أنت الجواد بن الجواد المحمود ... سرادق المجد عليك ممدود
فانقطعوا كلهم، وضحك السفاح حتى ضرب برجله وقال: والله ما رأيت مثل هذه الغلبة قط.
ولما توفيت أمرأة الهذلي وبلغ ذلك المنصور فأمر الربيع الحاجب أن يأتيه ويعزيه عنها، ويقول له: إن أمير المؤمنين موجه الليل بجارية نفيسة لها أدب وظرف وهيئة ومعرفة تسليك عن امرأتك. فلم يزل أبو بكر يتوقع ذلك فلم يره، وأنسيه المنصور، ثم حج وأبو بكر معه، فقال وهو بالمدينة: إني أحب أن أطوف الليلة في المدينة، فانظروا لي رجلا يعرف منازل أهل المدينة ومساكنها ورباعها وطرقها وأخبارها، يكون معي فيعرفني ذلط! فقالوا له: ما تعلم أحدًا أعلم بذلك من أبي بكر. فأمر بالحضور، وخرج المنصور على حمار يطوف معه في سكك المدينة، ويسأله عن ربع ربع وسكة سكة، فيخبره لمن هو ولمن كان، حتى مر ببيت عاتكة، فسأل عنه، فقال: ياأمير المؤمنين، هذه بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص " من الكامل ":
يابيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
وأنشده القصيدة حتى بلغ قوله:
وأراك تفعل ما تقول ومنهم ... مذق الحديث يقول ما لايفعل
فقال له المنصور: ويحك ياأبا بكر وفي الدنيا أحد يعد ولاينجز ويقول ولايفعا! قال: نعم، ياأمير المؤمنين، إذا نسي. قال: فضحك المنصور وقال: صدقت! أذكرتني ماكنت وعدتك، لاجرم والله لاتصبح حتى يأتيك ذلك! قال: فلم يصبح حتى وجه بجارية نفيسة بفرشها وأثاثها ووصلنا بمال.
وقال الهذلي: طلبت اإذن على المنصور، فوعدت بيوم أدخل عليه فيه، فوافيت ذلك اليوم، فوجدت أبا حنيفة وعمرو بن عبيد قد سبقاني، فقعدنا قليلًا، ثم خرج الآذان فأذن، وكنت هيأت كلامًا ألقى به أبا جعفر المنصور، وهيأ أبو حنيفة مثل ذلك. فلما رأيناه أرتج علينا وكان جهدنا أن أقمنا التسليم، فأومأ برأسه إلينا، فجلست أنا وأبو حنيفة في شق، وجلس عمرو بن عبيد في شق. فأقبل أبو جعفر ينكت في الأرض وقد طأطأ رأسه، فرفع عمرو رأسه فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم، والفَجر، وَليالٍ عشرٍ، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر، ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العتناد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد)، ياأمير المؤمنين، بالمرصاد لمن عمل مثل عملهم أن ينزل به مثل مانزل بهم، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإن وراءك نيرانا تأجج من الجور، ما يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ. فقال: ياأبا عثمان، إنا لنكتب إليهم في الطوامير فآمرهم بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، فإن لم يفعلوا فما عسى أن نصنع؟ فقال: ياأمير المؤمنين، مثل أذن فأرة يجزيك من الطوامير، الله تكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم في حاجة الله فلا تنفذ، إنك والله لو لم ترض من عمالك إلا بالعدل إذن لتقرب إليك من لانية له فيه! ثم ذكر سليمان بن مجالد ومعارضته لعمرو. فقال له عمرو: ياابن مجالد، خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته! ياأمير المؤمنين، إن هؤلاء اتخذوك سلمًا لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإنك ميت وحدك ومبعوث وحدك ومحاسب وحدك، لن يغني عنك هؤلاء من الله شيئًا! فأطرق أبو جعفر يفكر في كلامه، ثم دعا خادمًا فسار بشئ، فأتاه بمنديل فيه دنانير، فقال: ياأبا عثمان، بلغني ما الناس فيه من الشدة، فاصرف هذه حيث شئت! قال: ماكنت لآخذها! قال: لتأخذنها! قال: لاآخذها! قال: والله لتأخذنها! قال: والله لاآخذها! فقال له المهدي: أيحلف أمير المؤمنين لتأخذنها وتحلف أنت لاتأخذه؟! فقال عمرو: ياأبن أخي، أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني! فقال أبو جعفر للمهدي: اسكت فإن عمك بنا واثق. قال: فسكت وقعد قليلًا، وقمنا، فقلت لأبي حنيفة عند خروجنا: عدّ أنا نسينا ما أردنا من الكلام، فكيف ذهب عنا أن نجيء بما جاءؤ به عمرو من كتاب الله؟! أبو بكر الهذلي - اسمه سلمي بن عبد الله بن سلمي - مات في سنة تسع وخمسين ومائة.
١٢ - ومن أخبار عيسى بن عمر الثقفي
1 / 16