوزي في حجرة المكتب التي خصصت لأحمد في القصر، إنها حجرة جده ذاتها، وكان فوزي جالسا في عظمة، وقد وضع ساقا فوق ساق، حين قال له أحمد في مرارة: أرأيت؟! لقد رفضت المجلة نشر مقالتي الأخيرة أيضا! - طبعا يا أخي، إن كتابتك تقدمية لا تقبلها هذه المجلات البرجوازية. - إن جعفر ينشر مقالاته بانتظام بها. - وفيم يكتب جعفر؟ مقالات تافهة لا أفكار فيها ولا جرأة. - نعم، ولكنه ينشرها. - لا بد أن أباه أوصى به رئيس التحرير. - أبدا يا أخي، عمي وصفي لا يتدخل في هذه الأمور أبدا. - إذن فرئيس التحرير يجامله من أجل أبيه. - فلماذا لا يجاملني أنا من أجل عمي؟ - مقالاتك لا تصلح لمثل هذه المجلات التافهة. - فأين أنشر أذن؟ - سيأتي اليوم الذي تكون لنا فيه مجلة، وسأنشر أنا لك فيها، ولكن اسمع ... - ماذا؟ - الليلة اجتماع الخلية، وستلتقي هناك بفؤاد زين العابدين قبل سفره إلى موسكو، فقد عين في السفارة المصرية بها. - يا أخي دائما تخطئ، إن اسمه زكي. - هذا اسمه الحركي. - والمفروض أننا لا نعرف إلا اسمه الحركي. - طيب يا سيدي، علمني، علم. - وأين الاجتماع؟ - في مكانه. - ألم يتغير بعد؟ - لا، لم تصدر الأوامر بالتغيير. - يا أخي أنا غير مرتاح لهذا المكان. - أنت محق. - وبعد؟ - لا شأن لنا، علينا أن ننفذ الأوامر. - الأوامر ... الأوامر، أليس لنا رأي؟ - الرأي رأي المحترف يا أحمد، ماذا؟ أنسيت؟ - لا، لم أنس، ولكني أخشى. - المفروض أننا لا نعرف الخشية. - أعرف. - موعدنا الليلة الساعة التاسعة مساء.

وطرق باب الغرفة، ودخل سيد: السلام عليكم ورحمة الله. - أهلا أبا السيد، ذقنك! - ما لها يا سي أحمد؟ دع ذقني في حالها، يكفيني ما بي. - خير يا سيد. - من أين يأتي الخير؟ - من ذقنك يا أخي. - يا أخي صل على النبي! - لا، لا لزوم لذلك. - أنت حر، الليلة اجتماع الأسرة.

فقال فوزي مسرعا: أين؟ - لا شأن لك يا سي فوزي، نحن أيضا لنا أسرارنا. - طيب وماذا يضايقك في هذا. - يضايقني أنني لم أذاكر منذ أسبوع، والعوض على الله في هذه السنة.

فقال أحمد: الملحق يا أبا السيد، البركة في الملحق. - كل عام ملحق، أنت لا تعرف الذل الذي أراه من أبي حين يعرف أن عندي ملحقا.

فقال فوزي: لا عليك، الملحق في سبيل الله، في سبيل الحق.

فقال سيد: ماذا جرى يا سي فوزي؟ على كل حال أحسن من الملحق في سبيل الرفيق، في سبيل الشيطان.

وقال أحمد مغيظا دون أن يبين عن غيظه: أي شيطان يا سي سيد؟

وقال السيد متخاذلا: الشيطان الرجيم يا سيدي، الشيطان الرجيم.

وفتح باب الحجرة ودخلت هناء: مساء الخير يا جماعة.

فسارع فوزي قائلا: إن تحيتك هذه للسيد وحده، فهو الجماعة.

فقال سيد في هدوء: لا يا سيدي، فسيد وحده هو المستثنى من التحية.

فقالت هناء: مساء الخير يا أولاد.

فقال فوزي: عظيم، أصبحت التحية لنا جميعا.

والتفتت هناء إلى أحمد تقول له: أقرأت خطبة عمي وصفي في البرلمان؟ - لا. - إنها ... رائعة!

وقال فوزي في تعاظم: أما تزالون تهتمون بهذه التفاهات؟

فقالت هناء في تعجب: خطبة وصفي باشا في البرلمان تفاهة؟! - طبعا. - الجرائد كلها تعلق عليها، والناس لا حديث لهم إلا الخطبة. - الجرائد عبارة عن كتاب مأجورين، والناس ما هم إلا ببغاوات، لا أعتقد أن فتاة لها عقليتك الواعية الذكية تهتم بآراء الجرائد أو قطيع الناس.

وقال سيد مغيظا: الناس ببغاوات وقطيع، والجرائد مأجورة، ومجلس النواب تفاهات، فما الذي يعجبك في مصر؟

فقال فوزي في كبر: أنا.

وقال سيد في ثورة يحاول جهده أن يكتمها: فقط! - ومن يرى رأيي. - ومن يخالفك؟ - لا يخالفني إلا مغرض جبان مقيد بالتقاليد العفنة وبالرغبات الحقيرة.

وتلعثم سيد، وحاول أن يجمع إجابة ترد فوزي إلى بعض تواضع، ولكن قبل أن يتكلم دخل جعفر وحسام، وقبل أن يتبادل الداخلان التحية مع الجالسين، سارع سيد قائلا، وكأنما هو غريق يجد منقذه: الله أكبر، جعفر بك جاء، سيريحنا أو سيريحني أنا شخصيا من الرد عليك، أنقذنا يا جعفر بك - أنا في عرضك - فوزي يا جعفر بك ... فوزي يا أخي سيقتلني بغروره. - أولا وقبل الكلام عن فوزي، ما هذه البك التي عادت إلى الظهور في كلامك؟ - والله تعودت، سمعت أبي يقولها، تعودت يا بك ... يا جعفر. - نحن زملاء، ولا أحب مطلقا هذه الطريقة، والآن فلنعد إلى فوزي، ما له؟ فيم يتعبك؟ - لا يعجبه أحد في البلد إلا نفسه. - هذا من حقه يا أخي، ومن يعرف؟ لعلنا جميعا نعجب بنفوسنا هذا الإعجاب.

فقال فوزي: أنا أتكلم عن الجرائد والناس، وأرى الجرائد كلها مأجورة، والناس قطيع وببغاوات وجهلة.

فقال جعفر: أي ناس؟ - الشعب. - الشعب؟! الشعب الذي تريد له المساواة قطيع وببغاوات. - وما دخل هذا فيما أريده له؟ - سبحان الخلاق العظيم! إن مذهبك يرمي إلى جعل الشعب على درجة متساوية في الغنى، ومستوى المعيشة. - لا يا سيدي، ليس هذا فقط ما أريد، وإنما أريد أن أثقفه. - من هذا الذي يريد؟ - المذهب الذي أراه. - وهل المذهب سيثقف الشعب من تلقاء نفسه؟ - لا، سيقوم بذلك زعماؤه. - ومن سينتخب هؤلاء الزعماء، هل الشعب هو الذي سينتخبهم؟ - نعم. - أهذا ما يحدث؟ - إنهم الآن في فترة انتقال، ولا بد أن يفرض الزعماء لفترة معينة، ثم ينتخبهم الشعب. - ومن الذي يفرضهم؟ - هم يفرضون أنفسهم. - ومن يعطيهم هذا الحق؟ كيف لهم أن يعرفوا أنهم أصلح الناس للحكم؟ - لا بد ممن يحكم، وهم يملكون الجرأة. - الجرأة وحدها؟! - لا أفهم. - بأي قوة يفرضون أنفسهم. - بقوة السلاح. - إذن فأنتم ترغمون الشعب أن يقبل حكاما لا يريدهم، وترغمون الشعب أن يرضى بلون من الحكم لا تعرفون رأيه فيه، وترغمون الشعب على أن يقبل نوعا من الحياة لم يتعودها، ثم تتغنون بالحرية التي يجب أن يتمتع بها الشعب وبحق الشعب في الحياة، ولا تخجلون مع هذا أن ترموا الشعب بالجهل وبأنه قطيع. - إنها فترة انتقال. - إن فترة الانتقال في ظل الدكتاتورية لا تنتهي؛ لأن الحاكم حين يصل إلى كرسي الحكم، يعلم أنه وصل إليه على غير حق، فهو يحيط نفسه بالحرس، ويفرض أوامره، فإذا هي قوانين، وينهب الأموال، ويعيش عيشة رغدة بلا رقيب ولا حسيب، فالذين حوله جميعا يتمتعون بما يتمتع به من رغد، وتنشأ طبقة حكام أغنياء، وطبقة محكومين فقراء، وبناء على نظريتكم، لا بد أن تقوم ثورة أخرى لتتم المساواة في الرزق ومستوى المعيشة، ويسقط هؤلاء الحكام، ويتولى الحكم حكام آخرون، وتتكرر المأساة، وكل حكم جديد يحتاج إلى فترة انتقال، فإن سألت: انتقال إلى ماذا؟ وإلى أي مدى يدوم هذا الانتقال؟ فلن تجد جوابا، ولكننا نحن نعرف الجواب، إنه انتقال إلى الآخرة. - نحن؟ عن أي نحن تتكلم؟ - نحن أعداءكم الذين نحب الديمقراطية، الشعب يختار حكامه، ويختار من يمثله ليحاسبهم، وتقف مهمته عند هذا ليفرغ إلى حياته. - تقف مهمته! والذين يمثلون الشعب هؤلاء، أيقف عملهم عند محاسبة الحاكمين؟ أم إن عملهم الأساسي الرجاء لدى الحاكمين، والسعي لإنجاز الخدمات والمصالح؟ - أولا أنا أحادثك عن النظام الديمقراطي في عمومه، وأنت تحادثني عن النظام الديمقراطي في مصر، وعلى كل حال، الذين يسعون لدى الحاكمين يريدون أن يصنعوا خيرا لأفراد من الطبقة التي لا تستطيع الوصول إلى هؤلاء الحاكمين، وما أرى في ذلك بأسا. - والرشاوى التي يدفعها هؤلاء الفقراء؟ - ذلك هو الفساد، وهو فساد أشخاص، وفساد الأشخاص لا يعني فساد نظام. - نظام متعفن، رأسمالي إقطاعي، يقوم على النهب، واستلاب أموال الناس، قلة ضئيلة تبتلع أموال أمة. - إذا بدأت الشتيمة في النقاش، فمعناها أن الحجة ضاعت، وعلى كل حال أنت تجور في حكمك، لأن هؤلاء الذين تقول عنهم إنهم يأكلون أموال الأمة هم الذين يدفعون الضرائب، وهم الذين يعولون من حولهم من الفقراء، ويمدونهم بالعون. - يعتقدون أنهم متفضلون، إنهم يعطون الفقراء من حقهم. - لا يا سيدي، إن الله قد شرع نظاما للزكاة، وإن كثيرا من الأغنياء يطبقون هذا النظام، وإن الضرائب التي تفرضها الحكومة هي نوع من الزكاة التي شرعها الله.

وتدخل أحمد في الحديث: الله ... الأفيون المخدر الذي تسكتون به القطيع من أبناء الشعب. - أحمد، أنت في أشد الحاجة إلى هذا المخدر، لن أناقشك في الله، فإننا نحسه أولا، ونؤمن به، ثم نفكر فيه، فحين تؤمن به وتحسه، سأناقشك. - تهرب من النقاش؟ - لا، وإنما أكبر الله أن يكون محل نقاش تافه كهذا، سبحانه، إننا نؤمن به، ونحب أنفسنا، لأنها تؤمن به.

وقفز سيد واقفا: يسلم فمك يا جعفر بك، بك واحدة؟ يا جعفر باشا، يا جعفر ملك.

وقال أحمد ضائقا: هرج يا أخي هرج، يا أخي ألا تتوقر من أجل ذقنك هذه؟

وقال حسام في ضحكة عريضة: هرج يا أبا سيد هرج، ولا تهمك الذقن، فوالله لا يعجبني فيك إلا قلبك الأخضر مع ذقنك الوقور هذه.

وخرج فوزي من الحجرة جادا، وترك من فيها يضحكون من سيد، وما لبث أن عاد وهو يقول: أستئذن أنا.

وقبل أن يتكلم أحد، مد يده مضمومة إلى هناء، فمدت يدها إليه لتستقبل تحيته، فإذا أنامله تنفرج في يدها عن ورقة صغيرة محكمة اللف، وذهلت هناء هنيهة ثم ما لبثت أن تمالكت أمر نفسها، وسحبت يدها من يده، وقد أصبحت الورقة فيها.

وكان أحمد مشغولا بإثارة جعفر، وحسام مشغولا بالسخرية من السيد، ولم يكن منتبها إلى هناء إلا السيد الذي رأى كل شيء، فانعقد لسانه واجما في ذهول حيران، يهم أن يمسك بتلابيب فوزي ويقتله، ولكن يرده عن ذلك خشيته أن يذيع ما ينبغي له أن يخفي من أمر هناء، ويرد نفسه إلى الصمت فتثور عليه في عزة الفلاح، وكبر المحب، ووفاء المعترف بالفضل لهؤلاء القوم الذين يمهدون له أسباب الحياة، وينشغل القوم في توديع فوزي، ويجد السيد أن لا سبيل أمامه غير الصمت، فيصمت على ثورة في نفسه تغتلي، لا يهدأ لها أوار.

وما يكاد فوزي يخرج حتى يقول حسام: هناء، هل رأيت سيارتنا الجديدة؟

فما يند عن هناء غير «هيه» ذاهلة، فيقول حسام: هوه ... أين أنت؟ أقول لك هل رأيت سيارتنا الجديدة؟

ويقول السيد في نفسه: «يا خيبتك الكبيرة، أتسألها أين هي سارحة؟ اعلم يا خائب أنها سارحة في شيء قريب جدا منك ومنها، في جيبها يا خائب، مد يدك إلى جيبها، ولكن لا، لا تفعل، فأنا أخشى عليها أن تفجع في سرها، وقاها الله السوء، ولكن السوء كله في جيبها هذا، أدركني برحمتك يا رب، ألهمني الرشاد ماذا أفعل؟ أتراني أفكر في أمرها من أجل وفائي لأهلها، أم من أجل حبي لها؟ سؤال عجيب، لماذا لا يكون للسببين كليهما، المهم ألا أترك ابن الضائعة هذا يأخذ الفتاة من أهلها، وهل أستطيع ؟ نعم إني أستطيع، إني سأرقب هذا الفتى، فما أجعله يغيب عني لحظة، وكيف؟ إني ذاهب الآن إلى اجتماع الأسرة، لن أذهب ... طيب، وكيف أستطيع أن أراقبه إذا ركب سيارة أحمد؟ ما أظن أني في حاجة للمراقبة عندئذ، فإنه لن يذهب في صحبته إلى لقاء غرامي مع أخته، وما البأس علي إذا أنا راقبت هناء؟ هذا أجدى، أم تراه أمتع؟ يا أخي فكر في هذه المصيبة أولا، ثم فكر في حبك اليائس، على كل حال أنا هنا، رقيب عليك يا ست هناء، أينما ذهبت، فأنا حيثما تذهبين».

وصحا السيد من غمرته ليجد النقاش لا يزال يدور حول سيارة حسام، فجعفر يقول: عجيب أنت يا أحمد، تركب سيارة فاخرة وتعيش في قصر باذخ، ثم تأخذ على الناس أن يركبوا ما تركب، ويسكنوا في مثل ما تسكن. - هذه ليست سيارتي، ولا هو بيتي. - يا أخي ... بع السيارة وتصدق بثمنها على الفقراء. - هذه مشكلة تافهة، فما ثمن سيارة وسط مستنقع الفساد، النظام جميعه فاسد، رأسمالي برجوازي، إنني بسيارتي أخدم الهدف الذي أسعى إليه، ولو أن هذا سر ما كان لي أن أبوح به. - والله إن لم تبح به لما أحسست بالمتعة التي تحسها فيه، إنك لا تمشي خلف مذهبك هذا إلا من أجل ما تتوهم أنه أسرار، تهاويل وطقوس ومراسم هي التي تغريك. - هذا كلام الانحلاليين.

وقفز حسام عن كرسيه في غضب: ليست هذه عيشة، إن واحدا منا لا ينطق بكلمة حتى تنقلب إلى مناقشة وبرجوازية وانحلالية وديمقراطية وزفتية وبعد، ألا نرتاح من هذه المصائب لحظة؟ قل لي يا حبيبي يا أحمد، قل لي يا أخي، أتعتقد أن الرفيق الأعلى، وأقصد ستالين بالطبع، أتعتقد أنه لا يضحك أبدا؟ أتعتقد أنه لا يتكلم في شيء آخر غير هذا الهذاء الذي تقوله؟ إذن فعيشته سوداء، أنا خارج يا أخي، واستمروا أنتم في نقاشكم!

وضحك جعفر، وهو يقول: اقعد، اقعد ولن نتكلم في هذا، اقعد وهرج كما تشاء. - لا يا أخي لن أقعد، أنا ذاهب يا أخي إلى أصدقاء حمير مثلي، يتكلمون عن ... النهاية ... هناء معنا، يتكلمون يا أخي كخلق الله الآخرين، نضحك يا أخي نتمتع بحياتنا ولا ننكدها، السلام عليكم، يا هناء قولي لخالتك إنني خرجت، وسأرجع متأخرا بعد السينما.

وقالت هناء: خالتي هنا!

فقال حسام وهو واقف بالباب: نعم إنها في الدور الأعلى مع خالتي ومعها نوال.

وخرج حسام، وقامت هناء وهي تقول: سأصعد إلى خالتي، فإني من زمن لم أرها.

وقال جعفر: وأنا أيضا سأصعد معك لأرى عماتي، ألا تأتي معنا يا أحمد؟

وقام أحمد متثاقلا وهو يقول: آتي.

وخلت الغرفة بالسيد، فأبقى بابها مفتوحا، واتخذ لنفسه كرسيا مواجها للباب، ليرى هناء إن هي حاولت الخروج.

صعد الثلاثة إلى الدور الأعلى وتبادلوا التحيات، وجرى الحديث بين الجميع، والتقط جعفر طرفا منه وراح يتحدث، ورأى أحمد الجميع ينصتون إلى الحديث، يضحكون أو يبدون اهتماما يرتاح إليه المتكلم، وراح يسائل نفسه ... لماذا لا يستطيع هو أن يتكلم؟ بل لماذا لا يستطيع أن يفعل شيئا على الإطلاق؟ جعفر يكتب في المجلات، وأنا أكتب ولا أستطيع أن أنشر شيئا، بل إنني لو خلصت إلى ضميري، لحكمت على ما أكتب بأنه غير صالح، ولقد لجأت إلى الكتابة بعد أن حاولت الرسم فلم أفلح فيه، ولن أنسى يوم أحضرت لي أمي هذه الكمنجة الفخمة، ثم لم أستطع أن أعزف عليها شيئا، لا شيء، أنا ... لا شيء على الإطلاق ... اللهم إلا المذاكرة والنجاح، المصيبة أن جعفر والرسامين من إخواني والموسيقيين، أغلبهم يذاكر وينجح، فبماذا أمتاز عليهم؟ إنني في هذا البيت إله، إن أحدا لا يتمتع في بيته أو في ملكه كما أتمتع أنا، إشارتي أمر، وكلمتي تقديس، وأوامري تنزيل من حكيم عليم، على حد احترامهم للحكيم العليم، ولكني إذا تركت البيت فما أنا، أنا لست شيئا إلا منذ انضممت إلى إخواني هؤلاء، أحسست أني أفكر للكون جميعه، وأرسم الخطة للعالم أن يسير عليها، أنا في ذلك المكان شيء خارج عن قطيع الناس، ولكني أريد أن أكون فيه ذا سلاح، نعم لم يبق لي إلا القلم، إنه أسهل الفنون، فما يحتاج الأمر في الكتابة إلا أن أخط على الورق، ولكن هؤلاء الصحفيين لا يعترفون بي، يقول جعفر «اقرأ»، فهل قرأ هو؟ نعم، أظنه فعل، ولكن جعفر آسن العقل، لا حرية في تفكيره، ولا في اتجاهه، مقيد بالتقاليد الآسنة، الحمد لله أنه كذلك، وإلا انضم إلى جماعتي، وحينئذ لن أكون أنا شيئا، بينما أنا الآن بينهم كاتبهم الأوحد، لأن أحدا منهم لم يحاول الكتابة، ولكن ماذا أكتب لهم؟! بحسبي أنهم يطلقون علي لقب كاتبهم، وما هو بالشيء الهزيل.

ونظر أحمد في ساعته ثم قال: سأترككم أنا فإني على موعد.

وقالت أمه: أي موعد؟

فأخطأ أحمد عن عمد وهو يقول: اجتماع.

ثم قال وكأنه يستدرك: اجتماع مع بعض أصدقائي، سنذهب إلى السينما، سلام عليكم.

وكان جعفر مدركا لكل التصنع الذي افتعله أحمد، ولكنه سكت، بينما تعلقت عينا هناء بأخيها هنيهة، حتى إذا خرج من باب الغرفة لحقت به، وقبل أن يهبط الدرجة الأولى من السلم قالت له: أحمد.

ووقف أحمد: نعم. - تأكد من خلو المكان من الجواسيس يا أحمد، وإذا شككت في شيء فارجع يا أحمد.

فقال أحمد في تعاظم: لا تخافي.

ثم راح يهبط السلم وهو يحس بعيني أخته وهما ترقبانه، فزاده هذا شعورا بالكبر والأهمية، وما لبث أن نفض عن ذهنه ما فكر فيه حين كان جعفر يتكلم، فهو الآن واثق، واثق كل الثقة أنه شيء، بل إنه كل شيء.

الفصل التاسع عشر

قصد حسام إلى بار الشباب حيث تعود أن يقصد، كلما ضاق بإعراض هناء عنه، أو كلما شقي بهذه الأحاديث الطويلة التي يسود بها جعفر وأحمد وفوزي الحياة في وجهه.

إلى هذا المكان يقصد، وفيه أصدقاؤه الذين نبتوا معه من مغرس واحد وفي هواء واحد، تنفسوا الطفولة معا وها هم أولاء يتنفسون شبابهم في إقبال عليه وتقدير له والتذاذ بكل لحظة تجمعهم حول شبابهم هذا المرح الطليق.

إنهم أبناء الحي، جمعهم السكن، وأحاطت بهم جدران الأفنية وأسوار الحدائق منذ هم أطفال يحلمون، أو منذ هم أطفال يتعثرون، ثم ما لبثت أن ضمتهم جدران الفصول وأسوار المدارس، فأصبحوا وهم متلازمون قل أن يتفرقوا، ثم اتجهوا إلى الجامعة وقد مال أغلب جمعهم إلى اختيار كلية واحدة، لا عن رغبة في هذه الكلية، وإنما كان شأنهم في ذلك شأن القطيع، يسير خلف واحد من أجزائه ليس بأحسنه ولا هو بأحكمه، وإنما سار طريقا معينا بلا سبب ولا باعث، وسار القطيع من خلفه ليعفي نفسه من التفكير في طريق آخر.

وكان أصحاب حسام يأخذون حياتهم في يسر كما يحب أن يأخذها هو.

آباؤهم يقومون عنهم بما يحتاجون إليه، وهم إلى الدرس وعنه رائحون غادون بياض النهار، ثم هم مجتمعون على لعب حين كانوا أطفالا، وقد راح هذا اللعب يتطور مع أعمارهم، فبعد أن كان جريا بلا هدف، شب قليلا، وأصبحت الكرة تحدد أهدافه، ثم شب مرة أخرى، فأصبحت المرأة هي التي تحدد الأهداف والمتجهات، وقد يتخلف في مرحلة من مراحل اللعب فرد من القطيع، ولكنه لا يني عن ملاحقة إخوانه في مراقي حياتهم، فإن أحب واحد من الأصحاب الكرة وظل يلعبها، فما يثنيه ذلك عن أن يحب المرأة، بل لعله أحب الكرة ليغري بها المرأة، أو لعله أحبها كبقية من ذكرى الطفولة، وأخلاف من عمر حبيب، وهكذا سار القطيع، إن تخلف فرد تخلف بفلذة من كيانه، ولكنه هو بجميعه يظل سائرا حيث يسيرون.

وكان «بار الشباب» أحدث مكان تواضعوا على الالتقاء فيه، فهو حجرة قابعة في حي العباسية، لا تكاد تتسع لغيرهم، وأمامها رحبة بدائية الإعداد، ويتنقلون هم بين الرحبة والحجرة حسبما يكون الجو، ويتصدرهم أينما يجلسون سعد الصاحب أعظمهم جسما، وأطولهم لسانا، وأكثرهم حديثا عن مغامراته مع النساء، وقد حلت النساء عنده محل الكرة التي كان يروي لهم أيام غرامهم بها، كيف هو قدير على التحكم فيها وإصابة الهدف بها، فإن سألوه كيف وهو على هذا السمن المفرط، ضحك وأخبرهم أن سمنه هو الذي يسهل الأمر له، فما على زملائه في الفريق إلا أن يسلموا الكرة إلى قدمه، وقدمه - من بعد - كفيلة بأن تصيب بها الإصابات جميعا، وما عليه هو إلا أن ينقل قدميه في هدوء وعظمة، حتى يصل إلى الهدف، فما يجرؤ واحد من الفريق الآخر أن يتقدم منه، وكان إخوانه لا يحاولون أن يختبروا هذه العظمة فيه، فهم يعرفون قدرها تمام المعرفة، وكبرت الكرة وأصبحت امرأة، وأصبح يقص على إخوانه تجاربه مع النساء، مع جمع كبير من النساء، فما كان يكتفي بغير الكثيرات منهن، وقد كانت قصصه عن النساء أمتع، وكان إخوانه يحبون منه هذا الحديث؛ لأنه خفيف الظل حين يسوقه، ولأن هذا الحديث بالذات يدغدغ فيهم كوامن رغبات لاهبة.

على أنهم كانوا يعرفون طريقهم إلى النساء، وكان سبيلهم إلى ذلك عبد الجواد أفندي الذي يبيع لهم السجائر في «بار الشباب» وكانوا إذا شاءوا، طلبوا إليه امرأة أو امرأتين حسبما يكون عددهم يوم يطلبون، كان عبد الجواد أفندي يهيئ لهم كل ما يحتاج إليه الأمر من غرفة إلى غير الغرفة، وكان سعد دائما يشاركهم في هذه الاجتماعات، فما يفت ذلك في عضده، أو يثنيه عن ذلك القصص الذي يرويه عن النساء.

وكان حسام من أهم أعضاء الندوة، وما كان حبه لهناء ليمنعه عن شيء مما يفعلون، فقد كان الأمران في ذهنه مختلفين كل الاختلاف، وقد كانت هذه الطريقة في التفكير مسيطرة على أذهان إخوانه جميعا، فهناء حب وزواج وبيت وأولاد وصلاح وتقوى، وأما بار الشباب وعبد الجواد أفندي فضحك ومزاح وسخرية من كل شيء وإقبال على كل شيء، واستقبال للحياة كأروع ما تستقبل الحياة، فما عرف هؤلاء الأصدقاء أحلى من هذه اللحظات التي كانت تجمعهم مهما يكن سبب اجتماعهم هذا.

وقد كان حسام لا يجري وراء امرأة، ولا يستخدم سيارته في تصيد محبات السيارات، فما كان يحب من النساء إلا هناء وإلا ما يحضره عبد الجواد أفندي وبتوصية من الإخوان، وبحيث يشارك هو في الموضوع بالمقدار الذي يشاركون به، ثم لا يهتم بأمر من النساء بعد ذلك أبدا.

ولم يكن «بار الشباب» مكانا لا تقدم فيه إلا الخمر، بل إن الصحاب قليلا ما تناولوا الخمر، فإن فكروا فيها فإلمامة العازف عن الشيء لا يوغل فيه، وكذلك كان شأن حسام، فما أحب الخمر يوما، وما شربها إلا مكرها ليجاري الرفاق، ولا يتخلف عن شيء يفعلون، ولكنه لم يزد، لأنهم هم لم يزيدوا إلى الدرجة التي تتحول بهم من حساة إلى سكارى.

قصد حسام إلى بار الشباب في يومه هذا، فوجد الجميع قد سبقوه، ووجدهم واجمين بعض الشيء، وسعد بينهم، وأمامه كأس مترعة، وعلى وجهه أمارات ألم يحاول أن يخفيها، فتنحسر حينا عن وجهه لتبدو على وجوه إخوانه جميعا، ثم يختطف الكأس فيفرغها في جوفه سريعا، ويطلب أخرى ويتكلم في محاولة هزيلة للمرح لا تلبث أن تعيد الألم متنقلا بين وجهه ووجوه إخوانه، ماثلا دائما في الجو المحيط بهم.

وقعد حسام باهتا دون أن يدري ما هم فيه، ولا ما يرويه عليهم سعد، فما تعود من سعد أن يروي غير ما يزيل كربهم ويروح عنهم، وسمعه يقول: أراكم متألمين، أيهمكم شأن هذه البنت؟ ما أكثر البنات اللواتي وقعن في حبي، ألم يبق إلا هذه القبيحة؟ أنا لم يضايقني إلا قولها يا «سمين»، وكنت طول هذه السنوات أحبها، وكنت أظنها تحبني ... هات كأسا أخرى يا يني ... والمصيبة أن أباها، عمي هذا الجلف يطردني من البيت! أنا لم أصنع شيئا حتى يطردني، لم أصنع شيئا على الإطلاق، ولكن كيف لم أصنع؟! إن أبي فقير، فقير كأبيها يا ناس، ولكن جاءها الولد ومعه العربة، فأنا سمين وأبي فقير بنت ال... النهاية ... ولكن أبوها عمي، يطردني وأنا لم أقل شيئا، طردني والله، لأني أنتقد أن تخرج بنت عمي وحدها مع شخص غريب، كفرت؟! هات كأسا يا يني.

وقال حسام: لا تحضر شيئا يا يني، ما دخل يني في هذا الذي ترويه؟

وسالت الدموع على خدي سعد الكبيرين: تصور يا حسام، من أجل سيارة، سيارة أقل من سيارتك بكثير، يطردني الرجل من بيته، وتقول هي ما شأنك يا سمين؟! أين الكأس يا يني؟ - يا أخي اترك يني، وقم، قوموا يا أولاد، سنركب سيارتي ونمر بها عند بيتها، وسأجعلك أنت تقود السيارة.

ويقول سعد ثائرا: أنا؟ أنا أذهب إلى بيتها أو في شارع بيتها ثانية؟ أبدا، أين الكأس يا يني؟ أنت عارف يا حسام كم امرأة وقعت في غرامي، ولكني كنت أحبها، أحبها هي، ما لكم هكذا؟ اضحكوا ... ماذا؟ أهي مصيبة؟

وأحضر يني الكأس أخيرا، وحاول حسام أن يمنعه من تقديمها، ولكن سميح مال إلى أذنه وقال له: اتركه يشرب، فإن الخمر تريح في مثل هذه الأحوال.

وترك حسام الكأس تأخذ طريقها إلى سعد، وقال هو لسعد: في رجلك، والله إن «زعلت» تكن امرأة، أي امرأة تلك التي تبكي من أجلها؟ نصف نساء البلد يحببنك!

ودارت أنظار الصحاب إلى حسام يعجبون من جرأته في الكذب، وزاد عجبهم من سعد أن صدق هذا الكذب وهو يقول في بعض راحة: أنت تعرف ذلك، أليس كذلك؟

وقال حسام: وكلنا يعرفه، أين عبد الجواد أفندي؟ أين عبد الجواد يا سميح؟ ألم تره اليوم؟

وانصرفت الجماعة إلى البحث عن عبد الجواد أفندي، حتى إذا ما عثرت عليه راحوا يهيئون معه سهرة الليلة، فانشغل معهم سعد ناسيا أمر عمه وحبه الضائع، ولم يعد يذكر شيئا إلا عبد الجواد أفندي وما يعده لهم.

الفصل العشرون

كانت هناء قد اختلست التليفون إلى حجرتها، وأقفلت رتاجها فأمنت أن يعتدي أحد على خلوتها وأقامت تنتظر، ولم يطل بها الانتظار، فقد دق جرس التليفون، فرفعت السماعة، ولكنها لم تسمع من الطرف الآخر صوتا حتى قالت هي: نعم.

وتكلم الصوت همسا كمن يريد أن يخفي حقيقة نبراته! - هناء.

وقالت هناء: نعم. - كيف أنت؟ - الحمد لله. - هل أقلقتك؟ - لا أبدا ... ما أخبارك؟ - لا أخبار، لم يطلع الفجر بعد، ولكنه سيطلع حتما على هذا المجتمع الآسن، وعلى هذه العقول الرجعية الجامدة. - قل لي يا فوزي، أنا أعرف أنك ذكي، ولكن ألا يعجبك أحد آخر في هذه الدنيا؟ - أنت. - فقط؟ - فقط، الآخرون كلهم يتعبونني في إفهامهم، إنهم يخشون الحقيقة، إنهم مقيدون برجعيتهم. - كلهم؟! - كلهم إلا أنت، أنا معجب بك، معجب بعقلك! أنت غير الناس الذين أراهم في بيتك جميعا، إن أفكارك تقدمية واعية، وتقبلين الآراء الحرة في جرأة. - أفكاري أحسن من جميع الذين تراهم؟! - جميعا. - حتى جعفر. - أغرك هذا التافه بحديثه المنمق؟ أم لعله يعجبك لأنه غني وابن باشا؟ طبعا هذه مسائل أخرى لا طاقة لنا بها. - على العكس، أنا أرى أنه لا عيب به إلا غناه.

وقال فوزي: أترى هذا رأيك حقا؟ أم أنك تجاملينني؟ - بل أنت تعرف أنه رأيي. - أنت أعظم الناس، ولكن لماذا ... لماذا يا هناء؟ لماذا تكرهين الغنى؟ - أكره المال، أكرهه لأنه ... أكرهه والسلام، ما يهمك أنت؟ - متى أراك؟ - غدا. - الساعة السادسة؟ - الساعة السادسة. - في نفس المكان؟ - ولم لا؟ - والله لا أعرف، أخاف أن يرانا أحد. - أنا لا أراك تخاف أحدا. - أنا لا يهمني أحد إلا أنت، أنت وحدك التي أهتم بها، وأحيا لها، أنت! - على مهلك، إن كلامك هذا يناقض أفكارك واتجاهاتك. - وما هي أفكاري واتجاهاتي؟ - أنت تقول: إنك تحب أن تراني لأنك معجب بعقليتي، وتحب أن يلتقي عقلانا بعيدا عن أعين الناس وعن تفاهاتهم. - وهل يمنع هذا من الحب؟ - ولكن الحب ضعف وتخاذل وإبعاد عن التفكير العملي السليم، ووقف لميكانيكية الحياة، والحب عاطفة، والعاطفة تفسد الأعمال الكبرى التي يجب أن نضطلع بها في هذه الفترة. - لكن ماذا يمكن أن نفعل؟ كيف نتحكم في قلوبنا؟ - عجيبة! أتسألني يا أستاذ؟ أنا أعيد ما أسمعه منك. - حين نلتقي نبحث في هذا. - أمرك يا أستاذ. - في نفس المكان؟ - في نفس المكان.

الفصل الحادي والعشرون

كانت الأضواء المتهافتة تنبعث من المصابيح في خوف، فما يستطيع نورها أن يفسح لنفسه مكانا وسط الظلام، فالمكان مرتعش الضياء، تتبين فيه الهياكل والشخوص، ولا تتبين الملامح أو القسمات.

وكان فوزي جالسا مع بعض شباب آخرين تبدو على وجوههم سيماء الاهتمام الكبير، منهم من يصطنع هذا الاهتمام، ومنهم من لا يستطيع أن يضع على وجهه تعبيرا آخر غير هذا، لأن وجهه جاد بطبيعته، فما يملك أن يكسبه غير ما يكسوه من حزم وصرامة، ويبدو بعض منهم آخر مهتما غاية الاهتمام بما يتخذه من هيئة وأردية، فالقميص أسود، ورباط العنق أحمر، وشعر رأسه كث غزير، وعيناه تستتران وراء منظار، وهو لا ينسى بين هنيهة وأخرى أن يرفع إحدى يديه إلى شيء من هذا المهرجان الذي يتخذه، فقد يصلح شأن رباط رقبته، أو قد يمسك بطرف نظارته في وقار شديد، أو يمر براحته على شعره، وهو يأتي جميع هذا متظاهرا بأنه لا يهتم بشأن شيء مما يتفقده، ولكن هذه اللمسة الصغيرة تبين لمن يراه أنه لا يهتم إلا بشعره وقميصه ورباطه ونظارته.

وكان المكان زاخرا بالهمس، يتجمع فيصبح ضجيجا لا ترتاح إليه الأذن، وكان فوزي منهمكا في حديث مع بعض إخوانه حين أحس بهذه الضجة، فلم يلبث أن نظر في ساعته ثم قال: أيها الرفاق، اجتماعنا اليوم مهم غاية الأهمية، فالرفيق زكي قد عاد من موسكو، وسيروي علينا ما شاهده هناك، وما يجب علينا أن نفعله حتى نصل إلى الكمال المذهبي، ولكن ينقصنا واحد، هو الرفيق صالح.

وحينئذ قال أحد الرفاق في جد: طالما قلنا إن الرفيق صالح لا يصلح لنا، ونحن حين نقبله نخالف تعاليم أحد فلاسفتنا، وأظنه إنجلز الذي يعتقد أن ضم الأغنياء إلى حظيرتنا خطأ كبير، لأنهم يضطرون إلى معارضة مصالحهم الشخصية، ولأن العدالة التي نهدف إليها لا بد أن تصيبهم هم إصابة بالغة.

ورد فوزي في إصرار مدافعا عن صديقه أحمد، فلم يكن صالح هذا الغائب إلا أحمد في اسمه الحركي، قال فوزي: إن الرفيق صالح معنا منذ وقت طويل، وقد أثبت جدارته في أشياء كثيرة، ولا ننسى أنه كان يمدنا بالمال، حين كان المال يتأخر عنا، ثم أنت تنسى أن مولوتوف من الأغنياء. - هذا خطأ لا بد أنه سيصحح. - أظن أننا لم نصل إلى درجة انتقاد الحزب.

وقبل أن يتمادى بهم النقاش، دخل أحمد وهو يقول: أنا آسف أيها الرفاق تأخرت مرغما.

وسارع فوزي قائلا : لا بأس يا أحم ... يا رفيق صالح، آن لنا أن نسمع إلى الرفيق زكي، أيسمح حضرة المسئول بأن يطلب إليه الكلام.

ووقف في صدر القاعة شاب قصير القامة، يضع على عينيه نظارة سوداء قاتمة، وتكاد النظارة تخفي خديه الغائرين اللذين يحيطان بفم دقيق، فيه صرامة، وفيه احتقار لكل شيء، وفيه حقد على كل شيء.

ذاك هو المسئول، وهو رئيس هذه الخلية، وقف فلم يزد على أن قال: الرفيق زكي يتفضل.

ولكن أحدا لم يتقدم.

فقال المسئول مرة أخرى: الرفيق زكي.

فامتدت أيد كثيرة إلى ذراع شاب طويل القامة، أشهب اللون، مشدود جلد الوجه، جامد القسمات، فقام في تؤدة قائلا: أيها الإخوان، إن اسمي فؤاد زين العابدين.

فثارت في القاعة ضجة كبيرة، ودق المسئول النضد الذي أمامه بعنف وقال: ننبه الرفيق زكي أنه يفشي سرا ما كان له أن يبوح به.

فاستأنف فؤاد حديثه وكأنه لم يسمع شيئا: إن اسمي هو فؤاد زين العابدين، وكلكم يعرف ذلك، وقد قصدت أن أجيء اليوم إليكم لأكشف عن عيونكم عصابة من الجهل، أنتم في خطر ...

وثارت الضجة مرة أخرى، وقال المسئول بعد أن دق النضدة: إذا كانت السلطات الغاشمة تبحث عنا، فليس للرفيق أن يفضي بهذا للرفاق، وإنما كان عليه أن يبلغني أنا لأبلغ المحترف ونتلقى منه الأوامر.

وقال فؤاد دون أن يلتفت إلى المسئول: إن الخطر في أنفسكم، لقد جئت منذ أيام قليلة، ولا أعرف شيئا عن السلطات هنا، أيها الإخوان، من شاء منكم أن يتخلى عن إنسانيته، ومن يشأ منكم أن يصبح قطعة حقيرة من جماد، ليس فيها من مشاعر الإنسانية إلا شعور الخوف الراعد، والفزع والقلق، ومن يشأ منكم أن يصبح شيئا بلا حرية ولا شعور ولا تفكير، شيئا ليس فيه بقية من آدمية إلا أن يسمع فيطيع، وإلا أن يظل مرتعشا أن يكون قد أخطأ السمع، أو أخطأ الطاعة، من يشأ أن يفقد إنسانيته جميعا، من يشأ أن يصبح كذلك، فليظل على هذا المذهب الذي تعتنقون.

وثارت الأصوات بالقاعة، فمن قائل «مروق» ومن قائل «خيانة» ومن قائل «برجوازية» ومن قائل «انحلال» ومن قائل «رجعية».

وثار بالقاعة أيضا جو قاتم عقد ألسنة كثيرة من الخوف، وعقد ألسنة أخرى من الدهشة، حتى المسئول ظل فترة طويلة لا يملك زمام نفسه، ثم انتبه آخر الأمر إلى موقفه هذا، فدق النضد بيده، ثم قال: نعتقد أن الرفيق ... آسف أن فؤاد زين العابدين قد أصبح برجوازيا، وأنه اتصل بأصحاب المذاهب الرجعية، وبهذا أصبح خارجا عن خليتنا، وإني أعلن فصله عنا.

وأكمل فؤاد حديثه: الآدميون هناك لا قيمة لهم، لقد قال لي بعضهم: إنهم يحيون شعور الخوف ويغذونه في أنفسهم، لأنه الشعور الوحيد الذي يربطهم بالآدمية، وهم لا يريدون أن يتخلوا عن آدميتهم، لا يريدون برغم إصرار السلطات على افتقادهم لهذه الآدمية.

الإنسانية التي يتغنى بها المذهب لا وجود لها على الإطلاق، هناك كل شيء إلا الإنسانية، الإنسان قطعة من الهمل، السلطة تهتم بمسار في آلة أكثر من اهتمامها بحياة إنسان، الفقر مدقع، والحكام يعيشون في بذخ دونه بذخ القياصرة، كل ما يتغنون به من حقوق الإنسان كلام أجوف لا تطبيق له، الأفراد والأسر يعيشون عيشة الحيوانات المذعورة التي تعلم أن الصياد وراءها دائما، والصياد لا يرتاح، والحيوانات لا تستقر، الخوف والرعب هما كل الحياة، المقدسات لا وجود لها، أيها الإخوان، لو لم أر هناك إلا الخوف والرعب اللذين يحيا فيهما القوم لكان هذا كافيا لأن أعتزل مذهبهم، أيها الإخوان، سأترككم بعد أن ألقي عليكم تحية الإسلام دين المشورة، ودين الأمن والاستقرار، وأرجو أن تجيبوا تحيتي وتتبعوني إلى الهواء الطلق ... السلام عليكم ورحمة الله.

وبهذه الجملة الخطابية خرج فؤاد من القاعة في هدوء، وكأنه لم يستثر كل هذه المشاعر، وران الصمت على القوم، صمت حائر لا يدرون أيصدقون هذا الوافد عليهم من مصدر مذهبهم، أم لا يحفلون بما قال؟ تزعزعت الثقة في النفوس، ولكن المسئول سارع قائلا: لا شك أنكم تعرفون أننا نحارب بكل الوسائل والطرق، ولا شك أنكم قد سمعتم هذا الكلام قبل اليوم، فهو كلام أعدائنا، ولقد انضممنا إلى هذا المذهب بعد أن وثقنا به كل الثقة، فإذا كان لهذا الحديث الذي سمعناه الآن أي أثر في نفوسنا فمعنى ذلك أننا نستهين بعقولنا، ونستهين بكرامتنا، وبمبادئنا، ولا أظن أننا ضعاف العقيدة لدرجة أن حديثا كهذا يجعلنا نشك في المبدأ الذي ضحينا في سبيله بكل شيء.

والتمعت ابتسامة على شفتي فوزي، فهو يعلم أن المسئول لم يضح بشيء إلا بتوقيع شهري يقبض في مقابله مبلغا من المال ضخما، ولكن هذا لم يمنعه أن يقول: بطبيعة الحال أيها الرفيق، هذا كلام انحلالي، رجعي، برجوازي، وإننا نسمعه كل يوم، فنرجو منك أن تعتبر الأمر كأن لم يكن، وتدخل في جدول الأعمال.

وكالقطيع التائه راح الآخرون يرفعون ثغاءهم مؤيدين قول فوزي، وأخذ المسئول في حديث آخر، حديث متخبط، فما كان يدري ماذا يقول بعد أن أفسد عليه فؤاد برنامج الليلة.

وانتهى الاجتماع، وخرج أحمد، مسرعا متجاهلا نظرات فوزي إليه، التي كانت تدعوه لينتظره، لم يكن يريد أحدا ليسير معه، كان يريد أن يخلو لنفسه.

يبدو على فؤاد زين العابدين أنه صادق فيما قال، ولكن كيف يترك الخلية؟ ماذا يصبح إذن؟ إنها كل شيء له، كيف يترك هذا العمل الكبير؟ أهو العمل الكثير الذي يجذبه إليها، أم تلك التهاويل والطقوس؟ أهو العمل الكبير ما يجذبه إليها، أم أنه أصبح وله اسم آخر، وأنه يتخفى من العيون، وأن عيون السلطات تتابعه، وأنه ذو أهمية بالغة في دوائر الحكومة والأمن العام؟ إنه يهرب إلى هذا المذهب من الفراغ الذي يعانيه في حياته، إنه يهرب إلى الرفاق من فشله في كل شيء حاوله، وهو الذي لم يعرف في بيته الفشل أبدا، لم يسمع كلمة «لا» في بيته أبدا، ولكنه سمعها حين أراد أن يكون موسيقيا، وسمعها حين أراد أن يكون رساما، وسمعها حين أراد أن يكون كاتبا، سمع «لا» صارمة ليس فيها رقة ولا مجاملة، لقد رفضه الفن، ولم تقبله في جنبات الحياة إلا هذه الخلية التي يستخفي فيها من حقيقة فشله ، ومن حقيقة الحياة التي أبت أن تعطيه إلا مالا ضخما هو أمه، دون حتى أن تكمل هبتها بأب يستطيع أن يحترمه، ويله من أبيه! إنه هو من جر عليه كل هذا البلاء الذي يعانيه، إنه أب بلا ضمير، بلا كرامة، بلا تقدير لأي معنى كريم، لماذا تعطي الطبيعة لجعفر أبا مثل وصفي باشا، وتبخل عليه بأب شبيه ... لقد كان يريد أي أب يحترمه، لا ضرورة أن يكون باشا، ليكن مثل عمه سامي زوج خالته، إنه رجل محترم، ولكن هذا الأب الذي رماه به الزمان والذي يأبى أن يحترم نفسه في أي مكان، حتى في وظيفته حقير، إنه أوشك أن يلوث وصفي باشا، بل إن جريدة معارضة لوصفي باشا عرضت برشوة معينة، أخزاه الله، لقد كفرت بالله من أجله، لم أتصور أن يقول الله العالم بعباده إن الرجال قوامون على النساء! أمثل هذا يكون قواما على أمي؟ في أي شريعة يكون ذلك، لا، أنا كافر بهذا الدين، وكافر بهذا الله الذي يقول إن أبي قوام على أمي، والذي يقول واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، أخفضه لأمي نعم، ولكن لأبي هذا؟ كيف؟ ألا أقول له أف! أقسم ... أقسم بماذا؟ أقسم بشرفي أنني أقول أف كلما ذكرت أبي، أقولها في نفسي، ولو كانت لي بعض جرأة لواجهته بها، بل إني كثيرا ما أجيب حديثه بشيء من الكبر، لا، لا أستطيع أن أحترمه، ولا أن أحترم دينا يحترمه، كيف أترك مذهبي إذن؟ وإلى أين مصيري إن تركته؟ في أي ناحية من نواحي الحياة يكون تفوقي؟ الشهادة الجامعية في يد الآلاف، لا بد أن أكون شيئا غير هذه الشهادة، وأي شيء يمكن أن أكون؟ لا مكان لي إلا هذه الخلية، هي مجدي، وهي مجالي، وليقل فؤاد ما يشاء أن يقول، فما أستطيع أن أطيعه، لا ... لا أستطيع.

الفصل الثاني والعشرون

على المقاعد الحجرية، في مرفأ القارب جلس فوزي مطرقا مفكرا، أيستطيع أن يصل؟! وكيف؟! أتصبح هناء ابنة سهير هانم ابنة أحمد باشا شكري لي ؟ أيمكن هذا؟ ولم لا؟ وإلا فما مجيئها إلي، وما اهتمامها بي، وحرصها على حديثي؟ نعم، ولكن أيمكن هذا؟ أنسيت من أنا؟ وكيف تلتقي بأمي وأبي؟ كيف؟ أبي! أبي ذلك الرجل الذي لم أعرف في يوم من الأيام نوع تفصيل الحلة التي يلبسها، ذلك الموظف الصغير، الصغير جدا بوزارة الأوقاف، والكبير ... الكبير جدا في العمر يصبح حما هناء، وأمي ... ماذا هي قائلة لها؟ أمي تصبح حماتها؟ أمي التي لم أسمعها يوما تتحدث إلا عن مهارتها في صنع الملوخية، كيف أصل بينها وبين هناء، وفي أي موضوع يمكن أن يدور الحديث بينهما، وكيف ستحس أمي بالراحة وهي تتحدث إلى هناء؟ وأبي ... نعم عودة إلى أبي ... ذلك الرجل الذي لا يزال كل بضعة أيام يدخل إلينا شاحب الوجه، مضطرب الحديث، راعش الأوصال، فنعرف أن رئيس القلم - نعم رئيس القلم فقط - قد استدعاه، وكلفه ببضعة أعمال، أبي هذا يصبح حماها؟ كيف سيحادثها؟ كيف سيكون الحال بينهما؟ كيف سيعاملها؟! ما شأني أنا بكيف سيعاملها، وكيف ستعامله، إنها ستصبح لي، هي بكل أمجادها، وما لي أخشى أن أقول هي بكل ثروتها؟! أليس هذا التفكير برجوازيا؟ نعم، إنه يصبح برجوازيا لو أفصحت عنه، ولكن ما دام في نفسي لا تعرف به إلا نفسي، فهو بعيد عن البرجوازية كل البعد، أظن أنني كنت موفقا كل التوفيق في التأثير عليها، وما أظن إلا أنها ستقبلني ...

ولكن ماذا هي قائلة لأبيها؟ أقصد لأمها، فما أبوها بذي شأن، لا أدري! ولكن أترضى بي؟ ولم لا؟ إنها خيالية في تفكيرها، وقد تقبل الزواج لتحقق آمالها من الزواج بفقير، ما الذي يدعوها إلى هذا؟ لعله زواج أمها الفاشل، ولكن أباها نفسه فقير بالنسبة لأمها فيما أعلم، لا أدري ... إن للأغنياء جنونا، وما أحب هذا الجنون إلي! فبه أستطيع أن أصل إلى الأمل المنشود، وما لي ولأمي حينذاك ولأبي؟ علي أن أشق طريقي في الحياة، فإذا تزوجتها فطريقي رغد وهناء.

وقطعت هناء تفكيره بقدومها: هناء. - تأخرت عليك؟ - نعم. - دقائق. - هي عندي سنوات. - لا، كنت أنتظر تعبيرا جديدا. - وأي جديد تريدين؟ - لا أدري، ولكن هذا التعبير استعمل كثيرا. - وما أدراك؟ - أقرأ. - آه، صحيح ... نسيت أنك تكثرين من القراءة، فأنت من قراءتك في أحلام لا تنتهي. - وأنت، ألا تقرأ؟ - بالقدر اللازم، فالقراءة البرجوازية تفسد الأفكار. - أهناك قراءة برجوازية؟ - نعم قراءة القصص. - كل القصص؟ - لا بالطبع، القصص التي لا تتحدث إلا عن الحب والعشق والهيام، هذه قصص لا فائدة منها. - أرأيت؟! ومع ذلك تحدثني عن الحب. - نعم. - كيف؟ - هذه مشاعر لا يمكن التحكم فيها. - ولكن هذا يخالف مبدأك؟ - لا أبدا، أنا أقصد الحب غير عملي، أما حبي لك فعملي واضح، ولولا أنني أخشى من أشياء كثيرة لطلبت يدك.

وأطرقت هناء في خجل، وأكمل هو حديثه: إن ذكاءك أعظم من الخجل.

وظلت هناء على خجلها، واستطرد هو: طبعا يا ستي، وأين أنا من حسام، أو من جعفر، أو من هؤلاء الأغنياء الذين يتمنون رضاك، أنا رجل فقير، أبي موظف صغير، وسيظل صغيرا إلى أن يخرج إلى المعاش، وأمي امرأة بسيطة، وكل ثروتنا لا تتعدى نصف البيت الذي نعيش فيه ومرتب أبي، أين أنا ...؟

وأحس فوزي أنه يمسك بالخيط البالغ إلى قلبها، فلم يترك هذا الحديث، واندفع فيه في إسهاب وقدرة واستغراق، حتى لم يحس بسيد وهو يطل عليهما من الحديقة، ولم يحس به وهو ينصرف عنهما، لم يحس شيئا من ذلك، ولم يسكت إلا حين رفعت هناء وجهها عن الأرض، والتقت العيون.

كانت سهير جالسة بالدور الأعلى حين أقبل عليها عم دهب، فعجبت من صعوده، فما تعود ذلك إلا إذا كان يريد أمرا هاما. - خير يا عم دهب. - والله يا ست لا أدري. - وكيف لا تدري؟ - السيد بن عبد البديع أفندي. - ما له؟ - يريد أن يقابل سعادتك. - يقابلني أنا؟! - نعم. - لماذا؟ - والله لقد رفض أن يقول لي، رفض رفضا باتا لم أتعوده منه طول عمره. - عجيبة! دعه يصعد.

ولم يتكلف عم دهب أكثر من أن نادى: يا سيد أفندي.

ورجع صدى صوته بسيد، وحيا السيد سهير في أدب ، ثم نظر إلى عم دهب الذي انصرف متعجبا، وأقفل السيد باب الحجرة، ووقف في اضطراب، وقد أخذت لحيته ترتعش مع شفته، حتى استطاع أخيرا أن يقول: يا ستي سهير، أنا وأبي وجدي نشأنا في بيتكم، فإن لم نحفظ لكم الفضل، فنحن كفار. - قل يا سيد ما تريد. - ستي هناء ...

وفرجت سهير فاها، وأنعمت فيه النظر في دهش، واستطاعت بصعوبة أن تقول: ما لها؟ - والله يا ستي أنا حائر لا أدري ماذا أقول، ولكني أيضا لا أستطيع أن أسكت.

وقالت سهير وهي واجفة لا تزال: قل ما لها! - إنها تلتقي منذ زمن بعيد بفوزي صديق أحمد بك. - ماذا؟ - وفوزي هذا ولد ضائع، وقد رأيتهما الآن معا ... يا ستي أنا آسف، ولكني لم أستطع أن أسكت.

وقالت سهير ذاهلة: أشكرك يا سيد. - أستأذن يا ست هانم.

واستدار السيد يريد أن ينصرف، فإذا الباب يفتح، وتدخل منه هناء، فيتنحى السيد عن فرجة الباب ويطرق برأسه إلى الأرض، وتنظر إليه هناء بدهشة بالغة، وتظل رانية إليه لحظات، ثم يبين على وجهها كأنها فهمت، فتصرف عنه عينها وتدخل الحجرة، ويخرج هو متعثرا مطرقا لم يرفع رأسه.

ونظرت هناء إلى أمها، فوثقت أن ما فهمته هو الحقيقة، ووجدت هناء نفسها مضطربة، فقد كانت تعد نفسها لأن تقول هي لأمها ما انتوت ... أما أن يسبقها النبأ ... وتلاقيها أمها بهذا الوجه المكفهر، فهذا ما لم تكن تتوقع، ولكن ما يهم أنها قد عزمت. قالت الأم: أصحيح ما سمعت يا هناء؟

وقالت هناء في حزم: نعم. - صحيح؟ - نعم. - كيف ... كيف يحدث هذا؟ - أليس لي الحق أن أختار؟ - تختارين ولدا ضائعا فقيرا لا يملك شيئا؟!

وقالت هناء في ثورة: أنا أكره المال، أنا أكره المال وسيرة المال، أبي تزوجك من أجل المال فقط، فانظري إلى حياتك، أبي لا يهتم بغير المال، جمع المال وبدد احترامنا له، وفقد احترامك، وفقد احترام الخدم، أنا أكره المال ... أكرهه! لا أحب الغنى، ولا أحب الأغنياء، ولا أريد المال، لا أريد المال.

وطفرت الدموع من عيني سهير، ولكنها تمالكت أمر نفسها سريعا، وجففت دموعها، محاولة أن تخفي الدموع، وتخفيها عن ابنتها، وحاولت ببقايا روحها المبهورة الكسيرة أن تلتقي بابنتها في ثورة كثورتها! - حمق ... حمق هذا الذي تقولين، حمق وخرافة، إن كان أبوك قد تزوجني من أجل المال ففسدت حياتي، فلأي سبب تعتقدين أن هذا الولد يطلبك؟! - لا أدري لأي سبب، ولكن ليس من أجل المال. - أيتها الحمقاء، كيف تعرفين؟ - أنا لست طفلة ... كلامه لا يدل على أنه يريد مالا! - لن يكون هذا، لن يكون هذا أبدا.

وقالت هناء في حزم: أظن أنه يحسن أن يتم هذا برضاك.

وفطنت سهير لما تقصد إليه ابنتها، ولكنها لم تصدق ما سمعت، فهي تقول: ماذا تقولين؟

وأعادت هناء الحديث في إصرار: نعم، يحسن أن يتم هذا برضاك.

وقالت الأم ذاهلة: ألهذا الحد؟

وقالت هناء وهي على إصرارها لا تزال: نعم.

ثم تركت الغرفة، وخرجت واثقة الخطوات، حازمة القسمات، وظلت أمها تنظر إلى ظهرها وهو يغيب عنها، فما ردها غيابه عن أن تظل مثبتة العينين إلى حيث اختفت ابنتها، ذاهلة النظرة، والهة حسرى، تتنزى نفسها ألما وخوفا وحيرة.

الفصل الثالث والعشرون

كان أحمد جالسا في حجرة مكتبه حين دخل إليه السيد حليق اللحية، لا يزال الدم ينهمر من مواضع كثيرة في وجهه، من أثر السرعة التي أزال بها لحيته، وكانت عيناه تائهتين في نظرة هالعة، وجسمه جميعه ينتفض في خوف راعد، ولم يلتفت أحمد من أمره إلا إلى هذا الجديد الذي طرأ عليه، فقال في سخرية ضاحكة: الله ... شيخ سيد، ذقنك! أين المرحومة؟

وأجاب سيد في هلع غير مكترث بمزاح أحمد: أحمد، البوليس يبحث عني.

وارتسمت على وجه أحمد أمارات الجد وهو يقول: ماذا؟ البوليس؟ لماذا؟ - منذ مقتل النقراشي والحكومة تقبض على أفراد الجماعة جميعهم.

وضحك أحمد محاولا أن يهدئ من روع السيد، وقال له: ما هذا الكلام؟ وأنت ما دخلك بمقتل النقراشي؟ - لقد قبض على جميع زملائي، وأعتقد أنهم سيقبضون علي حالا، أحسن طريقة أن أترك البيت.

وقال أحمد ساخرا، فما كان يعتقد أن للسيد هذه الأهمية كلها: ما هذا الكلام الفارغ؟ أنت تخيف نفسك بلا مبرر، وعلى كل حال ماذا تريد أن تفعل؟ - أريد أن أهرب، وسأتصل بك يوميا في التليفون، فإذا لم أتصل بك يوما فاعلم أنهم قبضوا علي، واتصل بوصفي باشا فورا. - وصفي باشا؟ - قل له إنني سأترك الإخوان، أرجوك يا أحمد، أنت لا تعرف مقدار شقائي بالسجن إن أنا سجنت، أنا أمل عائلة، ونحن قوم نريد أن نعيش يا سي أحمد، وقد كان طيشا وسأتركه، أرجوك يا أحمد بك. - يا أخي، أنت لا تحتاج إلى هذا الرجاء الطويل، وماذا تظنني كنت فاعلا؟ طبعا كنت سأذهب إلى وصفي باشا. - طيب سلام عليكم. - وعليكم السلام، انتظر! أين ستختفي؟ - هل معك نظارة سوداء؟ - نعم ها هي ذي، أين ستختفي؟ - لا أدري، قد أخبرك حين أتصل بك. - وكم معك؟ - ماذا؟ فلوس؟ معي جنيهان؟ - مبلغ لا يكفي طبعا، خذ، أنا ليس معي إلا أربعة جنيهات، خذها. - شكرا، أظن أن ما معي يكفي. - خذ، وحين تكلمني أكون قد أعددت لك مبلغا آخر.

وأخذ السيد الجنيهات الأربعة، واستدار ليترك الغرفة، ولكن الباب فتح ودخل منه ضابط وشرطيان، ونظر السيد إلى أحمد يائسا، ونظر أحمد إليه دهشا، فقد كان يظن أنه يضفي على نفسه من الأهمية ما لا يتمتع به.

استقبل وصفي أحمد متجهما بعض الشيء، الأمر الذي عجب له أحمد، فما تعود منه هذا، وسأله وصفي: خير؟! - لقد قبض البوليس على السيد بن عبد البديع أفندي. - لماذا؟ أهو من الجماعة؟ - نعم. - هيه! ومتى سيقبضون عليك؟

وفغر أحمد فاه وانفرجت عيناه عن نظرة دهشة واسعة: علي أنا؟ - نعم أنت، أتظنني لا أعرف؟ ألا تفكر في أمك المسكينة؟ ألست إنسانا؟ ماذا جنت حتى تفعل بها هذا أنت وأختك؟ ألا تعلمان أنها مريضة بالقلب؟ ألا تخشى عليها أن تموت؟ - أنا، ماذا فعلت يا عمي؟ - أنت شيوعي يا سي أحمد!

ومست قلب أحمد فرحة أنه مثار اهتمام، وأن عمه وصفي باشا يعرف أهميته، ولكنه قال: من قال يا عمي؟ - لا تحاول أن تنكر! - ولكن يا عمي ... - وحياة والدك لا لزوم لهذه الطريقة الصبيانية، أرجوك، من أجل أمك، اشفق عليها يا أخي من أجل مرضها على الأقل، وثق يا أحمد أنه إذا قبض عليك، فإنه يصعب جدا أن تعتمد علي كما تريد أن تعتمد علي الآن في مسألة السيد. - والله يا عمي ... - والله يا بني أنا حذرتك وأنت حر ... اترك حكاية السيد، ولا تنتظر أن تنتهي بسرعة، أمامها مدة. - شكرا يا عمي. - الشكر يكون بمراعاة أمك يا سي أحمد ... مع السلامة.

الفصل الرابع والعشرون

كان القصر يرزح تحت رزء كبير، فقد كان زواج هناء خطبا فادحا حاول الأب أن يمنعه بسلطته المتهالكة فلم يستطع، فقد أفهمته سهير أن الزواج في البيت برضائهما خير من أن تخرج الفتاة عن طوعهما للتزوج وحدها، وتضعهما أمام الأمر الواقع، ولن يجديهما يومذاك أن يلوذا إلى القضاء، فأمامه ستعلن فضيحة ينبغي لها أن تستتر، بل إن سهير أفضت إلى سليمان بما يراودها من خوف أن تخرج الفتاة عنهما بلا زواج على الإطلاق، وما يراودها من خوف أن ينفرد بها هذا الصعلوك، وينتهز فرصة مقاطعتهما لها فلا يستطيعان لها عونا إن هي احتاجت لعون، فاقتنع سليمان.

وحاول وصفي أن يعين سهير في محنتها، وعرض عليها أن ينقل فوزي من وظيفته بالقاهرة إلى الأقاليم، ولكن الرأي استقر بينهما على أن هذا لن يجدي في شيء.

وهكذا تم عقد القران في مأتم بلا معزين، إلا أهل القاتل وأهل القتيل، فقد جاءت أم فوزي، واستطاعت أن تزيد النار اشتعالا في نفس سهير، وإن كانت لم تستطع أن تجعلها تخرج عن صمتها اليائس الحزين، فقد كانت أمه معجبة بنفسها، تحاول جاهدة أن تصبح ندا لهذا البيت الذي تناسبه، أما الأب فقد كان أكثر إدراكا للموقف، فاتخذ لنفسه مكانا قصيا، وصمت حتى انتهت المراسم، وغادر البيت وجلا كما دخله.

وأغضى سليمان على النار عرفها لأول مرة تنتاش فؤاده، وخجل أحمد من الهدية التي قدمها إلى القصر، ونسي حينذاك مبدأه وأفكاره وفلسفته، وكره هذا اللص الذي تسرب تحت وقاء من الصداقة، واختلس أخته في ضباب من النظريات والألفاظ البارقة، والغش الخادع الخسيس.

ولم يكن أحمد ليغبي أمر فوزي، وإن يكن قد قبل أن تتوطد بينهما الصداقة، ولم يكن يتوقع أن أخته تقبل أن تلتقط هذا الفتى من عرض الطريق لتجعل منه زوجا لها، وفي غفلة من عدم التوقع هذه لم ينتبه أحمد إلى الذئب يجوس في عقر داره، وقد عزم أحمد على أن يقطع علاقته بفوزي، ثم سمع هذا الحديث من أمه، فعزم على أن يجعل صلته بفوزي بحيث لا ينتبه أحد إلى انقطاعها، وأصر في نفسه على ألا يدخل بيت أخته مهما تكن الأسباب والدواعي.

وكان موقف سميحة من هذا الزواج هو موقف أختها سهير، وقد حز في نفسها الألم الذي ترى آثاره على ابنها بياض النهار إذا رأته بياض النهار، والذي ترى آثاره في غياب ابنها عن البيت إلى أعماق الليل، أو هامات الصباح، دون أن تدري أين يغيب، الأمر الذي كانت تجهد نفسها أشد الجهد في إخفائه عن زوجها وتمويه حقيقته عليه.

وكان الخدم في القصر جميعهم يشعرون بالتعاسة التي ترزح على القصر وساكنيه، وكانوا يدرون مبعثها، وكان حزنهم لها عميقا، فقد كانوا يتمنون أن يفرحوا بستهم هناء، وقد كانوا يتمنون أن تتزوج من رجل يستطيعون أن يحترموه، فما كان زوجها أمامهم إلا شخصا يتسقط على مائدة أحمد بك، ثم لا شيء بعد ذلك.

هكذا كان القصر جميعه، واقعا تحت هم واصب ثقيل، فلم يضم بين جدرانه إلا شخصا واحدا لم يحفل هذا الأعراض وهذا الحزن، هو هناء نفسها، فقد اندفعت في حمأة زواجها كشيء ألقى بنفسه إلى منحدر يصب في هاوية، فما يفكر لأنه لم يعد يملك التفكير، وما يرتد، لأنه لم يرغب في هذا الارتداد، لم يكن حبها لفوزي حبا جارفا يقتلع العوارض والعراقيل، ولكنها استطاعت مع ذلك أن تحطم كل ما وقف في سبيلها، وهي نفسها عاجبة لماذا تبذل كل هذا الجهد! إنها تعلم أنه ليس حبها لفوزي ما يثير في نفسها كل هذه القوة، كانت تظن أن كرهها لأبيها ولما أنزله بأمها هو ما يبعثها إلى العنف والإصرار، ولكنها كانت تعود فتفكر أنها هي نفسها بما تعمله تنزل بأمها أقسى ألوان العذاب، وهي تعلم أنها مفئودة، وأنها تتعرض بهذا العذاب إلى نوبة قد تودي بها، وتترقرق في عيني هناء الدموع إذا جرى بها التفكير إلى هذا المتجه، ولكنها تعود إلى دموعها فتحبسها، وإلى النسمة الهادئة التي تراوح قلبها فتعصف بها في قسوة، إن كل هذا أهون من أن تتزوج شخصا لم تختره هي، ولم تصل بينها وبينه أوشاج من الهوى، مهما تكن أوشاجا هينة، كهذه التي تربطها إلى فوزي، إن هذا جميعه أهون من أن تختار أمها لها أو يختار أبوها، لقد كانت خليقة أن تقبل حسام لو لم يكن ابن خالتها، ولو لم يكن أبوها وأمها راغبين في تزويجها منه أشد الرغبة، ولو لم يكن غنيا، لقد كرهت الغنى كما قالت لأمها، كرهته حين رأت أباها ولا هم له إلا أن يصبح غنيا مهما يجنح به هذا العزم إلى انتهاب أموال أمها وخالتها التي لجأت آخر الأمر إلى زوجها أن يحميها، ولن تنسى هناء يوم تمت القسمة بين أمها وبين خالتها، ولن تنسى تلك الدموع التي سفحتها أمها، مع أنها هي التي ألحت في تنفيذ هذه القسمة، حتى تنقذ أختها من يد زوجها الغائلة، وحتى تنقذ أولادها مما قد يكون بين سامي وسليمان من فضائح، فقد كانت تعرف زوجها.

وتجمعت البواعث في نفس هناء، ولم يكن أقواها حبها لزوجها، ولكنها بواعث قد تعبرها عين الناظر إذا عرضت عليه متفرقة، فإن تجمعت جعلت من هناء هذا الإعصار الذي يدور في القصر فينفذ ما يشاء في تبجح هادئ، فما كانت تحتاج إلى ثورة.

لم تكن لهناء من مطالب بعد أن تم عقد القران، وحين فكرت أمها في جهازها، سكبت دموعا غزيرة، إن الله لم يشأ أن تفرح بجهاز عروس أبدا، إن جهازها هي اختير لها، ولم يكن لها فيه رأي، وحين أنجبت هناء، كانت تمني نفسها أن تعوض في جهازها ما فوتته على نفسها أيام عرسها، ولكن ها هي ذي ابنتها تخذل آمالها، كما خذلت هي آمال نفسها حين تزوجت، وكانت سهير تحاول أن تخفف من ألمها بعض الشيء، حين تهمس إلى نفسها أن لعل ابنتها تسعد في ظل زوج أحبته، ولكنها حين تذكر قسمات ابنتها وهي تفضي إليها بإصرارها على الزواج، وحين ترى ابنتها رائحة في البيت غادية، جامدة النأمات، صلبة الوجه، وحين تراها مستسلمة لمصيرها هذا الذي اختارته، وحين ترى فوزي وترى مقدار تبجحه على البيت، وإقباله على قوم يعلم أنهم عازفون عنه، حين تذكر وترى هذا جميعه، ما تلبث أن تذوب الهمسة المتفائلة في طوفان من هم كبير، فما هذه تصرفات فتاة في قلبها هوى، وما هذا الفتى بمستطيع أن يثير في فؤاد فتاة حبا.

ولكن هذه الأفكار جميعها لم تمنعها من أن تسأل ابنتها عما تريده في جهازها، وقالت الفتاة: لا أريد إلا أشياء بسيطة فسنعيش في شقة صغيرة.

وارتاحت الأم أنها تنتوي أن تبتعد عنها بزوجها هذا الكريه، ولكنها رأت أن تقول لها على سبيل المجاملة: ولم لا تعيشان معنا هنا؟

وقالت هناء في حزم، شأنها منذ أعلنت عن رغبتها في هذا الزواج: لا.

ولم تجد الأم وسيلة تقطع بها الحديث أن يطول، إلا أن تعطي ابنتها ألفي جنيه تفعل بهما ما تشاء، وقبلت هناء المال، ووضعته في صوانها، وضمت إليه مائة جنيه، دفعها زوجها مهرا، وانتظرت أن تسأل زوجها عما يفعلان.

وفي يوم جاء فوزي وطلب إلى هناء أن يخرجا للنزهة، وخرجت معه في سيارة أبيها، وما إن تركا البيت، حتى استوقف فوزي السائق، وأمره في ثبات أن يترك السيارة ليقودها هو، ودهشت هناء بعض الشيء من طريقته في إصدار الأوامر، ومن إعطاء نفسه الحق في قيادة سيارة لا يملكها، ولكن دهشتها لم تزد على غصة في نفسها، وسألت فوزي: أتعرف كيف تسوقها؟

وأجاب فوزي في اقتضاب : نعم.

وقبل أن تسأله هناء كيف تعلمت، قال هو في نغمة ساخرة بعض الشيء: طبعا لم تكن عندي سيارة، ولكني تعلمت كيف أسوق بسيارة أخيك أحمد.

وسكتت هناء، ولكن السائق لم يصدع بأمر فوزي، فما تعود أن يتلقى منه أوامر، ورأت هناء تردد السائق، فسارعت تقول: اذهب أنت إلى بيتك يا أسطى عبده.

وصدع السائق بالأمر فور سماعه، وانتقل فوزي إلى مقعد القيادة، وانتقلت هناء إلى جانبه، وأحس فوزي بتردد السائق، ولكنه أغفل أمره، فقد ذكره اسم أحمد بأن يسأل هناء: وحتى أحمد غير موافق على زواجنا؟

وقالت هناء في استسلام: وما يهمك أنت إن كان يوافق أو لا يوافق، ما دمت أنا موافقة، وما دمنا قد تزوجنا فعلا؟

وقال فوزي في غير اكتراث: على رأيك.

ثم قال: إنني معد لك مفاجأة هائلة. - خير؟ - وكيف تكون مفاجأة إذن؟ - ومتى أراها؟ - نحن في طريقنا إليها.

وصمتت هناء، واتخذت السيارة طريقها إلى الزمالك، وأمام عمارة فاخرة ضخمة، أوقف فوزي السيارة وقال لها: انزلي.

ونزلت هناء، وقد حزرت ما هي مقدمة عليه، ولكنها لم تشأ أن تصدق حدسها، فإن العمارة التي يدخلانها باذخة الفخامة، لا تتناسب إطلاقا مع ما كانت تهيئ نفسها له من بيت متواضع يتفق وقلة المال عند فوزي!

ولم يكن ثمة مجال لكثير من التفكير، فقد وجدت نفسها في مصعد أنيق، ثم وجدت نفسها أمام باب شقة يفتحه فوزي بمفتاح معه، ثم وجدته يلتفت إليها قائلا: هيه ... أتريدين أن أحملك كما يفعل الغربيون؟

ولم تضحك هناء من محاولة المزاح، ودخلت البيت، وراعتها أناقته، وأذهلتها سعته، ست حجرات وبهو، لماذا هذا جميعه؟ وسمعت فوزي: وطبعا سأتفق مع مهندس لتزيين الجدران، ورسم الأثاث.

وازدادت هناء ذهولا، وقالت: ولكن أليس كبيرا؟!

فقال ساخرا: أهو كبير؟ وأين هو من القصر؟

فقالت هناء: ولكن هل يكفي مرتبك لهذا البيت؟

وقال فوزي وهو يغمغم الكلام: هذا أمر ندبره.

ولم تزد هناء شيئا، وظلت صامتة وهو يتحدث عن مشروعاته في تجميل الشقة، وفي اختيار الأثاث، وفي الميزات التي في الشقة، وفي أن مكان مبيت السيارة لا يؤخذ عليه أجر إضافي، وصكت كلمة السيارة سمع هناء، فنظرت إليه، ولكنها لم تتكلم، بل ظلت على صمتها، لازمت الصمت وهو لا ينقطع عن الحديث، لازمت الصمت وهما في الطريق إلى سيارة أبيها، ولازمت الصمت وفوزي يحييها مودعا ويترك مكانه من السيارة، وظلت على صمتها حتى صعدت إلى الطابق الأعلى من البيت، وحين رأت أمها جلست أمامها صامتة، وطال بها الصمت هونا، ثم تماوجت دمعات في عينها، سارعت بإخفائها دون أن تلحظ أنها تأخرت في هذا الإخفاء، فقد كانت الأم مثبتة النظرة إليها، ترى وجهها فكأنما ترى كل ما تخفيه خلفه، وأخيرا قالت هناء: نينا، لن يكفيني ألفا جنيه للجهاز.

وقالت الأم في تؤدة وهي ناظرة إلى ابنتها لا تزال: نعم أعرف.

الفصل الخامس والعشرون

أقبل حسام على بار الشباب، فتطلع إليه الرفاق في حب وإشفاق، شأن الكريم هان بعد كرامة، أحس حسام بالإشفاق في نظرتهم، فقال غاضبا: ما لكم؟! ما هذه النظرة وكأني مسكين تعطفون عليه! هات كأسا يا يني، وكان سعد أسرعهم إلى الحديث وأجرأهم فيه: نعم، أنت مسكين بهذا السم الذي تطفحه كل يوم. - ولماذا يا سيدي؟ منكم نستفيد، ألم تكن أنت تطفح منه يوم طردك عمك؟! - كنت أهبل، وكنت أهبل لمدة يوم واحد، أو ساعة واحدة، ثم عقلت، ولكنك أنت مصر على هبلك. - يا أخي، أنا حر.

وقال سميح: ما هذا الكلام الفارغ؟ لا يا أخي، أنت لست حرا، ما معنى أن تأتي إلى هنا كل يوم، وتظل تشرب حتى لا تعي، ونظل نحن ناظرين إليك، كأنك مريض بيننا، إن كنت مجنونا يا أخي فلماذا لا تذهب إلى المستشفى؟!

وجاء يني بالكأس، فشربها حسام دفعة واحدة، وطلب أخرى، ونظر إلى سميح قائلا: نعم يا سي سميح؟ ألست أنت من قلت لي إن الخمر مفيدة في هذه الأحوال؟ - يا أخي غلطت، وهل تراها حضرتك مفيدة؟! - نعم ... إنها مفيدة ... إنها تنسيني ما أحب أن أنساه.

وضحك أصدقاؤه وقال سعد : يا عم صل على النبي، والله إن بنت الكلب هذه تزيد الإنسان تذكرا، كيف تنسى شيئا لا تزال تفكر في أنك تريد أن تنساه، هذه خرافه وشرفك.

وقال حسام وهو يشرب الكأس الثانية: ما هذا الهجوم؟ أنا سأشرب ...

وقال سعد: اسمع، إن عبد الجواد أفندي أعد لنا الليلة شيئا ...

وقبل أن يكمل سعد حديثه، قاطعة حسام: قديمة، هذه لعبتي أنا يا حبيبي، أتضحك علي بما كنت أضحك به أنا عليك؟

وضاق الرفاق بالحديث، ورأوا أن لا فائدة ترجى من حسام، وأحس حسام بضيقهم، فما وقف به هذا عن ابتلاع الكئوس مترعة متلاحقة، حتى لم تمض ساعة إلا كان سكران، وحين قام الرفاق ليمضوا إلى عبد الجواد أفندي، تخلف سعد لأنه رأى حسام لا يستطيع أن يقيم أوده، فبقي معه وظل يحثه على القيام، حتى قبل آخر الأمر، وقام متعتعا يتكفى ويهذي بحديث لا يكتمل، حتى وضعه سعد في السيارة وركب إلى جانبه، وراح يقود السيارة في طريقه إلى البيت.

وحين وصل الصديقان إلى بيت حسام، كان حسام نائما لا يحس شيئا مما حوله، وحاول سعد أن يرده إلى الوعي، ولكن محاولته فشلت فشلا تاما، فلم ير بدا من الالتجاء إلى البواب ليحمله خفية إلى حجرته.

وجاء البواب يستغفر الله آسفا أن يرى سيده على هذه الحال، وتعاون هو وسعد على حسام، وكلاهما مقطب الجبين، بادي الألم، وصعدا إلى الدور الأعلى، وكانت نوال جالسة في البهو تتحدث في التليفون، فحين رأت أخاها محمولا ألقت بالسماعة، ودقت صدرها بيدها، وأسرعت تسأل عما أصابه في لهفة ألهتها عن أن تخفض صوتها، فأشار إليها سعد أن تحذر، وهمس لها بالحقيقة، ولكن همسه جاء متأخرا، فقد كان سامي جالسا إلى زوجته في حجرتهما، فسارعا يستطلعان ما أثار لهفة ابنتهما، وطالعهما ابنهما محمولا غائبا، واندفعت الأم والهة، وجمد الأب مكانه واجفا، ولم يجد سعد بدا من أن يفضي إليهما بالحقيقة، فقد وجدها أهون مما يخشيانه، أو خيل إليه أنها أهون مما يخشيان، وحاولت الأم أن تقود حاملي ابنها إلى حجرته، ولكن الأب قال في صرامة قاسية: ألقيا به إلى الأرض.

وتردد سعد والبواب، ولكن صوت الأب أرعد في حسم: ألقيا به إلى الأرض.

فانفرجت يدا البواب عن قدمي سامي، ووضع سعد رأسا حمله على الأرض، ولم يكد حتى انفتل إلى السلم يطويه أربعا أربعا يقع بجسمه الضخم على درجاته، ثم يقوم كأنه لم يقع، حتى غاب عن الأنظار التي تبعته في وجوم، وأمر الأب بالماء فأفرغ على وجه ابنه حتى أفاق، ووقف حسام مترنحا وأمه شاخصة إليه، حائرة لا تستطيع لأبيه دفعا، هو في خمار السكر غير مقدر للموقف الذي ألقى بنفسه إليه، ولم يمهله أبوه، فراح يصفعه بحدة وهو يتقي يد أبيه بيد مترنحة، لا تستطيع أن تثبت على مكان، حتى إذا هدأ أبوه هونا، راح يدفعه إلى الحجرة وهو يقول: منذ الغد لن ترى القاهرة يا كلب، منذ الغد سألقي بك إلى العزبة يا سكير.

وحين أصبح حسام في الغرفة أقفل أبوه عليه الباب، وعاد إلى حجرته دون أن يلتفت إلى زوجته أو ابنته، ونظرت سميحة إلى نوال، والتقت بعينيها نظرات ابنتها حسيرة، وفهمت كلتاهما ما يدور بنفس الأخرى، فجرت الدموع في عيونهما.

وتذكرت نوال التليفون الذي كانت ممسكة بسماعته حين جاء حسام ... أو حين جيء بحسام، فنظرت إلى حيث تركت السماعة، ولكنها لم تتحرك، فقد أدركت أن هناء لا يمكن أن تظل منتظرة طوال هذه المدة.

ونظرت الأم حيث نظرت ابنتها، ثم أطرقت وعادت إلى زوجها ولم تجد نوال شيئا تفعله، فعادت إلى السماعة، وهمت أن تضعها على الحامل لولا أنها سمعت: آلو. - آلو. - ماذا جرى يا نوال؟ - هناء ... هناء.

وانخرطت نوال في بكاء غزير الدموع، وهناء على الطرف الآخر لا تزال تلح عليها أن تطمئنها.

وأخيرا قالت نوال: إنه ما فعلته بنا يا هناء، إنه ما فعلته بنا ... - أنا؟ - نعم، أنت، ويا ليتك سعدت، إذن لارتحت أنا بعض الشيء، وعزيت نفسي عن شقاء أخي بسعادتك أنت، ولكنك حتى لم تسعدي نفسك يا هناء، وتأبين إلا أن تزيدي شقائي فلا تجدي إلا أنا، لتبثيها ما تلاقينه من زوجك وأهله، أنا وحدي في العائلة التي أتحمل الشقاء شقاءين، شقاء أخي بك، وشقاءك أنت بغير أخي.

ولم تر نوال الدموع الجارية على خدي هناء، ولم تحس النار اللاهبة التي ازدادت اشتعالا في نفس بنت خالتها التي اتخذتها أختا، لا لم تر نوال الدموع، ولا أحست النار، أو لعلها أحست وميضا خابيا من هذه النار، حين طرقت أذنها سماعة هناء، وهي تستقر في مكانها من الحامل منهية الحديث.

الفصل السادس والعشرون

قام فوزي من نومه مبكرا، شأنه كل يوم، فوجد زوجته قد صحت وجلست تنتظره، لتتناول معه طعام الإفطار، وحين جلسا إلى المائدة قال فوزي: ماذا ... فول؟ - نعم، وما عيب الفول؟ - كل يوم! بعض الرحمة. - إني أقدمه لك أحيانا في الفطور ومعه أصناف أخرى ... كفرت؟! - يا ستي أنا لم أقل شيئا، وهل أستطيع أن أقول شيئا؟ فكله من خيرك، إن كان فولا فأنت من تدفعين ثمنه، وإن كان قشدة فأنت من تدفعين ثمنها، هل أستطيع أن أتكلم؟ - ما معنى هذا الكلام؟ إنك دائما تعيرني بأني أدفع ثمن الأكل، ماذا تريدني أن أفعل؟ يا أخي قل لي ما تريدني أن أفعله وأنا أنفذ! - يا ستي العفو، وهل أستطيع؟ إنما يأمر الرجل الغني الذي يستطيع أن يدفع ثمن ما يطلبه. - يا أخي مرني ولا تدفع، ولكن فقط لا تنكد علي عيشتي كل هذا النكد، ماذا جنيت؟ - يا ستي ماذا أكون أنا حتى أنكد عليك؟ العفو العفو!

ولم تستطع هناء أن تكمل طعامها، بل إنها لم تستطع أن تبدأه، فقامت عن المائدة مغضبة وهي تقول: لا، لا أستطيع ... لا يمكن.

وأسرع فوزي قائلا: خادمتك ... أمي ستأتي اليوم، فأرجو أن تتكرمي بإعداد شيء لها.

وسمعت هناء الحديث وانصرفت دون أن تلقي إليه التفاتا، وفرغ هو من طعامه هادئا، وقام إلى الباب الخارجي وصفقه من خلفه ومضى.

وظلت هناء في حجرتها تبكي بكاء مرا، ولكنها لم تكد حتى سمعت جرس الباب ، فظنت أن زوجها نسي شيئا فعاد لإحضاره، ولكنها دهشت حين سمعت صوت حماتها يرن في البهو قائلة للخادمة: أين سيدك؟

وقبل أن تجيب الخادمة سارعت تقول: وأين ستك؟! أهي نائمة؟

وقالت الخادمة في جمود: سيدي وستي تناولا الإفطار معا، ونزل سيدي إلى عمله، وستي صاحية في غرفة نومها، سأناديها.

ودخلت الخادمة عند هناء، ولم تمهلها هناء لتعلن إليها قدوم الست الكبيرة، بل عاجلتها قائلة: أحضري التليفون.

وحاولت الخادمة أن تقول شيئا، ولكن هناء سارعت قائلة في حزم: أحضري التليفون.

وخرجت الخادمة لتعود بعد لحظات حاملة التليفون، وأدارت هناء القرص، وما لبثت أن قالت: من؟ لواحظ؟ أين ستك نوال؟ أيقظيها.

وبعد لحظات من الصمت قالت هناء: نوال ... سآتي إليك الآن ... سأخبرك حين آتي، المهم أن ترتدي ثيابك وتنتظريني ... نعم فورا.

ووضعت هناء سماعة التليفون، وقامت إلى ثيابها فوضعتها على نفسها دون عناية، ومدت يدها إلى درج خفي في صوانها، فأخرجت منه كل ما فيه من مال، ووضعته في حقيبة يدها الصغيرة، ولم تلق إلى المرآة نظرة، وخرجت إلى البهو لتجد حماتها قد جلست على الأريكة في عظمة تقول لها: صح النوم يا هانم. - أهلا تيزة. - أهلا بك يا أختي، أيصح أن تتركيني ساعة أنتظرك، افرضي أني جائعة وجئت أتناول الفطور عندك، أهذا يليق؟ ولكن لم لا ... أين نحن منك؟ طبعا وهل نتوصل؟

وقالت هناء في هدوء بارد: كنت ألبس يا تيزة. - وما لزوم اللبس يا أختي؟ أم تريدين أن تشعريني أني جئت مبكرة؟ حسبت أني أجيء إلى بيت ابني في أي وقت، نسيت يا حبيبتي أن البيت ليس بيت ابني، نسيت ... لا مؤاخذة. - لا أبدا يا تيزة، هو بيت ابنك كما حسبت تماما، هو بيتك. - العفو! ومن أين لي ببيت كهذا؟ والله يا حبيبتي اضطررت أن آتي الآن، لأن عمك - لا مؤاخذة - أقصد زوجي، ينزل إلى الديوان الآن، فنزلت معه، لأني لا أستطيع أن آتي وحدي، ولكن لا تخافي يا حبيبتي، لقد تناولت فطوري قبل أن أجيء، وسأقعد معك أسليك حتى يجيء زوجك. - أشكرك يا تيزة، ولكن هل تسمحين لي أن أنزل لأغيب عنك نصف ساعة فقط، ثم أعود؟ - الآن؟ والساعة لم تصل إلى التاسعة؟! - نوال بنت خالتي تريدني في شيء مهم، سأصل إليها وأعود. - إن كنت ضايقتك أنزل أنا. - أبدا، البيت بيتك وسأعود حالا، أتركك بخير.

وقبل أن تسمع هناء كلمة أخرى من هذا الحديث الذي لم تسمع غيره منذ تزوجت ابن هذه المرأة، سارعت إلى الباب الخارجي للشقة وانفلتت منه إلى الخارج، وهي لا تكاد تصدق أنها أصبحت في الطريق، ونزلت إلى الشارع، ووجهها كله عزم وإصرار، ونادت أول سيارة أجرة، وأعطت السائق عنوان خالتها.

وعند الباب الخارجي نزلت، وطلبت إلى السائق أن ينتظر، وقفزت السلالم قفزا سريعا متواثبا إلى حجرة نوال، فوجدتها قد ارتدت ثيابها وجلست تنتظرها. - نوال. - ماذا؟ - قلت لي: إن لك صديقة ذهبت إلى يهودي أجرى لها عملية إجهاض، لأن زوجها فقير لا يريد أطفالا أكثر مما لديه. - نعم. - ما عنوان هذا اليهودي؟ - وكيف لي أن أعرفه؟ - طبعا صديقتك ليس لها تليفون. - بالطبع لا، إنها صديقتي من المدرسة، وقد قصت علي هذا الحديث حين زارتني، ما الذي أذكرك به؟ - أريد أن أذهب إلى هذا اليهودي. - هل أنت مجنونة؟! - أريد أن أذهب إلى هذا اليهودي. - وكيف لي أن أعرف مكانه. - ما عنوان صديقتك؟ أنت تعرفينه، لقد قلت لي إنها اصطحبتك يوما إلى بيتها. - ماذا تريدين أن تفعلي؟ - هل تعرفين عنوانها؟ - نعم. - فقومي معي. - هل أنت مجنونة؟ - ليس بعد، أنا الآن في تمام عقلي، وسأكون مجنونة إذا لم أفعل ما أنا مقدمة عليه. - ماذا تريدين أن تفعلي؟ - أنا حامل في شهري الثاني، وأريد أن أجهض نفسي الآن.

ودقت نوال صدرها بيدها قائلة: ماذا؟ - اسمعي، أمي أضاعت حياتها من أجل أخي أحمد ومن أجلي، لا أريد أن أضيع حياتي، لا أستطيع العيش مع فوزي، لقد حاولت، حاولت بكل ما أستطيع، لا أطيق العيش معه، لقد حاولت أن أكتم عن أمي ما أقاسيه لأنني أنا من اخترته، أما الآن فلا يهمني ما تفعله بي أمي، لا يهمني شيء في الوجود إلا أن أنقذ نفسي من هذه النار التي ألقيت بنفسي إليها، أنا أكره فوزي، أكرهه بدمي جميعا، بل إن شعوري نحوه أشد من الكره، لا ليس شعورا ما أحسه نحوه، إنه إسقاط له من حياتي جميعا، إنه شيء حقير قذر، دنس فترة من حياتي، ولا أريده أن يدنس حياتي جميعها، لا أستطيع العيش معه.

وترقرقت الدموع في عيني نوال وهي تقول: وما ذنب طفلك؟ - إنه لم يعد طفلا بعد، ولا أريده أن يتحمل حياة لم يجن هو شيئا فيها، نعم إنه لا ذنب له، ولذلك أريد أن أنقذه من أبيه حين يكبر، وأريد أن أنقذه من العيشة بلا أب قبل أن يكبر، وأريد أن أنقذه من الحقيقة التي كشفتها في أبيه، إنه شيء بلا أخلاق ... بلا أخلاق على الإطلاق، ليس لأي شيء قيمة في نظره، أريد أن أنقذ ابني من أبيه، وأريد أن أنقذ نفسي من أمومة أشك في أنها ستكون صالحة، إن هذا الجنين الذي في أحشائي لا يزال جنينا، أريد أن أخلصه من الحياة قبل أن يلتقي بالحياة.

وكانت الدموع تنهمر من عيني هناء وهي تتحدث، كما كانت تنهمر من عيني نوال، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تقول أقسى قول يمكن أن يقال لهناء في لحظتها تلك: أليس هذا هو فوزي الذي أشقيت به المسكين حسام؟

ونظرت إليها هناء نظرات آلمة حزينة، ثم أطرقت وهي تقول: لا، ليس هو، لم أعرفه إلا حين لم تعد لمعرفتي به فائدة.

وقالت نوال في حزم: قومي.

واستأذنت نوال من أمها، وخرجت مع هناء، وما هو إلا بعض الحين حتى كانتا بالمكان الذي يقيم به اليهودي، وما هو إلا بعض آخر من الحين، حتى أصبحت هناء وهي لا تحمل إلا روحا واحدة هي روحها، ونزلت إلى السيارة ومعها نوال.

وفي الطريق إلى البيت انخرطت هناء في بكاء حاد عنيف، ولكنها لم تجد له في نفسها ألما، أحست كأنها إنسانة ضحت، وأن حلاوة التضحية تمسح عن نفسها الألم الذي عانته، ألم الأم تقضي على ابن أحشائها.

ووقفت السيارة عند باب القصر العتيد، ونزلت هناء وانية شاحبة اللون، وصعدت الدرج في إعياء تساندها نوال، فما إن بلغت أمها حتى هبت إليها الأم مذعورة تسألها ما بها، ولكن هناء لم تستطع إجابة، فقد اجتمع عليها الألم والإعياء والحزن واليأس، فلم تجب أمها، وإنما سارت في خطواتها الوئيدة المتهالكة إلى حجرتها، وفتحت بابها في ضعف، وأمها من ورائها لا تني عن سؤالها عما بها، وهي لا تني عن الصمت، حتى إذا بلغت السرير ارتمت عليه، وصعدت شهيقا عميقا، كأنها تطرد به من نفسها كل الآلام التي قاستها، ثم قالت في همهمة: أخيرا ... الحمد لله.

وتولت نوال إبلاغ الأم بما كان من ابنتها وزوجها والحياة النكدة التي لقفتها منذ تركت القصر، وظلت نوال تحكي حتى أتت إلى آخر المطاف عند اليهودي، وجزعت الأم من هذه الحادثة، وقبل أن تجيب نوال إلى حديثها، قامت إلى التليفون، فاستدعت طبيبها الخاص، ليطمئنها على صحة ابنتها، وحين رجعت إلى نوال قالت لها: إن إجهاضها لنفسها يمنع أي محاولة للإصلاح، أرجو الله أن يقدرنا على الخلاص من هذا الشاب، فأنا أعرف هذا الصنف من الناس، ولكننا سنتخلص منه على أية حال.

ودخل أحمد إلى الغرفة مذعورا بعد أن أنبأه الخدم بمجيء أخته، وبالحال الذي جاءت عليه، وحين أنبأته نوال بما أنبأت به أمه، قال في هدوء وجد: لقد كنت مقدرا لهذا جميعه، على أية حال سيطلقها، فما أظنه سيجرؤ على عدم الطلاق.

ونظرت إليه أمه في ابتسامة ساخرة: أتظن ذلك؟ أتظن أنك ستقول له طلق فيطلق.

فقال أحمد في وثوق: طبعا. - ما زلت صغيرا يا أحمد. - إنه صديقي وأنا أعرفه.

ونظرت إليه أمه نظرة عميقة وقالت: أتعرفه حقا؟

فتلعثم أحمد هنيهة، ثم قال: على كل حال لا أظن أنه سيمانع في الطلاق.

وقالت الأم في وثوق: سترى، قم إلى التليفون واطلب إليه أن يأتي.

وقام أحمد وطلب فوزي في التليفون، ووعد فوزي أن يأتي فورا، وقبل أن يأتي جاء الطبيب وأجرى الفحص على هناء، ثم نظر إلى أمها وقال: أما هناء فبخير والحمد لله، ولكن أنت ... أنت التي لا بد لك أن تستريحي يا سهير هانم.

قالت سهير: نعم أعرف. - يخيل إلي أنك لا تعرفين أبدا! إنني بغير أن أفحصك أرى أنك مجهدة كل الإجهاد، ولا بد من الراحة التامة. - أعرف يا دكتور، سأستريح.

ونزل الدكتور، وبعد حين جاء فوزي، ورآه أحمد يدخل من الباب الخارجي، فسارع نازلا إليه، وحاولت أمه أن تستوقفه لتنزل معه، فطلب إليها أن تلحق به.

وفي الدور الأسفل التقى أحمد بفوزي، وأراد فوزي أن يصعد إلى الدور الأعلى، ولكن أحمد قاده إلى غرفة مكتبه التي كانا يجلسان بها، وما كاد الصديقان يجلسان، حتى قال أحمد في تسرع وفي حسم: فوزي، أريدك أن تطلق هناء.

وفغر فوزي فاه من الدهشة، ثم تمالك أمر نفسه وقال: ماذا؟ - أريدك أن تطلق هناء. - هكذا! بهذه السهولة؟! - نعم. - وإذا رفضت؟!

وأخذ أحمد من الطريقة التي يحادثه بها فوزي، ولكنه صبر نفسه وقال: لا أظنك ترضى أن تعيش مع زوجة تكره العيش معك.

ودخلت سهير الحجرة في هدوء، وقام فوزي فلم تبال قيامه، وجلست على أقرب كرسي، وجلس فوزي هو الآخر قائلا: ما هذا الكلام الذي يقوله أحمد يا نينا؟

لم تستطع سهير أن ترد عن قلبها تلك الغصة التي تحسها كلما سمعته يقول «يا نينا»، ولكنها أغضت على السوء وقالت: ماذا قال أحمد؟ - قال إنه يريدني أن أطلق هناء.

فقالت الأم في هدوء: لا، هذا غير صحيح، إنه لا يريدك أن تطلق هناء، ولكن هناء تريدك أن تطلقها. - ماذا؟

فقال أحمد في غضب: ماذا؟ ماذا؟ إن الأمر كما سمعت ... ألم تكن تتوقعه.

وقال فوزي في هدوء: الواقع أنني لم أكن أتوقعه.

فقالت الأم: على كل حال توقعك لا يجدي شيئا، ما رأيك الآن؟

وصمت فوزي بعض الحين، ثم قال: أيمكن أن أكلمك على انفراد؟

وقالت سهير: أي انفراد تقصد؟ أنا لا أرى معنا إلا ابني.

وقال أحمد: أي سر يمكن أن يكون بينك وبين أمي ويختفي علي؟

فقال فوزي: إنها مسائل عملية لا أحب أن أتحدث فيها أمامك.

فقالت الأم: لن يختفي شيء عن أحمد، قل ما تريد.

فقال فوزي: الواقع أنني لا أستطيع العيش بدونها، فحياتي كلها معلقة برضائها عني، ولا أتصور كيف يكون حالي إذا تخلت عني هناء.

وقالت سهير في هدوء: أنا أفهمك تماما يا فوزي، ولكني أريد أن توضح نفسك في جلاء. - الواقع أنني لا أستطيع الطلاق.

فقال أحمد في تسرع: يا أخي هذه صفاقة.

ونظر فوزي إلى أحمد وفي عينيه ثورة مصطنعة، يخالطها أدب متكلف: أظن أنه لا معنى للإهانات.

فقالت الأم: اسكت يا أحمد، أنا آسفة يا فوزي ... قل ماذا تريد إذن؟ وكيف يمكن أن تعيش معها، وهي لن تعود إلى البيت مهما تفعل، لا أظنك تنوي طلبها في بيت الطاعة.

فقال فوزي متلعثما: بالطبع لا.

فقالت الأم في ثبات: فبيت الطاعة، كما تعلم، لا بد أن تعده أنت.

وأطرق فوزي خجلا وقال: نعم أعرف. - إذن ماذا تريد أن تفعل؟

وصمت فوزي لحظات، وأخذ يردد النظر بين سهير وأحمد، ثم قال: ألا يمكن أن نكون على انفراد؟

ودهش أحمد من إصراره هذا، وقالت سهير في حسم: لا.

فقال فوزي في بطء: إذن فأنت تعرفين أنني في فترة الزواج هذه قد تعودت نوعا معينا من المعيشة، وأصبحت لا أستطيع أن أعود إلى المستوى الذي كنت أعيش فيه، فإن هذا يخجلني أمام أصدقائي.

وفغر أحمد فاه من الدهش، ولم يجد شيئا يقوله، بينما قالت سهير في ثبات، وكأنها كانت تدرك أن فوزي لن يسوق إلا هذا الحديث الذي يسوقه الآن: إذن ماذا تريد؟

فقال فوزي: والله أمرك. - أتكفيك السيارة؟

وصمت فوزي، وقالت الأم: السيارة وأثاث البيت.

وقال فوزي: وماذا أفعل بأثاث البيت؟ إنني لن أحتاج منه إلا إلى أثاث ثلاث غرف فقط، النوم والمكتب والمائدة.

وقالت سهير: وماذا تريد أيضا؟

وعاد فوزي يقول: أمرك.

والتفتت سهير إلى أحمد ، وقالت له: أحمد، أرسل عم دهب لينادي المأذون.

وقام أحمد والدهشة عاقدة لسانه لا تزال، وقال فوزي: ألا نتفق أولا؟

ودق أحمد الجرس، وعاد إلى مقعده، وقالت أمه وهي على هدوئها: سنتفق يا فوزي.

وقال فوزي: ماذا ترين؟

وقالت الأم لابنها: هات دفتر الشيكات من الدور الأعلى يا أحمد.

وقام أحمد، وقبل أن يغادر الحجرة، أقبل عم دهب تلبية لنداء الجرس، فأمره أحمد أن يستأجر سيارة ويحضر بها المأذون فورا، ثم خرج ينفذ أمر أمه، ولم تتكلم سهير، ولم يتكلم فوزي، حتى عاد أحمد ومعه الدفتر، وأخذته منه أمه، وطلبت إليه قلما، وكتبت شيكا وقعته وفصلته عن الدفتر، ثم نظرت إلى فوزي قائلة: هذا هو الشيك، اسمح لي ألا أعطيه لك إلا بعد أن توقع الطلاق.

وقال فوزي مصطنعا الحياء: ألا أعرف الرقم؟

وقالت الأم في حسم: ألف جنيه.

وهم فوزي أن يقول شيئا، ولكنه رأى النظرات الجامدة في عيون أحمد وسهير، وظل ثلاثتهم صامتين، حتى جاء المأذون، وطلب إليه أحمد أن يجري إجراءات الطلاق، وحين حاول المأذون أن يلقي خطبته التقليدية، قطعها عليه أحمد، وطلب إليه أن يمضي في إجراءاته بلا إطالة.

وتم الطلاق، وتسلم فوزي الشيك، وهم أن ينصرف، ولكن أحمد أمسك به من طرف سترته وقال له: اسمع، إن أشد ما آسف عليه أنني عرفتك، فإنني أحتقر تلك الفترة في حياتي التي جمعتني بك، لقد خلقت في نظري مستوى جديدا للانحطاط لم أكن أتصور أن يرتمي فيه أحد، وكل رجائي اليوم ألا أراك أبدا، وألا أذكر هذه الفترة التي عرفتك فيها.

وفي جمود نظر فوزي إلى الأرض وقال: أشكرك.

ثم انفتل خارجا يتحسس جيبه الذي وضع فيه ثروته الجديدة.

الفصل السابع والعشرون

كان سيد في طريقه إلى بيت وصفي باشا حين التقى به فجأة زميله في الجماعة عبد العاطي بسيوني، وحاول سيد أن يروغ من اللقاء، ولكن عبد العاطي لم يتح له فرصة، وأمسك به: أين أنت يا أخي؟ - في الدنيا. - لقد أرسلنا إليك بعد خروجك من المعتقل فلم تأت. - آتي إلى أين؟ - إلى الأسرة. - أي أسرة؟

وذهل عبد العاطي، وقال له في سخرية: ألست السيد عبد البديع الدكر؟ - هذا أمر لا شك فيه. - هل جننت في المعتقل؟ - لا، بل عقلت. - ألا تعرف الأسرة؟ - لا، ولكن أعرف أن الجماعة قد حلت ... - لكننا نجتمع. - لا شأن لي باجتماعكم. - أكفرت بمبادئنا؟ - نعم، وآمنت بنفسي. - أتحنث في يمين أقسمتها؟ - أنا لم أقسم على القتل. - هذا مروق! - اسمع، أنا في طريقي إلى وصفي باشا شكري بناء على طلبه، وأعتقد أنه قد أعد لي وظيفة، وسأقبلها فورا، وقد خطب لي أبي عروسا من أقربائنا وسأتزوجها، فأرجوك أن تعتبرني مستقيلا من الجماعة، أنا لم أعد عضوا، أنا أريد أن أعيش يا أخي ... ابعدوا عني. - إن لنا يوما سيأتي. - فليكن هذا اليوم لكم وحدكم، كل ما أريده وظيفة. - أنت مارق، تتصل بأعداء الله وتخالف تعاليم الشريعة. - أبدا وشرفك، إنني سأصلي الخمس، وسأصوم الشهر، وسأحج إن استطعت سبيلا، وسأؤدي الزكاة إذا وجبت علي الزكاة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. - خدعتك الدنيا. - بل إني أعمل للآخرة أيضا. - سترى ... دولة الظلم ساعة، والحق إلى قيام الساعة. - انتظروا أنتم قيام الساعة، وأما أنا فسأعمل بقول ربي:

أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . - ولكن أولي الأمر لا يطيعون الله، لو أكملت الآية لذكرت قول ربي:

فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا

صدق الله العظيم. - فدعوهم لله يحاكمهم، كيف تعرفون أنتم الحق من الباطل؟ من أعطاكم الحق في الحكم على الناس وعلى أعمالهم؟! - كتاب الله نطبقه. - كتاب الله للجميع ... وإنه يقول:

إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون

فمالكم أنتم تتصدون للمحافظة عليه وحدكم؟ كيف تعرفون أن أحكامكم على الناس هي الصادقة؟ وكيف تثقون أن تفسيركم أنتم لآيات الله هو التفسير الحق؟ الدين للديان يا عبد العاطي. - هذا فراق ما بيني وبينك! أنت كافر. - مع السلامة يا عبد العاطي، مع السلامة يا أخي، دعني أعيش يا أخي، مع السلامة.

ومشى عبد العاطي مغضبا دون أن يرد تحية أخيه سابقا، وأكمل سيد طريقه إلى بيت وصفي باشا.

وحين أذن له الباشا بمقابلته قال له: ستذهب غدا إلى سكرتير وزير المعارف، وستجد طلبك عنده مؤشرا عليه بالتعيين. - أطال الله عمرك يا سعادة الباشا. - في هذه المرة استطعت أن أنقذك، في المرة القادمة لن أحاول. - أطال الله عمرك يا ...

ولم يكمل، فقد دق جرس التليفون، وسمع الباشا يقول في جزع: ماذا يا هناء؟

ثم سمعه يقول: متى؟

ثم وضع الباشا السماعة وهو يقول: «لا حول ولا قوة بالله ...»

ولم يستطع سيد صمتا، فقال للباشا دون وعي: خير يا سعادة الباشا؟

فقال الباشا في ذهول: هذه آخرة لعب العيال، لقد قبض على أحمد بتهمة الشيوعية، ماذا نفعل الآن؟ الأمر في يد النيابة، ربنا يلطف بأمه.

وثبت سيد في مكانه دهشا قانطا ألما، لم يستطع إلا أن يقول في حسرة وذهول: أحمد بك.

الفصل الثامن والعشرون

عرف أحمد السجن، وما كان يتصور أن يعرفه، قاده إليه شرطي فظ ينفذ الأوامر في خشونة صماء، فالجميع عنده سواء، لا فرق ثمة بين متهم في سياسة، أو متهم في جريمة، وإنما كلهم في عرفه مساجين، ثم لا شيء بعد ذلك، ألقي أحمد في حجرة ضيقة، أدار عينيه فيها فرأى دلوين، وما احتاج لسؤال، فقد كان يعرف أمرهما، أحد الدلوين للشراب، والآخر لإفراغ الشراب، وغير الشراب، وهكذا يلتقي الإنسان بالحيوان في كثير من الأحيان، أي فارق إذن بينه وبين البهيم في حظيرته، يفرغ طعامه حيث يأكله، ويلقي بجسمه إلى الأرض في مساواة بينه وبين الدلوين ومساواة بينه وبين الحيوانات.

كان يفرح أنه مسقط العيون من الأمن، وكان يفرح أنه مثار اهتمام من السلطات، وكان يفرح باسمه الحركي، وبالأسرار والتهاويل والطقوس، وكان يفرح بلهفة أخته عليه، وكان يفرح بأنه متحرر الفكر، لا يدين بالله، كما يدين عامة الناس والغوغاء الذين يطالب لهم بالإنصاف من الأغنياء، وكان يفرح أنه قطعة خارجة عن نظام القطيع الذي يسعى للحياة في طريق تقليدي يسير على آثار السابقين، وكان يفرح بأنه مهدد بالخطر، وبأن أصدقاءه يخشون عليه هذا الخطر.

أما وقد وقع ما كان مهددا به، فذاك ما لم يتوقعه، فجميل أن يكون ذا أهمية، وأن يشعر بأنه ذو خطر يسعى رجال الأمن خلفه، ولكن ليس جميلا أبدا أن يوقع به رجال الأمن في السجن، فالواقع أن أحمد، برغم أنه كان فرحا بأنه مهدد، إلا أنه لم يكن يتوقع أبدا أن يدخل السجن، فما كان يتصور أنه هو ... ربيب القصر، وحاكمه، والسيد الأول فيه والأخير، يدخل السجن! وما كان يتصور أن يلقى إلى السجن، وعمه وصفي باشا يتمتع بهذا النفوذ، كان في عميق نفسه يستبعد فكرة دخوله السجن، ولكنه كان يترك هذه الفكرة طافية على سطح شعوره ليستاف منها هذا الأريج الحلو من الإحساس بالأهمية.

وأجال أحمد نظرة ثانية في حجرة السجن، وعاد إلى نفسه يسألها، إذن فهذا هو السجن، فمن هنا إذن عرف الناس الحرية، وذكرته كلمة الحرية بالخطبة التي ألقاها فؤاد، جميلة هي الحرية، إن شيئا في العالم لا يساوي الإحساس بالحرية، حرية الحركة، وحرية الشعور، وحرية التفكير، وحرية القول، من هنا يستطيع أن يدرك قيمة الحرية، لم يستطع أن يدرك قيمتها إلا حين فقدها، كم هو غبي وإن ادعى تحررا في التفكير، كيف قبل أن يؤيد نظاما لا يعترف بالحرية، ويرى فيها معنى رخوا لا يسير بالحياة إلى أهدافها السامية، وما أهداف الحياة السامية؟ أليست هي معاني تقف الحرية منها موقف الزعامة.

إن الله أعطى عبيده حرية التفكير والعمل ثم حاسبهم، الحرية أساس النظام الذي أقامه الله، سبحانك يا رب! يا رب ... فك قيدي لأقدس الحرية، إني ألجأ إليك يا رب؟!

يا ماذا؟ ماذا أقول؟ أقول يا رب؟ يا للضلال الذي كنت فيه! لجأت إليه عند أول نازلة، وكفرت به في النعمة، أي هباء كنت أعيش فيه؟ أأقول يا رب بهذه البساطة، وكأنني لم أكفر به، ولم أخرج عليه، ولم أعتبر التابعيه بهائم مخدرين ؟ أأقول يا رب وأجد لها في نفسي هذا الرنين؟ بل إني أحس الآن أني قريب إليه، وأحس أملا يشيع في نفسي من بعد ضيق، وأحس صدري وقد أشرقت فيه أضواء جديدة باهرة حلوة، أكل هذه المعاني تتواكب في نفسي المظلمة من كلمة واحدة تنطلق من صميم الفؤاد، يا رب، نعم إننا نحسه ولا نحلله، إننا نؤمن به فنصل إليه، ولكننا لا نفحصه ولا نضعه على أسس من المنطق والعقل، وإلا فما هذا الشعور الحلو الذي ينساب في نفسي، ما قول المنطق والعلم والفلسفة في هذا الشعور؟ ما رأي العلوم جميعا في هذه الراحة التي أتملاها منذ قلت يا رب، وما رأي المذهب الذي أدين به في هذا الهدوء الذي يتمشى في أوصالي من بعد اضطراب وضيق ويأس، لا يفصل بين الشعورين إلا كلمة واحدة قلتها ... يا رب ... فإذا أنا سعيد!

أي ضلال كنت أسعى فيه؟ إن مذهبي فيما أذكر تعرض لهذا الشعور الذي أحسه، نعم إني أذكر نظريته في هذا الصدد، لقد أحسوا بالخطر الذي يطالعهم من قول الناس «يا رب» فأنشئوا نظرية ليحاربوا بها الخطر، يقولون إننا لو هيأنا للإنسان حياة مستقرة، ينال فيها ما يطمح إليه، ومشت به الحياة في الطريق الهادئ الأمين، لو فعلنا ذلك ما احتاج الإنسان أن يقول يا رب. يا للضلال الذي كنت فيه! وهل حياة الإنسان كلها مادية لا يحتاج فيها إلا لمطالب الجسد التي يريد مذهبهم؟ أليس للإنسان رغبات أخرى؟ ألم يدركوا تلك الحياة التي تمور في نفس الإنسان، متقلبة بين السخط والرضى، أو الإقبال أو النفور، أو الانشراح، بلا داع إلى السخط، أو الرضى أو الإقبال أو النفور أو الضيق أو الانشراح؟ أين نولي وجوهنا عند الضيق؟ وأين نولي وجوهنا عند الرجاء؟ وأين نولي وجوهنا عند الخوف؟ وأين نولي وجوهنا عند المرض؟ ولماذا هذا التساؤل جميعا؟ أين نولي وجوهنا في هذا السجن الذي ألقيت إليه؟ أنا الآن لا أحتاج إلى طعام ولا شراب، بل إنني هنا في السجن مكفول الرغبات، مهما تكن هذه الرغبات محققة بأبخس ما تقبله النفس من خبز أسود وأدم حقير، إلا أنني على أية حال مكفول الرغبات، فهل أنا مستقر الحياة، هادئ على الطريق، لا أحتاج إلى أن أقول «يا رب»؟ فما لها انطلقت من صميم الفؤاد؟ ما لي وجدت نفسي أقول «يا رب»، دون أن أفكر في قولها؟ إنني الإنسان، أنا عالم في نفسي، عميق الغور، جموح العواطف، موار الأمواج، وويل للإنسان إن ضحل غوره، أو هدأ عاصفه، أو استكانت الأمواج فيه، إن جمال الإنسانية في هذه الإشراقات التي تعقب الضيق، وفي هذه التقلبات التي لا يستقر بها قرار، فمن لي في هذه الأنواء؟ وماذا أقول إن لم أقل يا رب؟

لقد فكر المذهب في كل شيء ونسي الإنسان الكامن في نفس الإنسان، الطبيعة الإنسانية هي أشد أعداء المذهب عنفا.

ولكن ما لي أجهد في إقناع نفسي بأن أترك اقتناعي بمذهبي؟ هل مر علي حين من الأحيان كنت فيه مقتنعا بمبدئي كل الاقتناع، هل أذكر لنفسي فترة كان المبدأ خلالها مستقرا في عميق إيماني؟ لا أذكر ... أنا لا أذكر أنني كنت عميق الإيمان بشيء على الإطلاق، لم أكن خالص الإيمان بمبدئي، كما لم أكن خالص الإيمان بشيء، كان هذا هو سر شقائي، حاولت أن أهرب من القلق والفشل إلى المبدأ، فخيل لي أنني مؤمن به، ولكنني كنت أعلم دائما أنني أحب فيه الاسم الحركي، وأحب فيه الاستخفاء عن الأمن، وأحب فيه إثارة هذه السحابة من الإبهام والغموض والأسرار حولي، وأحب فيه لهفة أختي علي كلما رأتني نازلا على موعد اجتماع، وأحب فيه الاجتماع نفسه ومناقشة أمور الكون جميعا، كنا نتحدث عن العالم أجمع، وكأننا نحن حكامه، وكنا نتخذ العالم أجمع مجالا لتطبيق النظريات التي تعلمناها، والمبادئ التي نعتنقها، كنت أرى نفسي في هذا الاجتماع ندا لله ذاته، فحق لي إذن أن أبحث في وجوده وفي تعاليمه، لم أكن أحسه فكفرت به، واعتقدت أنني آمنت بمبدئي، ولو أنني أزلت عن نفسي ما تتخذه من أقنعة، ولو أنني التقيت بنفسي لقاء خالصا من كل زيف نتستر خلفه، لعرفت أنني كنت أومن بمظاهر مذهبي، دون أن أومن بمذهبي ذاته.

إني أعرف ذلك في نفسي، ولن أنسى تلك الانتقاضات التي كنت أواجهها من نفسي بين حين وآخر، ولن أنسى أنني كنت أقر مضطربها وأسكن مائجها، لقد كنت محتاجا لمذهبي، لأقنع نفسي به أنني ذو شأن، لم أستطع أن أكون ذا شأن في شيء، فاتخذت هذا المذهب، وإنه والحق يقال، يمد النفس بشعور ضخم من الأهمية، إن هذه مشكلة لا بد لي أن أواجهها الآن ما دمت ألتقي مع نفسي في هذه الصراحة التي لم نتعودها، وما دمت أنتوي أن أترك المذهب ... هل سأتركه؟ نعم، لقد آمنت بالله وأحسسته، والمذهب لا يقبل مؤمنا بالله، إذن ففيم يكون تفوقي؟ لو أن المذهب يقبل منضما له ومؤمنا بالله؟ إذن؟ إذن ماذا؟ إذن لظللت منتظما في سلكه، إن للمذهب ألفاظا حلوة الرنين، سريعة النفوذ إلى الإحساس، كان يعجبني فيه أنه لا يساوينا بالقطيع، ولكن أي قطيع يقصد؟ أليس القطيع هو الشعب الذي يريد المذهب له العدالة والإنصاف من الأغنياء، ويريد أن يسوي بينه وبين جميع الأغنياء، فلا يكون في العالم غني، ولا يكون في العالم فقير، لا شك أن هذا معنى من معاني القطيع، وهناك معنى آخر ... قطيع الذين سبقونا، ولكن أليس المذهب نفسه يقدس قطيعا سبقه من الذين أسسوه ووضعوا دعائمه الأولى، قطعان نحن في كل منحى من مناحي الحياة، ولكن ماذا يضيرنا أن نسير في طريق قطعه من قبلنا، بل كيف نعرف أخطاء السابقين، إذا كنا لا نرود طريقهم، بل كيف نتقدم إذا نحن لم ندر أين وقفوا؟! إن نقطة النهاية في سير من سبقونا، هي نقطة البداية في سيرنا، وهكذا يتقدم العالم، لا يستطيع كل جيل أن يكفر بما سبقه، وإلا ظل العالم واقفا في مكان واحد لا يتقدم، إن تقدم العالم خطوات من الأجيال المتلاحقة، واعتراف من اللاحق بفضل السابق، وتصحيح من اللاحقين لأخطاء السابقين ... وهناك قيم إنسانية وضعتها الأجيال ، ثم لم تغيرها الأجيال، وهناك مشاعر إنسانية بدأت مع الإنسان، ولم يستطع الإنسان أن يغيرها، لأنها جزء منه، هل يحق لنا نحن اللاحقين أن نعدو على هذه القيم فنغيرها، أو هل يحق لنا أن نغير هذه المشاعر؟ هل يجوز لنا أن نغير ما استقرت عليه الأجيال من تقديس الحرية والعدالة والآداب العامة التي تعارف الناس عليها، والأمانة والشرف والوطنية؟ هذه القيم وأمثالها، هل يجوز لنا أن نعدو عليها؟ لا نستطيع، فهل يجوز لنا أن نغير المشاعر؟ السؤال في ذاته غير جائز، لأنه ليس في طوع الإنسانية أن تغير المشاعر ... كيف نغير مشاعر الحب والبغض، والضيق والسرور والفرح والألم، والراحة والاضطراب، أجيال مضت وأعقبتها أجيال، والقطيع سائر يتقدم في العلم وفي الفن، ولكنه يقف عند هذه المشاعر، كل جهده إزاءها أن يحللها ويصفها ويرسمها، ولكنه أبدا لم يستطع أن يغير منها شيئا، فالقطيع إذن كلمة نقولها فنبغضها، ولكننا إذا مشينا قليلا وراء معناها، وجدنا أن سير القطيع هو الذي بلغ بالمدنية إلى هذا المدى الذي بلغته اليوم، على أن يكون في القطيع عقول واعية تدرس وتفكر وتطمح إلى التقدم، وتسعى إليه وتبلغه، أو تترك من الآثار ما يجعل الإنسانية تبلغه، هو ليس قطيعا إذن، إنه الإنسان يسير في طريق الحياة، وله هدف محدد واضح، هو نمو الإنسانية وتقدمها وبلوغها إلى أسرار الكون، وانتفاعها بهذه الأسرار فيما يفيد الإنسانية جميعا ... الإنسانية إذن تجمع السابقين واللاحقين، ومن يخرج عن ركابها عضو أبتر فلا نفع فيه، إن من يقف على حافة الطريق، ويسخر من السائرين ولا يشجعهم، عضو أشل ضعيف، أشفق من السير، وخاف الطريق، فوقف يريد أن يعرقل السائرين ويعوق تقدمهم، ولكن الإنسانية أقوى منه ومن كيده، فهو يسخر ثم لا يصنع شيئا، لقد كنت كذلك، إنني لم أسر مع أحد، لم أسر مع مذهبي ولم أقتنع به، ولم أسر مع غير مذهبي، وسخرت منه، لقد كنت إذن على هامش الطريق، الإنسانية لم تستفد مني شيئا، لعلي كنت مشفقا لأني لم أستطع أن أكون ذا موهبة في شيء، ولكن هل لا بد أن أكون حتى أسير الطريق؟ هل كل إنسان في العالم ذو موهبة، كيف تستقيم الحياة، وكيف يكون صاحب الموهبة فذا إن كان يستوي فيها مع الناس أجمعين؟ إنني الآن أعرف أنني لست صاحب موهبة، ولكنني أيضا تبينت الطريق والهدف، إن خير ما أستطيع أن أفعله أن أكون إنسانا، إنسانا يسع العالم أجمع في قلبه، يشفق على الضعيف ويعينه، ويفرح للناجح ويشجعه، ويؤيد القوي إن كان على حق ويضعه على الطريق إن أخطأ، ويثور في وجهه إن عدا وظلم وبغى، فلن ترى الإنسانية أبشع من قوي يظلم ولا يجد من يقول له ظلمت، إنني الإنسان، أهم عنصر في هذا الوجود الضخم، المواهب جميعها تسعى لإسعادي أنا الإنسان، فهل أستطيع أن أكون إنسانا يستحق ما تقدمه له المواهب؟ هل أستطيع أن أتذوق الفنون وأحسها؟ وهل أستطيع أن أتابع التقدم العلمي وأعينه بجهدي الذي لا يتمتع بموهبة، وقبل كل هذا هل أستطيع أن أسع في قلبي المخطئ ولا أهينه، والمحسن ولا أحقد عليه؟ وهل أستطيع أن أغالب نفسي فلا تسعى إلى الشر؟ بل هل أستطيع أن أتيح لخير نفسي أن يتغلب على شرها؟ لكن هل أصادق الشرير؟ لا، فليس هذا من الإنسانية في شيء، فصداقته تشجيع له على المضي في شره، فهل أجازيه الشر بالشر؟ إن اقتصر العقاب عليه فنعم، هل أستطيع أن أحب الجميع؟ هل أستطيع أن أحب أبي؟ نعم. نعم؟! إنني أدري أنه هو الذي ألقاني إلى هذا الشك، وإلى هذه الحيرة، لم أستطع أن أحترمه أبدا، ولكن ما ذنب أبي؟ إن في نفسه عوجا، ولكن من يستطيع أن يحتمله إن لم أحتمله أنا؟ ومن يعينه إن أنا لم أعنه، إنني أريد أن أكون إنسانا، فهل أستطيع؟ الطريق وعر، ولكنني سأستطيع.

الفصل التاسع والعشرون

كانت سهير لائذة بسريرها، مرغمة على الاستلقاء فيه إرغاما، ولو تركت وشأنها ما استقر بها قرار، ولظلت حائرة بين السجن وأولي الأمر، ولكن تكاثروا عليها وأرغموها على أن تظل بسريرها، وكانت أقوى حجة في يدهم أن وصفي قطع الأمل عندها أن يستطيع أحد من ذوي السلطان عملا، فابنها متهم في جريمة يعاقب عليها القانون، والقضاء وحده هو المختص، ولا سبيل لأحد عليه ... ولكن ماذا يجدي استلقاؤها هذا، وقلبها هو المريض، والألم يعتصر قلبها، وسيظل يعتصره مهما تلجأ إلى الراحة؟ إن المرض في نفسها، فأين لها المهرب من نفسها؟! أحمد في السجن، ويلي مما صنعت الأيام!

ودق جرس التليفون، وكان المتكلم هو وصفي باشا، وقد ألقى إليها أنه استطاع بعد جهد أن يجعل النائب العام يعجل بالتحقيق مع أحمد، وقد تقرر أن يبدأ التحقيق معه في الغد.

وما لبث سليمان أن دخل الحجرة فأنبأته، فما زاد على أن أطرق صامتا، وراحت سهير تنظر إليه وتطيل النظر، لقد رأت في وجهه معالم حياة، لقد رأته يتألم، وأحست ألمه، كانت تحس ألمه في نفسها، كما تحسه في وجهه، لقد التقيا آخر الأمر على إحساس واحد، وإن يكن هذا الإحساس هو الألم، إلا أنهما التقيا عليه آخر الأمر، عجيبة هذه الأيام! أكان لا بد لنا من هذه الفواجع حتى نلتقي؟! وهل كان لا بد لنا من اللقاء؟ عجيبة؟ إن التنافر الذي كان بيننا هو الطريق الذي أدى إلى لقائنا اليوم، لقد نشأ ولدانا فوجدانا متنافرين، لم نتحد يوما على تربيتهما، ولم نتآزر يوما من أجلهما، كانت الصلات بين الأبوين مفككة هشة فنشأت أخلاق طفلينا مفككة هشة، بذلت أنا الأم ما في وسعي، ولم يكن للأب وسع، فلم يبذل شيئا، ولكن هل بذلت ما في وسعي حقا؟! أتراني كنت أقوم بما يجب علي؟ أكان كل واجبي أن أحقق رغبات طفلي مهما تكن هذه الرغبات؟ أكان يجدر بي أن أترك أباهما أمامهما يتضاءل ويضمحل حتى يصبح شيئا كالهباء من العدم، فإذا هما ينشآن بلا قدوة أمامهما، ولا إيمان بشيء ولا احترام لشيء، أكنت أستطيع أن أقيم من سليمان شيئا؟ ما أظنني كنت مستطيعة؟ ولكن هل حاولت؟ لا، لم أفعل، ولم أحاول حتى أن أقيم خلق طفلي، لم أحاول لهما شيئا إلا أن أنفذ ما يريدان، ثم أنطوي على ألمي ضنينة به، أخشى أن يزول، كنت ألتذ ألمي، لأنه يحمل لي ذكريات من الشباب والهوى، وفي غمرة من اللذة والألم والذكريات والشباب والهوى، لم أحفل أمر ولدي فنشآ ضائعين في بيداء لا هدف لهما فيها، تائهين لا يحدد أملهما مطمح أو غاية.

كنت ضعيفة أمام ألمي، كما كنت ضعيفة أمام طفلي، كنت ضعيفة أمام ألمي منذ اللحظة الأولى، لقد هيأت لنفسي حينذاك أنني قوية، وأنني أنتقم لحبي المهجور.

فإذا بي أنتقم من نفسي، وخيل لي أنني في انتقامي لنفسي قوية، ولكن ها أنا ذي على الأيام أتبين أنني ما انتقمت إلا عن ضعف، فالانتقام جميعه ضعف، إنه لا يصدر إلا عن إنسان عجزت نفسه أن ترد الشر الصاخب فيها، ولا يصدر إلا عن إنسان هانت عليه نفسه، فعقله ضئيل، وعاطفة النقمة عنده طاغية، فهو مغلوب على أمره من عاطفته، ومن عاطفة شريرة فيه، كنت ضعيفة حين تزوجت سليمان، هدني هجر وصفي لي، فلم أتمالك أمر نفسي وقسوت، ثم ها أنا ذي أرى أن قسوتي لم تكن مني إلا ضعفا.

وكنت ضعيفة أمام طفلي، فما زلت أجسم لنفسي أن ليس لي إلا هما، فضعفت وكنت أعلل ضعفي دائما بأنني لا أمل لي إلا هما، ولو كان هذا المعنى عميق الغور في نفسي لاستطعت، أو لحاولت على الأقل أن أجعل منهما شيئا آخر غير هذا الذي صارا إليه، ولكن الواقع أنني عشت في الألم الذي خلقته لنفسي منذ أول حياتي، ثم أبيت أن أخرج عن هذا الألم، فكان ما أقاسيه الآن من ابنة مطلقة، وهي لا تزال في أول بواكير الشباب، وابن سجين وهو لا يزال في أول بواكير الحياة.

بكرت الأشعة الأولى من الشمس فلم تجد سهير في فراشها، بل كانت استيقظت في زوال الليل، وارتدت ملابسها، ومكثت تنتظر أن تعلن إليها هذه الأشعة أن اليوم الجديد قد جاء، وأنها تستطيع أن تلتقي بابنها، على أي حال ستراه، إنها لا تدري ولا يهمها أن تدري، كل ما تصبو إليه أن تراه.

واستيقظ سليمان مبكرا، وعجل بارتداء ثيابه، ونزل هو وزوجته إلى مقر النيابة التي سيحاكم فيها أحمد.

ودخلت سهير المحكمة، الله للأيام، لماذا يقسو عليها الزمان هذه القسوة، أتدخل هي المحكمة لترى ابنها مقبوضا عليه؟!

وفي ساحة المحكمة رأت سهير المساجين، والشرطة يروحون بهم ويغدون، وهم كالشياه المستسلمة لا تملك من أمر نفسها أمرا، القيود في أيديهم، والملابس الزرقاء ملقاة عليهم، واليأس يملأ عيونهم، والمذلة تغشاهم، أهذه هي نهاية المطاف؟ أيقدر لي أنا أن أرى ابني ندا لهؤلاء، بعد أن أفنيت عمري من أجله، أكل ما قد فعلته، وكل ما قد امتنعت عن فعله، لا يثمر لي إلا هذه النهاية الكالحة الشوهاء؟ أمن أجل هذا أهدرت شبابي، ولذات حياتي، وآمال المطالع الأولى من إشراقات عمري؟ أمن أجل هذه النهاية لازمت سليمان، وقطعت كل خيط يصلني بأمل من سعادة، وحييت ألمي وأحييته كلما آذن بضعف، وكلما أشرف به النسيان من الزمان على وهن؟ أأنا من صنعت هذا المصير، أتراي أنا من مهدت له، أتراي أنا قد شغلت بألمي عن ولدي، فكان هذا المصير الذي ألتقي به في أخريات العمر مني، وفي أوائل العمر منه أو كنت أقدر؟ أم هل كنت أفكر؟ لا، ما فكرت فيما قد يصير إليه ولدي، ولا حتى فكرت فيما قد أصير إليه أنا، ولكن هل أخطأت إلى هذا الحد؟ هل كان خطئي كافيا وحده ليقودني إلى هذا المكان؟ هنا مع زوجات المجرمين وأمهاتهم، أي فارق بيني وبين هذه المرأة هناك؟ تلك التي تحيط بها أجواء من الجهل واليأس والألم، وأي فارق بيني وبين تلك التي هنا تحمل طفلها على كتفها، وترنو إلى زوجها الشاب، يقاد إلى حيث لا تدري ولا يدري من مصير، لعل هذه الأم خير مني، لعلها هي لم تخطئ ولم تكن لها يد في الجريمة التي ارتكبها زوجها، ولعلها ترعى وليدها خيرا مما رعيت أنا وليدي، ولكن أكان خطئي يستحق هذا جميعه؟ أم أن سليمان كان مخطئا معي؟ لا، لا أرى سليمان أخطأ في شيء، لقد جرى على طبيعته لم يغيرها، وكان علي أنا أن أعوض ولدي عن أبيهما، لا بالمال وحده، ولكن بالرعاية والتقويم أيضا، ولكن ماذا يفيد الندم الآن؟ بل ماذا يفيد أي شيء الآن؟ لا، ما أظن شيئا يفيد!

وبينما سهير في غمرة من هذه الأفكار والذكريات، أقبل وصفي إليها مصطحبا صديقه المحامي الكبير مصطفى باشا حسني، وما إن رأته حتى عصفت بنفسها نوازع شتى من الألم والاطمئنان والحسرة والجزع.

قال وصفي: لماذا تجلسين هنا؟

فقالت سهير: إن سليمان يقول إنه سيمر من هنا.

فصمت وصفي هنيهة، ثم التفت إلى صديقه يقول: تذهب أنت إلى غرفة المحامين يا باشا.

وقال مصطفى باشا: وأتركك! لا يا أخي، لا طبعا، سأنتظر هنا معكم، حتى يبدأ التحقيق.

فقال وصفي: ألا تبلغ وكيل النيابة أنك هنا؟

فقال مصطفى باشا: حين يجيء المتهم سأدخل لوكيل النيابة، لا تنشغل يا باشا، كل شيء سيكون على ما يرام.

ومست كلمة المتهم قلب سهير، ولكنها ما لبثت أن سخرت من نفسها وهي تسائلها، وبماذا يمكن أن يسمى؟ إنه متهم؟ وليس له هنا اسم آخر.

وبينما كانت سهير شاخصة إلى الباب، لا تميل ببصرها عنه، مال وصفي على سليمان: سليمان، سهير متعبة، التعب يبدو على عينيها بشكل واضح، أرجوك أن تأخذها إلى البيت بمجرد أن ترى أحمد. - نعم يا باشا سأفعل.

وشمل الصمت أربعتهم بعض الحين، ثم ما لبثت سهير أن رأت السيد عبد البديع يدخل من باب المحكمة مضطربا بادي الألم، ورآهم السيد، فأقبل إليهم مسرعا، وحياهم جميعا في أدب حزين، ثم أراد أن ينتحي ناحية، ولكنه رأى جعفر وحسام يدخلان الساحة، فوقف حيث هو ينتظرهما، وقصد الشابان إلى حيث كان الجميع يجلسون، وقالت سهير: كيف أنت يا حسام، متى جئت من البلد؟ - أمس مساء، طلبتني أمي.

ثم التفتت سهير إلى جعفر: كيف حالك يا جعفر؟ - بخير يا عمتي، الحمد لله.

ثم انتحى جعفر وحسام بالسيد ناحية مستترة، وراحوا يدخنون في صمت، وأنظارهم إلى الباب تنتظر مجيء أحمد.

ولم يطل بهم الانتظار، فسرعان ما جاء أحمد مرتديا ملابسه العادية، لم يزد عليها إلا القيد الذي يكبل يديه، ونظرت سهير إليه، وزأرت في صدرها صرخة مجنونة، لم يمنعها من الانطلاق إلا أنها في صدر سهير تمور، ولم تجد الصرخة سبيلا إلى الهواء إلا في كلمة واحدة، قالتها الأم في صوت خفيض كسير، ملتهب النغمات، واله الرنين: أحمد.

ونظر سليمان إلى ابنه يقترب منه والقيد في يديه، ابنه المتكبر الذي لم يره في القصر إلا عالي الرأس، حاسم الأوامر، شديد الترفع، قليل الحنين لأبيه، قليل الاحتفاء به، أحمد الذي لم يستطع رغم علمه بما يدور في نفسه نحوه إلا أن يحبه أشد الحب ... حبا يستخفي، لأنه لا يجد فرصة للظهور، أحمد المتكبر الحبيب، يقاد وفي يديه القيد، وكالنبع تسده الصخور عن الجريان، فيحطمها ويسيل، سالت الدموع من عيني سليمان.

واقترب أحمد، وراع القوم المنتظريه إشراقة في وجهه، لا تتدفق إلا عن نفس مطمئنة هادئة، ونظرت الأم إلى ابنها، وحاولت أن تبتسم، وجاهدت لتفرج فمها عن ابتسامة تصحب ابنها إلى التحقيق، ويسر لها الأمر ابتسامة عريضة طالعتها من ولدها، فلاقتها بابتسامتها هي المخضلة بالدموع، ثم لم تزد.

والتفت أحمد إلى أبيه في إشفاق وحب واهتمام: لا ترع يا أبي، لن يكون إلا ما يسرك، أقسم لك يا أبي، أقسم بحياتك أنه لن يكون إلا الخير كل الخير.

وخفق فؤاد سليمان في وجيب متدافع، بحياتي أنا؟ أبحياتي أقسمت يا ولدي؟ أحياتي عندك قسم؟ ألي حياة عندك يا ولدي؟ حذار يا ولدي أن يختطفك مني السجن! في رعاية الله يا ولدي، دعاء تردد في قلب الأب في كل خلجة من خلجات قلبه، ولكن لسانه ظل مذهولا بالمفاجأة، معقودا بالدموع، لا يطيق أن يصل بهذا الدعاء إلى أذن ابنه، ولكنه كان واثقا أن الدعاء قد بلغ آذان السماء.

ونظر أحمد إلى عمه وصفي باشا، ومد له يده، فوجد يده الأخرى تصاحبها ، فأطبق بيديه كلتيهما على يد عمه، وقال ودمعة متألقة تموج في عينه تظل بها لا تسيل: يا عمي، أنا مقدر مجيئك، ومقدر كل ما تبذله من جهد لأجلي، أشكرك لا تكفي، ولكني لا أجد غيرها، أشكرك.

وقال وصفي باشا في ثبات: أي شكر يا أحمد؟ أنت ابني، أريدك أن تثبت، بل لا أريد منك شيئا، فهذا الذي أراه في وجهك فوق ما كنت أنتظر.

وأقبل الشبان الثلاثة على أحمد يحادثونه، وحاولوا أن يبتعدوا بحديثهم عن العواطف، وعن السياسة، وعن التحقيق، فلم يجدوا إلا كلاما أجوف وقع في نفس أحمد موقعا حلوا، لقد كان يدري ما يدور في نفوسهم، وكان يقدره.

قص حسام عليه ما صنعه في البلد، وما ضاق به فيها، وما سره، وقص عليه السيد أمر عروسه وفرحها بأنها ستأتي إلى مصر، ووقف جعفر يعلق على الحديث جميعه، محاولا المرح، ما أتاحت له نفسه هذا المرح، حتى جاء الحاجب آخر الأمر يستدعي أحمد للتحقيق الذي سبقه إلى غرفته محاميه مصطفى باشا. وقال الشبان لأحمد: إنهم منتظرون، وودعته أمه وأبوه بدعوة تتصاعد إلى السماء من عيونهم، ومن دموعهم، وقال له وصفي باشا: كن كما أنت الآن يا أحمد.

ودخل أحمد غرفة التحقيق.

وحاولت سهير أن تعود إلى مجلسها، ولكن وصفي وسليمان والشبان أقنعوها أن التحقيق سيطول، وأنها لا تستطيع الانتظار، وكانت الأم في حال لا تحتمل معها كثرة اللجاج أو العناد فخضعت، وخرجت يصحبها سليمان ووصفي.

مكث الشبان الثلاثة ينتظرون نتيجة التحقيق ومر بهم ضابط بوليس دخل غرفة التحقيق، ومكث بها بعض الحين، ثم خرج واتخذ لنفسه كرسيا بجانب باب الغرفة.

وبعد ساعات طويلة انتهى التحقيق، وخرج أحمد وانضم إليهم والإشراقة لا تزال ماثلة في وجهه، تشيع الاطمئنان حوله، وتبعث به دافئا إلى قلوب إخوانه، وسألوه عما دار بالتحقيق، فأنبأهم بأنه لا دليل لدى النيابة ضده.

وقال السيد عبد البديع: أنا واثق أن التحقيق سيحفظ، لقد حفظ التحقيق مع فوزي عبد المجيد، ولكن ...

ولكنه لم يكمل الجملة، وكأنما أحس أنه ما كان له أن يذكر اسم فوزي، أشعره بذلك هذا الوجوم الذي لصق بوجه حسام، ولكن أحمد كان مصغيا للحديث باهتمام، فهو يقول لسيد محاولا أن يخفف عنه الحرج الذي وضحت آثاره عليه: إذن فالقضية جميعها لا دليل فيها، أنا واثق من ذلك، لقد أرحتني يا سيد، لأنك بشرتني بأنني سأخرج.

وقال السيد في إطراق: إن شاء الله!

وقال أحمد: يا أخي، ليست هذه لهجة المتفائل، ألم تقل إن فوزي قد أفرج عنه؟!

وقال السيد في ألم ووجوم: لا، لم أقل إنه أفرج عنه، ولكنني قلت إن التحقيق حفظ لعدم كفاية الأدلة.

وقال أحمد: التحقيق حفظ يعني أن فوزي أفرج عنه.

وقال جعفر في ثبات: لا، النيابة أفرجت عنه، ولكن البوليس اعتقله.

وبهت أحمد هنيهة، ووجم حسام، ولكن جعفر سارع قائلا: أظن أنهم لن يعتقلوا أحمد، فإذا فعلوا، فأعتقد أن أبي سيجعلهم يطلقون سراحه.

وقال السيد: طبعا.

وقال جعفر: لقد كنت أعلم أن فوزي معتقل، فقد جاءني صديق لي وله، ورجاني أن أكلم أبي ليشفع له في الإفراج عنه.

وامتقع وجه حسام، وسارع السيد قائلا: بعد ما فعله يا جعفر بك!

فقال جعفر: والله أنا أيضا لم أكلم أبي، رغم أن صديقه أخبرني أن أبا فوزي قد أصيب بالشلل، ولم يعد للبيت رجل غير فوزي.

وظل حسام على وجومه، وارتبك سيد فلم يقل شيئا، وقال أحمد في هدوء وثقة: ولماذا لم تكلم عمي؟

وعلت وجوه الشبان الثلاثة دهشة، كان جعفر أسرعهم في التخلص منها، وقال: الحق، خشيت أن أغضب اثنين، خشيت أن أغضبك، وخشيت أن أغضب أبي ذاته.

ومست قلب حسام غصة لأن جعفر لم يخش أو لم يقل أنه خشي أن يغضبه هو أيضا، فقد كان يحب أن يرتبط اسمه بأسرة خالته، وقبل أن يجيب أحمد، خرج مصطفى باشا من غرفة التحقيق، وعلى وجهه فرحة متحفظة، وشخص أربعتهم إليه، وهو يقترب منهم، حتى بلغهم وقال: مبروك يا أحمد، لقد حفظ التحقيق لعدم كفاية الأدلة، ولكن ...

وقال أحمد: ولكن ماذا ؟ - أظن أن الأمن العام سيظل متحفظا عليك فترة أخرى.

وأطرق أحمد، ووجم السيد وحسام، وقال جعفر: المهم يا سعادة الباشا ... هل النيابة أمرت بالإفراج؟

فقال الباشا: نعم.

فقال جعفر: ألف شكر، لا تخف يا أحمد، كل شيء سيكون على ما يرام.

وقال أحمد في ثقة: نعم، أعرف، كل شيء سيكون على ما يرام.

واقترب الضابط الذي كان جالسا إلى جانب غرفة التحقيق، وأمر الشرطي حارس أحمد أن يتبعه والسجين، وفي صمت مشى الموكب حتى بلغ الباب الخارجي، ووقف الضابط أمام سيارة ذات صندوق كبير مغطى بالقماش، وقف الركب خلفه، وتقدم الشرطي إلى باب الصندوق الخلفي، ووقف بجانبه ناظرا إلى أحمد الذي صعد في سكون درج السيارة، وجلس في هدوء واطمئنان، وجلس الشرطي إلى جانبه، وصعد الضابط إلى جانب السائق، وأمره أن يسير، وانطلقت السيارة، وتبعتها عيون الشبان الثلاثة، حتى غابت عن الأنظار، فأفاقوا إلى وقفتهم، وسارعوا إلى سيارة حسام يركبونها صامتين.

الفصل الثلاثون

دخل الشبان الثلاثة القصر، فوجدوا وصفي باشا جالسا في البهو منكس الرأس، ووجدوا الاضطراب يسود القصر جميعا، حتى لم يلحظ أحد دخولهم، على رغم الأنباء المهمة التي يحملونها، ولم يرهم وصفي إلا حين اقترب ابنه منه يسأله: أبي، ماذا حدث؟

وانتبه وصفي إلى ابنه ورفع إليه عينين، رأى جعفر فيهما آثار اضطراب وحيرة، ولو أنعم جعفر النظر، ولو كان رأى أباه يبكي قبل اليوم، لأدرك أن ما بعيني أبيه آثار دموع، ولكنه لم يلحظ شيئا من هذا، وإنما شغله أبوه بسؤاله: ماذا فعلتم؟

وأنهى جعفر إلى أبيه ما يحمله من أنباء، فقفز وصفي عن كرسيه، وهو يقول لابنه: سهير حالتها خطيرة، فاسألوا الأطباء عما يجب أن يقال لها، وما لا يجوز أن يقال، وأنا ذاهب الآن إلى وزير الداخلية.

وخرج وصفي مسرعا، وصعد جعفر وحسام إلى الطابق الأعلى فوجدا باب سهير مقفلا عليها، أو لا يكاد يقفل، فالخدم داخلون خارجون منه ينفذون أوامر الأطباء في وجوم وسرعة واضطراب، فاختار الشابان مكانا لا يعوق الأرجل المتسارعة، وجلسا في البهو، وبعد حين خرجت هناء من حجرة أمها وهي تقول: ألم يأت الأكسجين؟

وسارع إليها حسام يسألها: هناء، هل أستطيع أن أعمل شيئا؟

وفي غمرة الخطر المرفرف في القصر نسي الاثنان ذكرياتهما، والتقيا على هذه الأحداث المحيطة بهما، ولكن هناء لم تستطع رغم هذا أن تمنع هذه الحمرة من الخجل أن تصعد إلى وجهها، دون أن يكون لها تأثير في استئنافها الحديث مع ابن خالتها وكأنها لم تصرع آماله، لم تتلعثم رغم اللهفة التي رأتها في حديثه إليها، لهفة محب - لم تستطع أن تختفي في جلال الموقف الذي يجمعهما - يصفح عن حبيبته، ويهفو إليها، ويأمل أن تقبله أملا لا يشوبه ذكريات زواجها من غيره، في لحظة عابرة رأت هناء في عيني حسام صفحا وحبا، وفي لحظة عابرة رأى حسام في عيني هناء اعتذارا وإشفاقا، وإقبالا ... لحظة أومضت في الحوالك التي تحيط بهما، ثم عادا إلى الدوامة التي تصخب حوليهما، قالت هناء: ماذا فعل أحمد؟

فأنبأها حسام متلاحق الأنفاس، وطلب إليها أن تسأل الأطباء إن كان يمكن أن يبلغا خالته، وجمعهما الخطب، وتبادلا جملا متقطعة عما يجب أن يفعلاه، دارت هذه الجمل عن المرض وعن السجين، وأحس حسام من هذا الحديث القاتم إشراقا ينساب إلى نفسه، وملأه فرحا أن مشاعر متحدة تجمعه وهناء في أحداث واحدة، كلاهما مهتم بها، وطلبت إليه هناء آخر الأمر أن يتعجل أنبوبة الأكسجين، فسارع يثب السلم والفرح يغمر نفسه، وزجر هذا الفرح عن نفسه أنه غير خليق به أن يفرح، وخالته أم هواه تنتزع أنفاسها انتزاعا، وأحمد ملقي في السجن، وتنحسر موجة الفرح هونا لتفسح مكانا لبعض شفقة، أو بعض إشفاق، ثم ما تلبث موجة الفرح أن تطغى مرة أخرى هازئة بما يجب أن يحسه في لحظته تلك، ساخرة مما تريد الظروف أن تفرض عليه من إحساس، محطمة كل ما يحاول أن يقف في طريقها من عقل أو منطق أو مشاعر غير الحب والفرح بهذا الحب.

كان مرض سهير أقوى حجة في يد وصفي حين قصد إلى وزير الداخلية، فما زال به حتى أصدر أمرا بالإفراج عن أحمد، وسارع وصفي إلى السجن، ليصحب أحمد إلى البيت، وعلى باب السجن قال أحمد في هدوء ووثوق: عمي، إني أشكرك، ولكن لي رجاء عندك؟

وقال وصفي باشا: اركب أولا يا أحمد، وقل رجاءك في السيارة.

ولم يحفل أحمد اضطراب عمه، بل قال في هدوء: فوزي.

وقطب وصفي جبينه، فما كان ينتظر أن يسمع هذا الاسم الآن، ومن أحمد، وفي هذا المكان، وانتزعته الدهشة هنيهة من اضطرابه ليقول: ماله؟! - معتقل، وأبوه مشلول.

ونظر وصفي في عيني أحمد بإنعام، وقد ازدادت الدهشة على وجهه، يخالطها إعجاب وإكبار، ولكنه عاد يسأل في تشكك: أما يزال صديقك؟ - أتظن أنه يمكن أن يكون صديقي؟

وأفاق وصفي إلى الإجابة، وأصبحت نظرته إلى أحمد إعجابا خالصا، وازداد تحديقا فيه، وطالعته معارف سهير من وجه أحمد، فانتفض جازعا وقال: طيب اركب ... اركب الآن يا أحمد. - ولكن يا عمي أتعدني؟ - يا أخي أمك مريضة جدا، أسرع.

واضطرب أحمد لهذا النبأ، وأسرع يركب السيارة، ولم ينتبه أنه سبق عمه في الركوب، وركب وصفي، وأمر السائق أن يسرع إلى القصر، وفي الطريق راح أحمد يسأل عن تفاصيل مرض أمه، ووصفي يجيبه ذاهلا، حتى إذا لم يجد أحمد أسئلة أخرى، غاص إلى نفسه ... أتموت أمي؟ أأكون أنا قاتلها؟ أي حياة سألقاها من بعد؟ حذار ... حذار أن أجر على نفسي الخسران في دوامة هذه الأفكار، إن الموت والحياة بيد الله، الرحمة يا رب ... نجها يا رب! أأطلب منه نجاتها لأني أريدها؟ أم لأني لا أريد أن أكون أنا قاتلها؟ إني على الحالين أناني، فأنا هي الباعث في هذا الدعاء على أية حال، أهذه هي الإنسانية التي أريد أن أبلغ فيها شأوا؟ وماذا بيدي؟ كيف أسيطر على هذه الأفكار التي تمور برأسي؟ نعم إني أستطيع، ونظر إلى وصفي وقال: أنا لن أذكرك بفوزي ثانية يا عمي.

ودهش وصفي هنيهة، ثم بدا وكأنه قدر ما يعتمل بنفس الشاب، فقال له في ثقة: لن تحتاج إلى ذلك.

وبلغت السيارة باب القصر، وجرى أحمد ملهوفا إلى حجرة أمه، وفتحها ودخل، فوجد أمه تلقف أنفاسها من كمامة متصلة بأنبوبة موضوعة إلى جانبها، وما إن رأته حتى أزاحت الكمامة عن فمها وهتفت: أحمد ... ابني.

وارتمى أحمد على صدرها يقبلها في كل مكان، وراحت الأم تجذب أنفاسها، وتقبل ولدها لحظات، ثم لم تستطع، وأحس أحمد ضعفها، فسارع يبتعد عن وجهها ويعيد الكمامة إليها، وهو راكع لا يزال بجانب سريرها، وأحس أحمد يدا رقيقة تربت ظهره، وسمع صوت أبيه يقول: الحمد لله على السلامة يا أحمد.

ونظر أحمد فوجد أباه جالسا على طرف سرير أمه، ينظر إليه في حدب، فوضع رأسه على ركبته، وانطلق في بكاء صامت، تنسكب دموعه من فؤاد جازع حزين، ورأت سهير ما فعل ابنها، واستروحت المنظر، وهدأت أنفاسها قليلا، وراحت في سبات عميق.

الفصل الحادي والثلاثون

أيام قليلة مرت ... أيام قليلة استطاعت فيها سهير أن تنعم بهذه الإشراقة التي أصبحت لا تفارق وجه ابنها، فتبعث في نفسها راحة تعينها على آلامها، واستطاعت فيها أن ترى إقبال ابنها على أبيه، إقبالا فيه إشفاق، وفيه حب، وفيه تمهيد للعذر، وتقدير للطبائع، وكادت سهير ترى خوالج ابنها الجديدة مجسمة أمامها، ينبض بها قلب كبير بعيد عن الأنانية، وسمعت سهير ابنها يدعو الله أن يشفيها، سمعت الله يهتف به أحمد، فخيل إليها أن قلبه هو الذي خفق بالهتفة خفقا شديدا، كان أعلى دويا من حركة الشفاه واللسان.

ورأت سهير حسام لا يكاد يفارق بيتهم، ورأت هناء تقبل عليه في غير ما تكلف وفي ود، ورأت في عيني بنتها معاني اطمأنت لها نفسها، وهدأ لها هذا المضطرب الذي يعصف بها عصفا جائحا، أيام قليلة رأت سهير فيها سليمان يقبل على أحمد إقبال أب، ويهتم بأمره في حدب، ويلتقي وإياه على الطريق الذي سار فيه أحمد من حب ... حب بذل سليمان غاية جهده ليضع معالمه، ويظهر معارفه، ولم يكن لسليمان جهد كبير في هذا الشأن، ولكنه على أية حال يحاول، وسهير تحس بمحاولته.

أيام قليلة رأت فيها سهير البيت كما كانت تتمنى أن تراه، أو كما كانت تريد أن تصنعه، وإنها لتفكر أنه كان خليقا بالبيت أن ينشأ ويظل على ما هو عليه الآن لو كان سليمان هذا شخصا آخر، نعم وصفي الذي كان لا يكاد يغيب عن القصر لحظة في هذه الأيام الأخيرة، وصفي هذا ... ولكن ماذا يفيد الآن؟ وما البأس بنا الآن؟ أنا لا أتمنى شيئا اليوم إلا أن أشفى، فهل أشفى؟

ولم يشأ القدر أن يحقق هذه الأمنية، فماتت سهير، وكان موتها بعد حين قصير من خروج الطبيب المعالج، باسم الثغر، يهنئ الأسرة والقصر بقرب شفاء المريضة العزيزة ... لم يكن الطبيب خاطئا كل الخطأ، لقد شفيت من آلامها جميعا، من آلام نفسها ومن آلام جسمها، وانتقلت روحها إلى عليين لدى ملك لا يمنع الظل لائذا، الرحمة الكبرى وراء سمائه، تلف التقي في سيبها والمعاصي.

أقبل المعزون، ووقف سليمان وأحمد ووصفي يستقبلونهم، لا يكاد واحد منهم أن يقيم أوده من الحزن، وكان وصفي أشدهم ألما، وأكثرهم اضطرابا، لأنه الوحيد بينهم الذي لا يستطيع أن يتيح لألمه طريقا يخرج منه إلى الحياة، كانت الدموع تمور في عينيه فيحبسها، فالعرف والتقاليد سياج حولها أن تسيل، وتزحم الدموع نفسه، إنها دموع سنوات كثيرة، إنها ذكريات الشباب الأولى والساعات المشرقة في حياته، إنها دموع تحمل في رقراقها صور الماضي كلها، والماضي قطعة من نفسه، بل إنه عند وصفي في موقفه هذا النفس كلها، ويلجأ وصفي إلى القصر يبحث فيه عن مكان يستر دموعه المائجة فلا يجد، ويخرج من القصر إلى الحديقة، وينفض المكان بعينيه، فيرى جميع من في الحديقة مشغولا بأمر المأتم، وكما كان يفعل في الأيام الخوالي، يسير الهوينا في المماشي حتى يبلغ السلم ... السلم القديم، فينفض المكان مرة أخرى دون أن يفكر فيما يفعل، ثم ينزل السلم وثبا، كأنه ذلك الشاب الذي كانه منذ حين بعيد ... بعيد غاية البعد، وما يكاد وصفي يصل إلى المقاعد التي شهدت قطعا كثيرة غالية من حياته ، ما يكاد حتى يرتمي إلى أحدها، وينخرط في بكاء عالي النشيج، يستره القرآن الذي يتصاعد من المأتم أن يبلغ إلى أذن، ويحيط به هذا القرآن نفسه في حنان وإشفاق وسمو.

كان فوزي بين المعزين، وقد انتهز فرصة انفرد فيها أحمد، وجاء ليجلس إلى جانبه: البركة فيك يا أحمد.

ونظر إليه أحمد، ثم لم يجب، فقال فوزي: خرجت بالأمس من المعتقل، وقد جئت أعزيك وأشكرك، فقد عرفت أنك رجوت وصفي باشا من أجلي، ولولاه لكنت معتقلا حتى الآن، لقد كنت نبيلا يا أحمد، وكنت رجلا.

وقال أحمد في هدوء وفي صوت خفيض: أقبل عزاءك مع الشكر، أما شكرك فلا أقبله بحال من الأحوال، فقد سعيت لإخراجك إشفاقا على أبيك المريض، وأمك التي أصبحت بلا عائل إلا أنت، وإن رأيي فيك الذي قلته لك يوم طلقت هناء يزداد عمقا في نفسي ... وإن وصفك لي بالنبل أمر آخذه أنا على محمل الهجاء لا الحمد، فمديح مثلك مسبة للممدوح!

وما زلت أرجو ألا أراك أبدا بعد اليوم ... أشكرك.

وقام أحمد عن فوزي في نفس الهدوء الذي كان يلقي به هذا الحديث، ولم ينظر أحمد وراءه ليرى فوزي وهو ينصرف، ولكنه أحس على رغم قسوته أنه يسير في الطريق التي يريدها لنفسه.

انتهت الليلة، وبحث أحمد عن أبيه في السرادق فلم يجده، فصعد إلى الدور الأعلى من القصر، وقصد إلى حجرته، ولكنه لم يجده، فعجب بعض الشيء، وقصد إلى غرفة نومه هو، وراح يخلع ملابسه، وما إن استبدلها بملابس النوم، حتى جلس قليلا مطرقا، ثم قام في هدوء خارجا من الغرفة، قاصدا إلى غرفة أمه، يسير إليها وكأنه يتوقع أن يجدها، وفتح أحمد باب الغرفة فطالعه ظلام زاده قتاما أن أغلق الباب من خلفه، وقصد أحمد إلى حيث كان رأس سهير، وركع إلى جانب السرير، وغمر وجهه في الوسادة، ولكن صوت نشيج ما لبث أن علا إلى أذنه يأتي إليه من قريب، ورفع أحمد رأسه وأدار عينه إلى حيث النشيج، ثم مد يده فلمست كتفا عرفها، وزحف أحمد إلى جانب أبيه، واحتضنه بذراعه، وربت كتفه، والتفت إليه أبوه، وكانت عينا أحمد قد تعودتا الظلمة، فاستطاع أن يرى على ضوء شعاع ينسكب من زجاج الباب وجه أبيه مغطى بالدموع، واضطرب أحمد لدموع أبيه العصية، وازداد اضطرابا حين وجد أباه يرتمي بين أحضانه، وكأنما هو الابن فقد أمه، اضطرب أحمد هنيهات، ثم تمالك نفسه، وسكن جأشه، واحتوى أباه بذراعيه في حنان، والتقت الدموع!

Página desconocida