لقد زار راشد العالم أجمع، ولكن شيئا لم يزلزل كيانه جميعا كما زلزل في رحاب الله وفي حضرة النبي الأعظم، ليس متصوفا وإنما هو مؤمن، فما هذا الذي لقف نفسه جميعا وهزها، فانتفضت كشجرة في بواكير حياتها تناوحتها ريح عاتية تقتلع شم الأشجار وعواليها، ولكن العجيب أنه أحس شجرته ازدادت ثبوتا في سموات الإيمان وفي أحضان الخلود.
أحس أنه يريد أن يذوب تخشعا وحمدا لله أنه مؤمن، فبهذا الإيمان تفجرت في نفسه هذه الإشعاعات النورانية فعانق نوعا علويا من السعادة، لم يعرفه في أية لحظة من لحظات حياته، عربيدة كانت هذه اللحظات، أم لحظات مؤمنة قانتات.
مساكين أولئك الذين لا إله لهم ولا دين ترسو على شواطئه الآمنة الجازعات من أيامهم، والهالع من مضطرب حياتهم، يقطعون حياتهم هباءة هائمة، تقطعت أواصرها بأصولها، وانعدمت طرقها إلى المستقبل، لا تدري من أين ولا تدري إلى أين، باختيارها ألقت بنفسها إلى الضياع، فشمل الضياع ماضي حياتها ومستقبلها وما بعد المستقبل.
ودع راشد وخديجة الأراضي المقدسة، واستقبلتهما على الباخرة جماعة من الأصدقاء.
وحين استقر بهما المقام في بيتهما بالقاهرة أقاما حفلا كبيرا، دعوا إليه من تعودا أن يدعوهم، ولكن الرهط المدعو فوجئ بشيئين، لو لم يكن الداعي هو راشد لكانت المفاجأة أعظم وطأة وأشد غرابة؛ لقد أقام راشد بمناسبة حجه وحج وزوجته إلى بيت الله الحرام حفلا غنائيا أحيته أم كلثوم، والأعجب من ذلك أن الخدم داروا في الحفل بكئوس الويسكي والكونياك وكل ما تعود راشد أن يقدمه في ولائمه، الشيء الجديد الوحيد الذي خجل أن يعمله في يومه هذا أن يشارك أصدقاءه في شرب الخمر.
الفصل الثالث عشر
انقلب زكريا باشا إلى إنسان آخر بعد أن وهب الله له يحيى، وجاءت حفيدته هالة لتعيش معه بعد أن سافر أبواها إلى سويسرا، ليعمل عدلي مهندسا في شركة عالمية للكهرباء.
لم يصبح زكريا باشا ذلك الرجل الوقور الذي لا ينطق كلمة إلا بعد أن تمر بمئات المرشحات في عقله الكبير وثقافته الواسعة، التي جمعت ثقافة السياسة والقانون والأدب والمجتمع جميعا في بوتقة واحدة، هي رأس ذلك الرجل.
أصبح الآن لا يغادر بيته فرحا بعبط الطفل الوليد، وسذاجة الطفلة التي تتحطم على شفتيها الكلمات.
والأعجب من ذلك أنه حين يجلس في مجتمعه لا يفوته أن يذكر شيئا من ضحكات ابنه أو بكائه، وشيئا آخر من انقلاب الكلمات إلى ألغاز على لسان حفيدته.
Página desconocida