أصبح الرجل الذي لم يهتم بابنه في بواكير الشباب، فجعله يخرج إلى الحياة مثقفا ثقافة امرأة جاهلة أو ثقافة أمه على أكثر تقدير؛ يحاول اليوم أن يثقف ابنة هذا الابن أعظم ثقافة، بل إنه في تعجله للأيام وفي خشيته أن تعاجله بالنهاية قبل أن ينفذ لابنه وحفيدته ما يهفو إليه، راح يحاول محاولات تدعو إلى السخرية أن يثقف يحيى نفسه وهو على كتف أمه أو كتف مربيته.
ويوم تصبح سن هالة صالحة لأن تذهب إلى المدرسة، يذهب هو شخصيا معها إلى مدرسة السكركير، وتشعر الراهبات بأهمية الطفلة عند جدها، ويقصد هو أن يؤكد هذا الشعور، فيذهب بعد ذلك كل أسبوع ليكون على متابعة تامة لتقدم حفيدته في الدراسة.
وتدرك سهير أن في إرضائها لهالة إرضاء للباشا فتحرص على أن تدللها دائما. ولم تكن سهير غبية، فلا يفوتها أن تجعل الطفلة تخاف جدها حتى لا تكون حياتها كلها تدليلا، ويحمل الباشا مسئولية التأديب بقلب خافق، ولكنه يدرك أنه لا بد من ذلك لتكون هالة كما ينبغي لها أن تكون.
ويوم يصبح يحيى صالحا للذهاب إلى المدرسة يقضي الباشا ليلة بيضاء، فلا يزوره النوم حتى بواكير الصباح.
لقد عاش حتى دخل يحيى إلى المدرسة، فما الذي يخبئه الغد لهذا الطفل؟ وأي مصير يلقى إليه إذا هو ذهب إلى لقاء ربه قبل أن يشب الطفل ويصبح جديرا بمواجهة الحياة مواجهة جديرة بالحياة وبإنسان الحياة؟ لقد كان شبح عدلي يخيف زكريا باشا، فهو يخشى أن يصبح الأخ مثل أخيه، بل أشد ما يخشاه أن يصبح عدلي مسئولا عن يحيى ويحيى يعد قضيبا لينا يسهل تشكيله، وويل ليحيى إذا شكله أخوه على شكله هو.
إن سهير طيبة سمحة النفس، وقد ينفع هذا في أن يجعل يحيى نقي الضمير قريبا إلى نفوس الناس، ولكن هذا بالتأكيد لا ينفع يحيى في أن يكون مثقفا؛ فليست سهير على شيء من الثقافة. ليتها كانت مثل خديجة! إن راشد لا شك مطمئن على ابنه، فقد جاء به وهو في سن باكرة، ثم هو لا يخشى عليه الغد إذا اختار هذا الغد أن يسلك راشد طريقه إلى الله. طالما نادينا بأهمية تعليم المرأة وظنوا بنا الظنون، وحسبوا أننا بما ندعو إليه نحاول أن نتقرب إلى الغرب في عماية ودون نظر إلى ديننا وتراثنا، وأنا لا أعرف في الدين شيئا يمنع تعليم المرأة، بل إن ديننا أول دين جعل لها كيانا وذمة مالية مستقلة عن ذمة الزوج.
أهذا وقته؟ من ليحيى في غده؟
لقد جاوزت العمر، وأنا أعلم أني اليوم أقف على مشارف الجانب الآخر من الحياة.
أرأيت؟ لا يستطيع العقل أن يحل كل المشاكل، لا بد من هذه الغرفة المضيئة من الإيمان لنحيا بها، فلولاها لجزعت أيامي كلها، وقضيت ما بقي لي من الحياة مجنونا ملهوفا على مستقبل ابني هالعا من الغد، وحينذاك أبدد أيامي الباقية في الخوف، ويسلمني الخوف إلى سوء الرأي. ليس لي إلا أن أكل الأمر إلى الله، والموت والحياة بيده، وبهذا الموت أو الحياة يتحدد مصير ابني يحيى وحفيدتي هالة. إذن ، فهل نحن مخيرون أم مسيرون؟ نحن لا نتحكم في مولد أو موت، وإذن؟!
ما بين هذين نحن فيه مخيرون، ومصير يحيى ألا يرتبط ارتباطا وثيقا بموتي وحياتي؟ أهو بعد هذا مسير أم مخير؟
Página desconocida