وإذن فنيتشه نفسه كان يؤمن بذلك المثل السياسي الأعلى؛ وأعني به أن تزول التفرقة بين الحكومة والشعب ولا يغدو أحدهما طرفا أرفع وأقوى من الآخر. ولا جدال في أن النتيجة الضرورية لهذا المثل الأعلى هي أن يزول التعارض بين تدخل الدولة وبين نمو ملكات الفرد، وبالتالي لا تعود الاشتراكية - مفهومة بهذا المعنى - عقبة تحول دون خلق أفراد عظام.
والحق أن الحملة على كل حركة اجتماعية ذات صبغة عامة، بحجة أنها تتعارض مع مبدأ الفردية، هذه الحملة تنم عن قصور ذهني شديد. ومن العجيب حقا أنها لا تزال تتردد حتى يومنا هذا، فلم يكن الأمر مقتصرا على نيتشه وحده، بل ما زلنا نصادف أمثلة متنوعة لتلك الحجة التي يتذرع بها أنصار الفردية المزعومة. ولسنا ندري ما الذي كان يقصده نيتشه - ومعه أنصاره هؤلاء - من كلمة الفرد. أيستطيع أحد بعد كل هذا الشوط الهائل الذي قطعته الإنسانية في مضمار العلاقات الاجتماعية، أن يتصور الفرد على أنه كيان منعزل يمكنه أن ينمو وحده، ويزداد نموه بقدر استقلاله عن المؤثرات المحيطة به؟ الحق أن التجربة الاجتماعية الطويلة التي مرت بها البشرية لا تسمح على الإطلاق بمثل هذا الرجوع إلى الوراء، ولا جدال في أن أنصار الفردية المطلقة إنما يبنون كل آرائهم على أساس خيالي، ولو تعمقوا قليلا في التفكير لأدركوا استحالة ما يطلبون.
ولنسأل نيتشه في هذا الصدد: ألم يكن يرى في الاتصال «التاريخي» بين مختلف الأجيال البشرية عاملا من عوامل تعميق روح الفرد؟ لقد أكد نيتشه مرارا قيمة الروح التاريخية، وطالما نعى على معاصريه افتقارهم إليها، وكان في تفكيره يستلهم الثقافات القديمة في كثير من الميادين، بل إن تفكيره الاجتماعي بأسره، كما سنرى فيما بعد، إنما كان يحلق في سماء العصر اليوناني وحده؛ فنيتشه إذن قد وجد في الاتصال «التاريخي» مع الأجيال البشرية المختلفة غذاء دائما لروحه، ولم يجد فيه حائلا دون نمو ملكاته الفردية، بل كان هو الوسيلة الكبرى لهذا الاتجاه، فلم ينكر إذن على الاتصال الاجتماعي «في العصر الواحد» هذه الصفة؟ الحق أن الأمرين لا يختلفان على الإطلاق، فما دمنا قد اعترفنا بأن اتصال ذهن الفرد بغيره من الأذهان عن طريق العودة إلى الثقافات البشرية الماضية يعمق هذا الذهن ولا يؤدي مطلقا إلى تشتيته أو إضفاء طابع السطحية عليه؛ فعلينا بالمثل أن نعترف بأن اتصال ذهن الفرد بغيره من الأذهان عن طريق التفاهم المتبادل داخل المجتمع الواحد يؤدي إلى نفس النتيجة؛ ذلك لأن الذهن الفردي لا ينمو تلقائيا، وإنما يزداد عمقا كلما ازدادت الأشعة التي تتلاقى فيه. وليس معنى ذلك أن يكون الذهن سلبيا، يتلقى محتواه من الخارج فحسب؛ إذ إنه يؤدي مهمة أساسية، هي تنظيم هذه الأشعة، والقدرة على تكوين مركب متجانس منها. وعلى ذلك. فليس مما يحط من قدر الفرد مطلقا أن تزداد علاقاته الاجتماعية عمقا، وأن يتداخل ذهنه في أذهان الجماعة المحيطة به على الدوام، وما كانت المذاهب الاجتماعية التي نقدها نيتشه - بحجة افتقار الفرد إلى العمق فيها - ما كانت إلا محاولة لإكساب الذهن الفردي مزيدا من العمق عن طريق جعله مركزا تتلاقى فيه أشعة هائلة من كل أطراف المجتمع المحيطة به. (4)
والحجة الأخيرة في نقد نيتشه للاشتراكية تستمد من فكرة التفاوت الطبيعي بين الأفراد؛ فالاشتراكية تبعث بين الناس نوعا من المساواة المصطنعة؛ إذ إن الطبيعة لا تعرف إلا التفاوت في المرتبة
Rangordnung ، وكل محاولة لجعل الناس متساوين هي محاولة مضادة للطبيعة، ويؤكد نيتشه هذه الحجة على نحو يحس معه المرء بأن يراها بديهية لا تناقش، ولكن هل هي بالفعل تحمل هذا الطابع البديهي؟
علينا أولا أن نتساءل عن ماهية هذا التفاوت بين الناس: هل هو طبيعي، أم اجتماعي؛ إذ إن الإجابة على هذا السؤال هي التي تقرر مصير كل اعتراضات نيتشه على الاشتراكية، فهو حين يؤكد أن الطبقات الدنيا هي الأقل إحساسا بسوء حالها، يؤمن ضمنا بأن هذه الطبقات هي الأحط ذهنيا. والذي لا شك فيه أن نيتشه لم يحاول أن يفكر تفكيرا عميقا في هذا السؤال، وهو: هل يناظر التفاوت القائم بين الناس في مجتمعنا تفاوتا آخر في طبائعهم؟ أعني هل كان أقل الناس نصيبا من وسائل العيش والنفوذ في المجتمع، هم دائما أقلهم نصيبا من المواهب الطبيعية؟ الذي لا شك فيه هو أن نيتشه قد أجاب عن هذا السؤال بالإيجاب، وحاول أن يبرر لنفسه وجود تلك الهوية بين النظام الاجتماعي القائم والنظام الطبيعي تبريرات شتى. وهنا نجد ذلك الأثر العميق الذي تركه التفكير الألماني التقليدي في السياسة ينطبع على ذهن نيتشه دون وعي منه، وذلك في إيمانه الضمني بأن التفاوت الاجتماعي القائم هو في الوقت نفسه تفاوت في الطبيعة بين الأفراد، أي بأن ثمت قوة أعلى من الإنسان (يسميها نيتشه بالطبيعة، ويسميها هيجل
Hegel
وفشته
Fichte
الله) هي التي فرضت على المجتمع أوضاعه الحالية.
Página desconocida