سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن كثرت منه عليَّ الجرائم
وما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا ... تفضلت إن الفضل بالعز حاكم
وأما الذي دوني فإن قال: صنت عن ... إجابته عرضي وإن لام لائم
وقال: قدمت من عمان ورأيي رأي الصفرية، فجلست إلى أيوب بن أبي تميمة السختياني، فسمعته يقول: إذا أردت أن تعلم علم أستاذك فجالس غيره! فظننت أنه يعنيني، فلزمته فنفعني الله به.
قال يونس: قلت للخليل: مابال أصحاب رسول الله ﷺ كأنهم بنو أم واحدة وعليّ بن أبي طالب ﵇ كأنه ابن علة؟ فقال: من أين لك هذا السؤال؟ قلت: أريد أن تجيبني! فقال: على أن تكتم عليَّ مادمت حيًا! قلت: أجل! فقال: تقدمهم إسلامًا وبذهم شرفًا وفاقهم علمًا ورجحهم حلمًا وكثرهم زهدًا وأنجدهم شجاعة، فحسدوه، والناس إلى أمثالهم وأشكالهم أميل منهم إلى من فاقهم وكثرهم ورجحهم.
وقال ابن سلام: لم يكن في العرب أذكى من الخليل بعد الصحابة ولا في العجم أذكى من أبن المقفع ولا اجمع من حماد بن زيد. - وقد ضربت الشعراء الأمثال في أشعارهم بالخليل، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي يهجو الأصمعي " من الوافر ":
أليس من العجائب أنّ قردًا ... أصيمع باهليًا يستطيل
ويزعم أنه قد كان يفتي ... أبا عمرو ويسأله الخليل
وقال خالد النجار يهجو التوزي " من الكامل ":
يا من يزيد تمقتًا ... وتباغضًا في كل لحظه
والله لو كنت الخليل ... لمار روينا عنك لفظة
وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ قال: رأيت رجلًا عقله أكثر من علمه. وقيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع؟ قال: رأيت رجلًا علمه اكثر من عقله. قال المغيرة بن محمد: صدقًا، ادى عقل الخليل إلى أن مات ازهد الناس، وجهل أبن المقفع إلى ان قتل. وذلك أنه كتب كتابًا لعبد الله بن علي إلى المنصور، فقال فيه ما كان مستغنيًا أن يقوله، كتب: ومتى غدر أمير المؤنين بعمه عبد الله بن علي فنساؤه طوالق ودوابه حبيس وعبيده أحرار والمسلمون منه في حل من بيعته. فأشتد ذلك على المنصور جدًا وخاصة أمر البيعة، فكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي - وهو امير البصرة من قبله - أن اقتل ابن المقفع! فقتله.
وقال الخليل يمدح كتابي عيسى بن عمر في النحو " من الرمل "
بطل النحو الذي جمعتم ... غير ما احدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... وهما للناس شمس وقمر
وعن عيسى اخذ الخليل النحو، وأخذ عن الخليل جماعة لم يكن فيهم مثل سيبويه، وهو اعلم الناس بعد الخليل، فألف كتابه الذي سماه الناس قرآن النحو، وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل.
قال النضر بن شميل: كان اصحاب الشعر يمرون بالخليل فيتكلمون النحو، فقال الخليل: لا بد لهم من اصل. فوضع العروض، فخلا في بيت ووضع بين يديه طستًا، فجعل يقرعه بعود ويقول: فأعلن مستفعلن فعولن. قال: فسمعه أخوه فخرج الى المسجد فقال: إن اخي قد أصابه جنون! فأدخلهم على الخليل وهو يضرب الطست، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، مال؟ اصابك شئ؟ أتحب أن نعالجك؟ قال: وما اك؟ قالوا: أخوك يزعم انك قد خولطت. فأنشأ يقول:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... او كنت أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
دخل أعرابي مسجد البصرة فطاف على الخلق وسمع ما يقولون حتى صار إلى حلقة الخليل، فسمعهم يتذاكرون النحو والشعر حتى افضوا إلى دقيق النحو والعروض، فقام عنهم وقال:
ما زال أحدهم في النحو يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
حتى سمعت كلامًا لست اعرفه ... كأنه زجل الغربان والبوم
رفضت نحوهم والله يعصمني ... من التقحم في تلك الحراثيم
1 / 21