قلت: نعم! قال: هاتها! فمضيت فيها حتى إذا أنا صرت إلى صفته لجمله، قال لي الفضل: ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به السهر في ليلتنا هذه بصفة جملٍ أجرب! فقال له الرشيد: اسكت فالابل هي التي أخرجتك عن دارك، وعزتك في قرارك، فاستلبت تاج ملكك، ثم ماتت، وعملت جلودك سياطًا ضربت بها أنت وقومك! فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب والحمد لله! فقال له الرشيد: أخطأت! الحمد على النعم، لو قلت: وأستعين الله لكنت مصيبًا! ثمّ قال لي: امض في أمرك! فأنشدته حتى بلغت إلى قوله " من الكامل ":
تزجي أغن كأن إبرة روقه
فاستوى جالسًا، ثمّ قال لي: اتحفظ فيها ذكرا؟ قلت: نعم، ذكرت الرواة أن الفرزدق قال: كنت في المجلس وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عدي في قصيدته قلت لجرير مسرًا إليه: لنسخر من هذا الشامي! فلما ذقنا كلامه يئسنا منه، فلما قال " من الكامل ":
تزجي أغن كأن إبرة روقه
وعدي كالمستريح، فقال جرير: أما تراه يستلب بها مثلا؟ فقال " من الكامل ":
قلم أصاب من الدواة مدادها
ثمّ أنشد عدي كذلك، فقلت لجرير: كان سمعك مخبوءًا في صدره. فقال لي: اسكت، شغلني سبك عن جيد الكلام! فلما بلغ إلى قوله " من الكامل ":
ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أمةٍ إصلاحها ورشادها
قال الأصمعي: فقال لي: ماتراه قال إذ أنشده الشاعر هذا البيت؟ قلت: قال: كذاك أراد الله! فقال الرشيد: ماكان في جلالته ليقول هذا، أحسبه قال: ماشاء الله! قلت: وكذا جاءت الرواية. فلما أتيت على آخرها قال لي: أتدري لذي الرُّمة شيئًا؟ قلت: الأكثر! قال: فما أراد بقوله " من الطويل ":
ممرٌّ أمرَّت متنه أسديةٌ ... ذراعيةٌ حلاَّلةٌ بالمصانعِ
قلت: ياأمير المؤمنين، وصف حمار وحش أسمنه بقل روضة تواشجت أصوله وتشابكت فروعه من مطر سحابة كانت بنوء الأسد، ثمّ في الذراع من ذلك. فقال الرشيد: أرح، فقد وجدناك ممتعا، وعرفناك محسنًا. ثمّ قال: أجد ملالة! ونهض، فأخذ الخادم يصلح عقب النعل في رجله وكانت عربية، فقال الرشيد: عقرتني، ياغلام! فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم! أما أنها لو كانت سندية لما احتجت إلى هذه الكلفة؟! فقال الرشيد: هذه نعلي ونعل آبائي صلوات الله عليهم، كم نعارض فلا نترك من جواب ممض ثمّ قال: ياغلام، يؤمر صالح الخادم بنعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته هذه، ولايحجب في المستأنف! فقال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره لأمرت لك مثل ما أمر به لك أمير المؤمنين، وقد أمرت لك به إلا الف درهم، فتلقى الخادم صباحا! قال الأصمعي: فما صليت من غد إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.
وقال: أنشدت الرشيد ليلة " من الكامل ":
بانت أميمة بالطلاق ... فنجوت من ربق الوثاق
بانت فلم يحفل بها ... قلبي ولم تدمع مآقي
ودواءُ مالا تشتهيه النفس تعجيلُ الفراقِ
فجعل الرشيد يعيد: " ودواءُ ما لاتشتهيه النفس تعجيل الفراق " ثمّ قال: عليَّ برأس هيصم اليماني! فقال لي: يا أصمعي، هذا ماجرَّه الشعر: " ودواء.... "! وأنشد البيت.
وقال ابن الأعمش: كنا في مضرب الحسن بن سهل ومعنا الأصمعي، فتحدث فقال: خرجت فاطمة ﵍ ناشزا - بالزاي معجمة - تطلب ميراثها من أبي بكر....! فوثب إليه رجلٌ فخنقه، وارتفع الصوت، وقام المطلب بن فهم وهو حاجب للحسن بن سهل يحجز بينهما، وسمع الحسن الصوت فدعاه وسأله، فقال: وثب فلان على الأصمعي في شيء جرى بينهما فخنقه. فقال: يوثب على ضيفي وجليسي وفي داري؟! ياغلام، السياط! فقال له: يثبت الأصمعي على بنت رسول الله ﷺ فيتناولها، فيسوغ ذلك له ولايسوغ لمن يثب عليه ويخنقه؟! فقال: فما القصة؟ فأخبر بها، فدعا الأصمعي فعنفه وقال: ماهذا من الحديث الذي يحدث به العوام؟ لاتعودن! وروى الناس هذا الحديث ناشرا - بالراء المهملة - يعنون: نشرت شعرها. فرواه الأصمعي بالزاي: أي مخالفة لعليّ في ذلك.
قال الأصمعي: قال لي الرشيد: أنشدني أحسن ماقيل في السفر! فأنشدته قول عمر بن أبي ربيعة " من الطويل ":
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفرٍ جوابٍ أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر
1 / 48