إلى هذا المكان يقصد، وفيه أصدقاؤه الذين نبتوا معه من مغرس واحد وفي هواء واحد، تنفسوا الطفولة معا وها هم أولاء يتنفسون شبابهم في إقبال عليه وتقدير له والتذاذ بكل لحظة تجمعهم حول شبابهم هذا المرح الطليق.
إنهم أبناء الحي، جمعهم السكن، وأحاطت بهم جدران الأفنية وأسوار الحدائق منذ هم أطفال يحلمون، أو منذ هم أطفال يتعثرون، ثم ما لبثت أن ضمتهم جدران الفصول وأسوار المدارس، فأصبحوا وهم متلازمون قل أن يتفرقوا، ثم اتجهوا إلى الجامعة وقد مال أغلب جمعهم إلى اختيار كلية واحدة، لا عن رغبة في هذه الكلية، وإنما كان شأنهم في ذلك شأن القطيع، يسير خلف واحد من أجزائه ليس بأحسنه ولا هو بأحكمه، وإنما سار طريقا معينا بلا سبب ولا باعث، وسار القطيع من خلفه ليعفي نفسه من التفكير في طريق آخر.
وكان أصحاب حسام يأخذون حياتهم في يسر كما يحب أن يأخذها هو.
آباؤهم يقومون عنهم بما يحتاجون إليه، وهم إلى الدرس وعنه رائحون غادون بياض النهار، ثم هم مجتمعون على لعب حين كانوا أطفالا، وقد راح هذا اللعب يتطور مع أعمارهم، فبعد أن كان جريا بلا هدف، شب قليلا، وأصبحت الكرة تحدد أهدافه، ثم شب مرة أخرى، فأصبحت المرأة هي التي تحدد الأهداف والمتجهات، وقد يتخلف في مرحلة من مراحل اللعب فرد من القطيع، ولكنه لا يني عن ملاحقة إخوانه في مراقي حياتهم، فإن أحب واحد من الأصحاب الكرة وظل يلعبها، فما يثنيه ذلك عن أن يحب المرأة، بل لعله أحب الكرة ليغري بها المرأة، أو لعله أحبها كبقية من ذكرى الطفولة، وأخلاف من عمر حبيب، وهكذا سار القطيع، إن تخلف فرد تخلف بفلذة من كيانه، ولكنه هو بجميعه يظل سائرا حيث يسيرون.
وكان «بار الشباب» أحدث مكان تواضعوا على الالتقاء فيه، فهو حجرة قابعة في حي العباسية، لا تكاد تتسع لغيرهم، وأمامها رحبة بدائية الإعداد، ويتنقلون هم بين الرحبة والحجرة حسبما يكون الجو، ويتصدرهم أينما يجلسون سعد الصاحب أعظمهم جسما، وأطولهم لسانا، وأكثرهم حديثا عن مغامراته مع النساء، وقد حلت النساء عنده محل الكرة التي كان يروي لهم أيام غرامهم بها، كيف هو قدير على التحكم فيها وإصابة الهدف بها، فإن سألوه كيف وهو على هذا السمن المفرط، ضحك وأخبرهم أن سمنه هو الذي يسهل الأمر له، فما على زملائه في الفريق إلا أن يسلموا الكرة إلى قدمه، وقدمه - من بعد - كفيلة بأن تصيب بها الإصابات جميعا، وما عليه هو إلا أن ينقل قدميه في هدوء وعظمة، حتى يصل إلى الهدف، فما يجرؤ واحد من الفريق الآخر أن يتقدم منه، وكان إخوانه لا يحاولون أن يختبروا هذه العظمة فيه، فهم يعرفون قدرها تمام المعرفة، وكبرت الكرة وأصبحت امرأة، وأصبح يقص على إخوانه تجاربه مع النساء، مع جمع كبير من النساء، فما كان يكتفي بغير الكثيرات منهن، وقد كانت قصصه عن النساء أمتع، وكان إخوانه يحبون منه هذا الحديث؛ لأنه خفيف الظل حين يسوقه، ولأن هذا الحديث بالذات يدغدغ فيهم كوامن رغبات لاهبة.
على أنهم كانوا يعرفون طريقهم إلى النساء، وكان سبيلهم إلى ذلك عبد الجواد أفندي الذي يبيع لهم السجائر في «بار الشباب» وكانوا إذا شاءوا، طلبوا إليه امرأة أو امرأتين حسبما يكون عددهم يوم يطلبون، كان عبد الجواد أفندي يهيئ لهم كل ما يحتاج إليه الأمر من غرفة إلى غير الغرفة، وكان سعد دائما يشاركهم في هذه الاجتماعات، فما يفت ذلك في عضده، أو يثنيه عن ذلك القصص الذي يرويه عن النساء.
وكان حسام من أهم أعضاء الندوة، وما كان حبه لهناء ليمنعه عن شيء مما يفعلون، فقد كان الأمران في ذهنه مختلفين كل الاختلاف، وقد كانت هذه الطريقة في التفكير مسيطرة على أذهان إخوانه جميعا، فهناء حب وزواج وبيت وأولاد وصلاح وتقوى، وأما بار الشباب وعبد الجواد أفندي فضحك ومزاح وسخرية من كل شيء وإقبال على كل شيء، واستقبال للحياة كأروع ما تستقبل الحياة، فما عرف هؤلاء الأصدقاء أحلى من هذه اللحظات التي كانت تجمعهم مهما يكن سبب اجتماعهم هذا.
وقد كان حسام لا يجري وراء امرأة، ولا يستخدم سيارته في تصيد محبات السيارات، فما كان يحب من النساء إلا هناء وإلا ما يحضره عبد الجواد أفندي وبتوصية من الإخوان، وبحيث يشارك هو في الموضوع بالمقدار الذي يشاركون به، ثم لا يهتم بأمر من النساء بعد ذلك أبدا.
ولم يكن «بار الشباب» مكانا لا تقدم فيه إلا الخمر، بل إن الصحاب قليلا ما تناولوا الخمر، فإن فكروا فيها فإلمامة العازف عن الشيء لا يوغل فيه، وكذلك كان شأن حسام، فما أحب الخمر يوما، وما شربها إلا مكرها ليجاري الرفاق، ولا يتخلف عن شيء يفعلون، ولكنه لم يزد، لأنهم هم لم يزيدوا إلى الدرجة التي تتحول بهم من حساة إلى سكارى.
قصد حسام إلى بار الشباب في يومه هذا، فوجد الجميع قد سبقوه، ووجدهم واجمين بعض الشيء، وسعد بينهم، وأمامه كأس مترعة، وعلى وجهه أمارات ألم يحاول أن يخفيها، فتنحسر حينا عن وجهه لتبدو على وجوه إخوانه جميعا، ثم يختطف الكأس فيفرغها في جوفه سريعا، ويطلب أخرى ويتكلم في محاولة هزيلة للمرح لا تلبث أن تعيد الألم متنقلا بين وجهه ووجوه إخوانه، ماثلا دائما في الجو المحيط بهم.
Página desconocida