ولكل إنسان في الحياة هدف ومتجه، وما كان وجدي ليفكر مطلقا أن يكون صاحب مكانة في الحياة العامة، وإنما كان هذا المجتمع بالذات هو غايته وهدفه، حتى شهادة الحقوق التي حصل عليها كان يعتبرها وسيلته إلى هذه المجتمعات وليست وسيلته - لا قدر الله - إلى قضاء؛ واقفا كان هذا القضاء أو كان جالسا.
وحين شب وجدي عن الطوق وعرف قصة ميلاده تقبلها في هلع أول الأمر، ثم أمعن النظر فيها فإذا هو يخرج بها إلى رأي استقر عليه وارتاح له، لقد أعجب بأمه غاية الإعجاب؛ فليس عليها من بأس في رأيه أن تصل بينها وبين أبيه عزت وهو من هو جمالا، لقد رآه وقد زحفت الغضون إلى وجهه ولكنها لم تستطع أن تعدو على جماله، وحين مات عزت فكر أن يسير في جنازته ولكنه خشي أن يتغامز عليه المشيعون، فاكتفى بدموع تحدرت من عينه في طي الكتمان، ولم يكن يدري يومذاك لماذا يبكي؛ فأبوه عزت له أبوة أساءت إليه أمام الناس ثم هو لم يشعر منه بحنان، وجمود الأبوة يجعل الأبناء يكرهون آباءهم أكثر من كراهيتهم لأعدائهم، فالمفروض أن العدو لا يرحم، والمفروض أن الأب رحمان وعطوف وحنون كله إشفاق، وقلب يخفق بابنه، وروح ترفرف حيث يتحرك أبناؤه.
فإذا لم يرحم فقد خرق نواميس البشر، وإذا قسا بغير عدالة فقد قلب مواقع الأفلاك، أما إذا جحد ابنه فكان عنده هملا لا وجود له فهو قد مزق أستار البشرية وانحط عن درك الحيوان.
ولكنه بكاه.
كان وجدي إذن يرى أن لا بأس على أمه أن تقيم بينها وبين أبيه عزت صلة، فشأن السيدة المطلقة أن تبحث عن سند لها في الحياة، وإذا لم يتوفر السند الشرعي فإن وجدي يرى أن لا بأس عليها أن تبحث عن سند غير شرعي، فإذا كان جميلا فالعذر إذن ممهد لها.
ويرى وجدي أن أمه كانت ذكية حين ألحقت نسبه إلى عبد المحسن باشا؛ فهي تختار لابنها. ومن حقها أن تختار له الأب الأحسن. ومن أحسن من عبد المحسن باشا؟ وجعلت الطفل شرعيا.
وليقل الناس بعد ذلك ما يقولون. لقد فاز بناء على حكم القضاء بأب باشا وبثروة جديرة بالبشاوات. وهكذا استطاع وجدي في قدرة لا تتأتى إلا لنوع خاص من البشر أن يعجب بأمه لأنها ذكية ويعجب بأبيه الذي صنعته له المحكمة لأنه باشا وبأبيه الذي فرضته عليه الحقيقة والطبيعة وأحاديث الناس؛ لأنه جميل ولأنه قادر على أن يجعل النساء يحببنه، فوجدي في نظر نفسه يجمع المجد من ثلاثة أطراف، إن كان أهل المجد، والشاعر الذي تحدث عن أطراف مجده يجمعون المجد من طرفين اثنين على أكثر تقدير، والغالبية العظمى إن كان لهم مجد يتفاخرون به فهو لا يزيد عن طرف واحد.
وخاض وجدي المجتمع بهذه الثقة الهائلة بنفسه وبميلاده، وكثيرا ما كان يغبط نفسه؛ لأن الكثيرين ممن يخوضون هذا المجتمع يحتاجون إلى جهد جهيد من ثقافة خاصة، ودربة في التعامل وممارسة لهذه الحياة، واختلاط بالأسرات، وزمن طويل حتى يتحقق لهم آخر الأمر شهرة بين أبناء هذه المحافل. أما هو فقد وجد شهرته سبقته إلى محافل هذا المجتمع جميعها، ولم يكن يضيق حين تعرفه بعض السيدات بأخرى قائلة: «وجدي ابن نجاة.» مقنعا نفسه أن الأم صديقة السيدات، ومن الطبيعي أن ينسب إليها عندهن، ولا يريد وجدي، أو هو لا يهمه، أن يتشكك في السيدة التي تقدمه على هذه الصورة أنها إنما تتخلص من حيرة بين الحقيقة القضائية والحقيقة التي تعرفها هي ويعرفها الجميع، ويؤكدها هذا الشبه بين الابن وبين أبيه الحقيقي.
قالت له ناهد: أظن أنني كبرت، وأنت أيضا، على هذا اللف والدوران. - أي لف ودوران؟ - وكبرنا أيضا على الاستعباط. - والنتيجة؟ - قل أنت ماذا تريد. - ما دمنا قد وضعنا شروطا للعبة، فيجب علينا أن نلتزم بها جميعا. - حسنا، لن ألف معك. أهي محاولات منك لاجتذابي إليك، أم أنت جاد في هذا الغزل، وهذه النظرات التي أصبح الجميع يتندر بها؟ - هذا يتوقف على معنى الجدية. - لا يختلف اثنان في معناها. - ولكن نحن قد نختلف. - أمختلفان نحن عن الناس؟ - المؤكد أنني لم أسمع أن مثل هذا الحديث دار بين اثنين قبلنا. - لأنك دائما تدير أحاديث أخرى. - وأسمع أحاديث أخرى أيضا. - استطعت في فرح هالة فقط أن تقيم علاقة بينك وبين بهيرة. - أما زلت تذكرين؟ - أنا لست مثل بهيرة؟ - هذا مؤكد. - أنا أعرف أنك طلبت أن تتزوج بهيرة. - أمي التي طلبت. - لم يكن حبا إذن؟ - بداية استلطاف. - والذي تفعله معي الآن؟ - ماذا تريدينه أن يكون؟ - أنا لا أمانع في الزواج. - وأنا أرحب به. - على شرط. - كل الشروط مقبولة. - أن يعيش كل منا بالطريقة التي تروق له. - أمعقول أن تقولي هذا؟ - هذا ما سأفعله. - في استطاعتك أن تفعليه دون أن تذكريه. - لا أحب الخداع. - ربما كنت أحبه. - لعلك احتجت إليه. - كل الناس تحتاج إلى بعض الخداع. - ولكن بعض الناس تحتاج إلى الخداع الدائم. - لقد قبلت الشرط.
ولم يتردد فكري بك في قبول خاطب ابنته، رغم أنه يعرف كل شيء عن تاريخ حياته، بل إن وجدان هانم رحبت بوجدي؛ فقد كان الأب والأم كلاهما يخافان كل الخوف ألا تتزوج ابنتهما بعد أن أصبحت حديث المجلات وأبواب المجتمع، وكان فكري بك في أخريات أيامه، وكان يخشى كل الخشية أن يترك ابنته بلا زوج، فيزداد سفورها على الحياة. وهكذا تم الزواج في سرعة، واستقلت ناهد ببيتها، ولم تعد رقابة أمها أو أبيها تلاحقها.
Página desconocida