الكاس الأولى:
كان لي صديق أحبه وأحب منه سلامة قلبه وصفاء سريرته وصدقة ووفاءه في حالي بعده وقربه، وغضبه وحلمه، وسخطه ورضاه، ففرق الدهر بيني وبينه فراق حياة لا فراق ممات، فأنا اليوم أبكيه حيًّا أكثر مما كنت أبكيه لو كان ميتا، بل أنا لا أبكي إلا حياته، ولا أتمنى إلا مماته، فهل سمعت بأعجب من هذه الخلة الغريبة في طبائع النفوس.
علقت حبالي بحباله حقبة من الزمان عرفته فيها، وعرفني ثم سلك سبيلا غير سبيله، فأنكرته وأنكرني حتى ما أمر بباله؛ لأن الكأس التي علق بها لم تدع في قلبه فراغًا يسع غيرها وغير العالقين بها، وربما كان يدفعني عن مخيلته دفعًا إذا تراءيت فيها؛ لانه إذا ذكرني ذكر معي تلك الكلمات المرة التي كنت ألقاه بها في فتحة حياته الجديدة، وما كان له، وهو يهيم في فضاء سعادته التي يتخيلها أن يكدر على نفسه بمثل هذه الذكرى صفاء هذا الخيال، ثم لم أعد أعلم من أمره بعد ذلك شيئا جديدًا؛ لأن حياة
1 / 55