وانتفضت سهير جازعة، وانحبس صوتها وهي تسأل في لهفة جازعة: ماذا؟ ماذا تقول يا وصفي؟
وأطلق وصفي ضحكة صغيرة وهو يقول: يا ستي أنا أضحك، ألهذا الحد تكرهينه؟ - بل لهذا الحد أحب غيره.
واغرورقت عينا وصفي بالدموع، ولم يجد شيئا يفعله إلا أن يميل على يدي سهير، يقبلها في خشوع حائر، وفي قلق مرير لو أحسته سهير لما صبرت أن تلقي بنفسها إلى النيل، وأوشكت سهير أن تميل على رأسه تقبلها وهو مكب على يدها، ولكن ردها عن ذلك كبر لم يمحه الحب، وردها عن ذلك أن صعد إليها وجه وصفي والدموع تتغشاه بعد أن فاض منها سكب على يدها.
الفصل الثالث
عاد وصفي إلى منزله أول الليل، وجلس إلى أمه التي استقبلته وقد رسمت على فمها ابتسامة، أدرك وصفي أنها تخفي وراءها أمرا، ولم يشأ وصفي أن يستعجل أمه لتنهي إليه ما تخفيه ابتسامتها، فهو يعلم أنها سرعان ما تفضي إليه بما تخبئه.
كانت السيدة إجلال أم وصفي سيدة في الحلقة السادسة من عمرها، تركية المولد والنشأة، وكانت بيضاء الجبين، لم يخط الزمان على وجهها خطوطا كثيرة، وإنما ترك صفحة وجهها صافية يلمع فيها البشر، فقد عاشت مع المرحوم زوجها عيشة راضية، فلم يتزوج عليها، ولم يشتر جوار أخريات شأن أمثاله من الأغنياء، وإنما أفردها بحبه وعنايته ومنزله، ولكن هذا جميعه لم يستطع أن يمحو من عينيها وميض قلق ألم بها منذ اختطفها اللصوص وهي طفلة تلعب في مدارج الصبا، وأتوا بها إلى مصر، حيث بيعت بيع الرقيق إلى جد وصفي الذي زوجها لولده أدهم باشا شكري، لا، لم تمح الأيام من عينيها هذه النظرة القلقة، ولم يستطع أدهم باشا بكل حدبه عليها وحبه لها أن يزيل هذه الآثار الدارسة من بقايا القلق التي ارتسمت في عينيها منذ ذلك الحين البعيد، ولم تنجب إجلال هانم لزوجها غير وصفي، فحمد ربه على ما أعطى، وعاش لا يرجو من دنياه إلا أن يمد الله في عمر ولده ويحفظه من شر العاديات.
وكان وصفي خليقا أن يميع، منتهزا فرصة انفراده بأبوة أبيه وببنوته له، لولا أن إجلال هانم أدركت ما يحيط بالفتى من خطر، فقامت على شأنه في قسوة رحيمة وحزم واع، وهيأ له أبوه مناهل العلم ومجالس العلماء، فشب الفتى قويم الخلق واللسان، أديبا محبا للعلم، وصار إلى مكانه المرموق هذا، مدركا أن الفضل في ذلك يرجع إلى أمه وأبيه.
وحين انتقل أبوه إلى جوار ربه، عاش الفتى وليس له أرب في بيته إلا أن يرضي أمه، فلا تفتقد شيئا كانت تجده أيام أبيه، اللهم إلا فقدانها لزوجها، ذلك الذي لا يعوضه مال أو بنون.
لاحظت إجلال هانم أن وصفي لم يحفل أمر ابتسامتها التي وضعتها على فمها حين أقبل، فوسعت الابتسامة مرة أخرى عساه أن يسألها، فقد كانت تدير الحديث في ذهنها قبل أن يأتي ولدها، وكانت تريد أن يسألها «ماذا وراء ابتسامتك؟» حتى ترد سؤاله بما تريد أن تخبره به، ولكن ها هو ذا ابنها يأبى أن يسألها ولا تعرف هي كيف تبدأ الحديث.
وأدرك وصفي أنها تريد أن يسألها عما تخفيه، وشاء أن يداعبها بصمته، فسكت لا يسألها، وطال الصمت بهما وازدادت الابتسامة اتساعا، وازداد وصفي تشاغلا عنها حتى ضاقت الأم آخر الأمر. - أما إنك بارد!
Página desconocida