الفصل التاسع عشر
على فراش الموت
وفي تلك الأثناء، كانت روزه قد تماثلت شيئا فشيئا، وعادت إلى سابق عادتها من المعيشة، مفضلة عشرة الأصدقاء على ما كانت ترغب فيه قبلا من الوحدة والانفراد.
وكانت تلك أحسن فرصة لفريد الذي جعل يتقرب منها، ويباسطها أشهى الأحاديث، وأجمل الأخبار، دون أن ينطق بكلمة تشف عن هواه، الذي ما برح يعذب مهجته ويلعب بعواطفه، خوف أن يلقى من صدها ما يرهبه ويخشاه، فمال إلى الصبر والكتمان ما وجد إليهما سبيلا.
ولكن غلبه الوجد أخيرا، فقابلها يوما عند باب المنزل، وكانت سائرة إلى الحديقة، فسار برفقتها، ولم يكن بينهما ثالث، فجعل يساعدها على قطف الأزهار، واجتناء الورود، وهما يتباعدان تارة، ويتقاربان أخرى، إلى أن شعرت روزه بالتعب، فجلست على مقعد خشبي طلبا للراحة، وقد عقد العرق على جبينها الفضي لؤلؤا، وشهد ورد وجنتيها بأنها سلطان الورود وزهرة الحقول.
ورأت فريدا ينظر إليها هاشا، فابتسمت له، وكأن تلك الابتسامة منحته شجاعة لم تعهد به من قبل، فجثا عند قدميها وقال مستعطفا: أي روزه؛ هل يأتي يوم تشرق فيه شمس آمالي، فتبدد ظلمات تعاستي، أم قضى علي سلطان حبك بالشقاء أبد العمر، ولا ذنب لي إلا إخلاصي وشدة احترامي لذاتك البهية.
ثم صمت هنيهة، وجعل ينظر إليها واجفا جزعا، كمن ينتظر لفظ الحكم عليه من حاكمه.
فلم يبد على روزه أدنى تأثر أو اهتمام، بل أجابته بمنتهى البساطة والاحتشام: إني أودك كصديق.
فلم تزده تلك العبارة إلا إبهاما، ودام السكوت هنيهة، لم يجد فيها إلى النطق سبيلا، بل كانت ضربات قلبه المسرعة، وترقرق الدمع في عينيه، يترجمان عما توقد في صدره من عوامل التأثر والهيام، فود أن يستطلع ميولها واعتقادها فيه، ولكن خشي أن يبدو له منها ما يقطع آماله، ويصرم حبل رجائه، فلزم الصمت، وبقي ناظرا إليها كالمأخوذ.
وكأن كلماته على ما فيها من معاني الحب، أعادت إلى روزه ذكرى ساعات قضتها مع عزيز، فتنبهت فيها لواعج من الحزن كانت كامنة، فقطبت حاجبيها، ونهضت فاستطردت سيرها بين الأزهار، وخلفته صريعا وهي قائلة: تأملوا كيف فعل الظبي بالأسد.
Página desconocida