ذلك لأن نيتشه قد حاول أن يثبت أن مراتب الناس الحالية في المجتمع هي ذاتها مراتبهم الطبيعية؛ فالثروة في رأيه مصدر لعراقة الأصل: «إن الثروة تولد بالضرورة أرستقراطية في الجنس؛ إذ تمكن من اختيار أجمل النساء، ومن جلب خير المربين، وهي تضفي على الرجل صفاء، وتمنحه الوقت الذي يتعهد فيه جسمه بالرعاية، وأهم من ذلك كله، تعفيه من العمل البدني الثقيل .»
6
وهكذا يولد ازدياد نصيب المرء في الثروة - أعني في مظاهر النظام الاجتماعي - ارتفاعا في مرتبته «الطبيعية». ولم يحاول نيتشه أن يتساءل عن الوسائل التي تكتسب بها تلك الثروات في كثير من الأحيان، بل يبدو أنه كان يؤثر أن تكون تلك الثروة مكتسبة بالوراثة، حتى لا يضطر المرء إلى أن يعمل في سبيلها كثيرا. وهكذا يكون المثل الأعلى عند نيتشه هو تلك الطفيليات البشرية التي لا تكد ولا تشقى، والتي تجد كل شيء ميسرا أمامها منذ مولدها، والتي هي في واقع الأمر مصدر كل انحلال وتدهور في المجتمع.
ومن العجيب حقا أن نيتشه كان يؤمن بالوراثة إيمانا عميقا، برغم مراجعته لمعظم الأفكار التقليدية وشكه في أكثرها تأصلا في الأذهان. فإذا ما ووجه بمعترض يسأله: هل يستحق أولئك النبلاء الحاليون، أن يكونوا نبلاء بحق؟ وهل هم جديرون بالمكانة التي يشغلونها مع أن كثيرا منهم إنما احتلوا هذه المكانة بالوراثة فحسب؟! كان جوابه هو أن عراقة النسب مصدر حقيقي للفخر: «فللمرء أن يفخر بحق إذا كانت لديه سلسلة متصلة من الأسلاف الأمجاد تستمر حتى الأب ... ولو انقطعت هذه السلسلة مرة واحدة، ووجد سلف واحد فاسد، لضاعت عراقة النسب. وعلينا أن نسأل ذلك الذي يتحدث عن عراقة نسبه: ألا يوجد ضمن أسلافك رجال أشرار، جشعون، متلافون، فاسدون، قساة؟ فإن أجاب بالسلب عن علم ويقين، فعلينا أن نسعى إلى صداقته.»
7
وإن المرء لتتملكه الدهشة حين يرى تلك العقلية الدقيقة تتردى في مثل هذه الأخطاء والأوهام الخرافية عن الأصل والنسب، وكيف أنهما يؤثران على المرتبة الحالية لأفراد الإنسانية.
والظاهرة التي يجدر بنا ملاحظتها في هذا الصدد، هي مدى تأثر نيتشه بالمثل العليا اليونانية. فنحن اليوم نعيب على أفلاطون وأرسطو تبريرهما للرق من أجل ضمان مستوى رفيع في الحياة للأحرار من اليونانيين، ولكن نيتشه يعود إلى نفس الفكرة، في النص الذي أكد فيه أن الثروة مصدر من مصادر الارتفاع بالمستوى الطبيعي؛ إذ «تعفي المرء من العمل البدني الثقيل.» وهكذا تكون الإنسانية الرفيعة في نظره هي الإنسانية التي لا تعمل، والتي تحيا حياة مترفة خلت من كل مظاهر الجهد والعناء. ولما كان من المحال أن تسير الإنسانية كلها على هذه الوتيرة، فلا بد أن توجد طبقة أخرى توفر للأفراد الممتازين وقتهم وجهدهم؛ أعني أنه لا بد من نظام الرق في صورة من صوره. وبالفعل نجد نيتشه يصرح بهذه النتيجة الضرورية، فيقول: «لا يمكن أن تقوم حضارة رفيعة إلا حيث توجد في المجتمع طبقتان متميزتان؛ طبقة العاملين، وطبقة المترفين الذين يمكنهم أن يعيشوا دون أي عمل، أو بتعبير أقوى: طبقة العمل الإلزامي وطبقة العمل الحر ...»
8
وفي موضع آخر يقول صراحة: «إن كل ارتقاء بالنوع الإنساني كان حتى اليوم من عمل مجتمع أرستقراطي، وسيكون كذلك دائما؛ أعني مجتمعا يؤمن بالتفاوت الكبير في المراتب بين الإنسان والإنسان، وبتباين قيمة كل منهم، ويرى الرق بأي معنى من معانيه ضرورة محتومة.»
9
Página desconocida